حسام سلامة
كثيرةٌ هي الأحداث والشخصيات التي أثّرت في مسار التاريخ. ولكن لم يتسن لمادةٍ أن غيّرت حركة التاريخ كما فعل الخبز، فهو أحد كَتَبة وصنّاع التاريخ الإنساني في أزمنة شتى. فهذا المنتج الكوني الذي وُلِد قبل معرفة الإنسان للزراعة وأثناء تَعَرُّف هذا الأخير على نفسه، كان رفيقه في دروب تحضّره البطيء. فالخبز برزخ العبور من مرحلة الهمجية إلى مرحلة الحضارة والأنسنة.
سنابل القمح الأولى أغوت الإنسان حُبّ العَيْش، ورقصة سنابله القديمة عَلّمته معنى الفضاءات المشرعة على درس الحرية الأول. عَلّمَهُ القمح كيف يصنع خبزه، وكيف يعيد تشكيل نفسه في تقمصٍ لا فكاك منه، ليدخلا في رابطة وجودية ستؤثر على موقع الإنسان في هذا العالم.
والإنسان الخُبْزَوِي، إنْ صحَّ التعبير، متورطٌ في كلّ أشكال الحياة. فإذا كان يحبّ الخبز ويكره السياسة فهو متورطٌ في السياسة. فمَن يصنع الخبز يصنع السياسة، فهو أحد أسمائها إنْ جاز ذلك. والخبز مادة كل شيء: الحب والشِعر والثورة والسياسة والصداقة والمودة والواجب والالتزام والحياة والموت. ولا غرابة في أن يكون (العِيش/العَيش) أحد أسماء الخبز في بعض الثقافات، فبِه نعيش ومنه تُعْرَف نوعية وجودة عَيش الحياة: وما نحن سوى خُبْزَنا، نسوءُ فيسوء، يُقهَر فنثور. الخبز مرآة ذَواتنا، إنَّه كائنٌ حي موازٍ لنا.
الخبز الأول.. خبز القدماء
المتأمل في مسيرة الخبز الأولى سيندهش من احتفاء القدماء به احتفاءً وصل حدَّ التقديس، فرأوا أنَّ الحياة عسيرة دون حضوره، وبغيابه لا يمكنهم العبور في رحلتهم إلى الحياة الأخرى. وهذه الثقافة الخُبْزَويّة ما كان لها أن تكون لولا فِطنة الإنسان القديم لمعنى ومكانة خبزه وتطابقهما معًا.
في أيِّ أرضٍ وُلد الرغيف؟
لا يمكن الجزم حول المكان الذي وُلِدَ/خُبِزَ فيه أول رغيف في التاريخ. فمن المؤرخين من يرى أن ولادة الخبز كانت في مصر القديمة، وآخرون يرجّحون أن تكون سومر العتيقة الأرض التي أبصر فيها النور، ومنهم من يعتقد أنَّه لوّح بيديه من فرن طابونٍ ببيت لحم “بيت الخبز”، ولكن هناك “رغيف الأردن” العتيق الذي يرجع إلى 15 ألف عام مضت، والمُكْتَشف حديثًا في شمال شرق الأردن والمنتمي للعصر النطوفي، هذا العصر الذي انطلق من فلسطين ليشمل لاحقًا بلاد الشام وأجزاء من مصر. وآخرون يرون في الأناضول ووسط آسيا من الأماكن المحتملة لوجوده الأول. ولكن يبدو أنَّ الرغيف وُلِدَ في فَلَك هذه الدائرة الكبيرة، دائرة نشوء الكتابة الأولى.
والحقيقة يصعب تسليط الضوء ــ في هذا المقال ــ على كلّ مسيرة الخبز وأطواره وتاريخيته، كما لا يمكن الإحاطة بكلّ نصوص الأقدمين حوله ونظرتهم له وفلسفتهم عنه، وسأكتفي هنا بعرض لمحة سريعة عن نظرة المصري القديم ــ على سبيل المثال ــ إلى خبزه، باعتبار أن الحضارة المصرية القديمة من الحضارات التي أولت موضوع الخبز أهميةً قصوى، الأمر الذي أثَر في بعض الديانات وبعض مفاهيم الثقافة الإنسانية السائدة.
مصر القديمة
يكاد لا يخلو هرم أو معبد أو مسلّة أو قبر فرعوني من ذِكر الخبز، ولأنّه ملح الحياة لدى المصريين القدماء، أوصلوه مع سنابله إلى حدَّ التقديس. واعتقدوا أنَّ الإلهة “إيزيس” ــ إلهة الأمومة والسحر والخصوبة ــ هي التي اكتشفت حبَّة القمح، والإله “أوزيريس” ــ إله الموتى والنباتات ــ هو الذي علَّمَ الناس كيفية زراعة القمح وصنع الخبز.
وقد كان لِوَلَه المصريين بالخبز وحبّهم الشديد له أنْ أُطلِقَ عليهم لقب “أَكَلةُ الخبز”، هم الذين تفننوا في صناعته وإعداده وتنوّع أشكاله. وكيف لا، فمصر القديمة كانت تُعَدُّ أكبر مُصدِّرٍ للقمح على مستوى العالم القديم، ففي وقتٍ من الأوقات كانت تُعتبر “سلة غِلال العالم”، فشهرة خزائنها سجلها الدين والتاريخ وتحدث عنها الرواة.
يقول أحد حكماء مصر القديمة: “لو أنَّ ما تعجنه يداكَ كان ذهبًا أو قوالبَ من الفضة لمَا أكلهُ الناس، لأنَّهم لا يأكلونَ الذهبَ ولا الفضّة، وإنَّما يأكلونَ القمحَ، وهو الأفضل من الأحجار الكريمة”.
كان المصري القديم أول مَن أضاف الخميرة إلى الخبز في التاريخ، هذه الإضافة التي أحدثت ــ في وقتٍ لاحق ــ بُعدًا رمزيًّا ودلالة دينية وثقافية في بعض الديانات والثقافات.
والخبز للمصري هو زاد الحياة والممات، فها هو “خبز البتاو” و”خبز تي” و”الخبز الشمسي” وغيرها الكثير من الأنواع ــ يُحصى أكثر من 100 صنف منه ــ تُقَدّم على مائدة المصري حال حياته، وعند موته لا بدَّ منه في رحلة بعثه إلى العالم الآخر. ففي عالم البعث والحساب يلعب الخبز دور التَقْدمة للآلهة وغذاء للميت المبعوث للحساب، فوفق هذه الديانة هو غذاء دنيوي وأخروي وإلهي في آنٍ معًا.
جاء في أحد النصوص من معبد دندرة: “أعددتُ الخبز لكَ. روحك تحضر عندما تشم رائحته”. وفي نص آخر: “الخبز الكبير، فتأكل منه، أنتَ قويٌّ بفضل هذا الخبز”. ونقرأ في نص آخر: “الخبز لك. هذا الخبز تمَّ إعداده وحشوه بمقدار رائع من العسل والعنب. رائحة الخبز الساخن تملأ أنفك. فلتأكل مع مَنْ يُحيطونَ بك ولتقتسم القرابين مع مَنْ حولك. أنتَ تمنح الحياة لمَنْ يُخلص لك”.
جاء في متون الاهرام :
“يا أوزير الملك
عين “حور” هذه قوية
سأهبُها لك لعلّك تكون قويًا
وحتى يهابك أعداؤك
خبز الصباح في أوانه”.
وفي آخر:
“أيُّها الملك انظر إلى الذي فعلته لكَ
لديكَ روح “آخ”، وليس لكَ فناءٌ
احرس نفسك لأنَّ حامل آنيتك وخبزكَ سيزدهر إلى الأبد
خُبزكَ في أوانه، خبزُ صلاتكَ في أوانه، وخبزكَ الساخن مع الملك كلّ يوم”.
في الحقيقة إنَّ نصوص أو متون الأهرام القديمة ملأى بالقطع الأدبية والأناشيد الشعرية الآسرة التي أتت على ذكر الخبز، كذلك الأمر في بردية آني أو كتاب الموتى الفرعوني والكثير من المعابد والجداريات الفرعونية.
ولكن لا يتسع المجال لذكرها ههنا.
الخبز والثورة
تكاد لا تندلع ثورة أو انتفاضة في التاريخ دون أن يكون الخبز حاضرًا فيها، فهو موجود كسبب وشعار في تلك الثورات والانتفاضات. فالخبز في وعي الشعوب يختزل الكثير من مقولاتهم وأفكارهم.
ولكن لماذا الخبز؟ إنَّ بساطة الخبز وحساسية مكانته مكمن قوته، فالإنسان بسيطٌ كخبزه، وحساسية الشعوب إزاء خبزها نابعٌ من تطابقها الوجداني معه. فقد حَمَّل الإنسان شيفرته وجوانيته لخبزه. وحين نقول “خبز” لا نعنيه كمنتج غذائي فقط، بل هو يشير إلى رمزية تراكمت فيه عبر التاريخ، وباعتباره مادة ثقافية ــ وجودية في آنٍ معًا.
ومن هنا يمكن أن نرصد كيف كانت الأنظمة المستبدة عبر التاريخ تلعب على وتر الخبز، هذه المادة الروحية التي أسقطت أعتى الممالك والجمهوريات.
لقد تجاهلت أنظمة حكمٍ كثيرة المعنى الحقيقي الكامن وراء الخبز وما يمثله للشعوب، وكان “لتجاهلها أو جهلها معناه” أحد أسباب سقوطها. وكأن كلمة السر هي قوة ورمزية الخبز البسيطة. “فالخبز يُخيفُ الدول العظيمة، على حد قول ألبرت زيليفو”. والإنسان العادي حسّاس تجاه خبزه فهو يعي أنَّه حين يُمسّ، يُمسّ هو في كل شيء.
لقد قامت الثورة الفرنسية عام 1789 وأحد دوافعها كان شحّ الخبز. هذا الشح في أحد معانيه يشير إلى شحّ الحرية وانعدام العدالة، ويدل على شح الحقوق الإنسانية الأساسية، مع كثرة الفساد والاستبداد.
والجدير بالذكر أنَّ فرنسا ــ قبيل الثورة ــ كان فيها ثلاثة أنواعٍ من الخبز: الخبز الأبيض لطبقة الأغنياء، والخبز البني للطبقة الوسطى، والخبز الرمادي لطبقة الفقراء.
وفي ظلّ هذا المجتمع أُرِيدَ للخبز أن يُفرِّق بين الناس لا أن يجمعهم، وهو نفسه كان يدفعهم لتغيير طبقاتهم.
وبعد الثورة الفرنسية تمَّ صناعة خبزٍ أُطلق عليه اسم “خبز المساواة” ونُظِرَ إليه كرمز للطموح والأمل. وحرصت حكومات الثورة أن يكون للخبز المكانة الأولى في برامجها.
ومن باب الإنصاف يجب القول أنَّ الملكة الفرنسية آنذاك ماري أنطوانيت لم تقل العبارة الشهيرة: “إذا كان الشعب بلا خبز، فليأكل فطائر البريوش”.
أما فلاديمير لينين “قائد الثورة البلشفية” 1917، فقد رفع شعار “الخبز والسلام والأرض للجميع” واعدًا مواطنيه الخبز والحرية. ولكن بعد تنظيره في: ما العمل؟ هل أدرك لينين ومَن جاء بعده، ما الخبز الذي كان يتطلع إليه الروس آنذاك؟
وبالانتقال إلى الأنظمة العربية بعد الاستقلال، نتلمس حِرص خطابها الرسمي على استخدام هذه التعابير: “لا مساس بالخبز” و”الخبز خط أحمر” و”لا لرفع الدعم عن الخبز” و”أنَّ القمح مخزونٌ استراتيجي وأنَّه بالخبز يمكن أن يكون هناك قرار حر” و”ما دام الخبز بخير، فكلنا بخير”.
هكذا نظرت هذه الأنظمة إلى خبز مواطنيها نظرةً شعاراتية ضيّقة، ولكنها مواربة، ولم تُكلِّف نفسها عناء فهم المعنى الكامن وراء خبزهم. فلو أنّها تفحصت تلك المقولات ـ الشعارات وأخضعت تجربتها في إدارة دولها وما وعدت به مواطنيها من حرية وديموقراطية وبناء دولة المؤسسات إلى النقد والمحاسبة، لأدركت أنَّ تلك المقولات ما هي إلا لتغييب إرادة الإنسان العربي وتهميش دوره في صناعة مصيره وبناء مؤسسات دولته.
ولكنَّ تلك الأنظمة كغيرها من أنظمة شمولية أخرى. لم تَعِ شيفرة الخبز، واعتبرته مجرد غذاء منزوع المعنى، ولم تفطن إلى أنَّ الخبز الذي انتظر الإنسان العربي أن يُخبز، لم يكن الخبز المأمول.
لقد كان المواطن العربي ينتظر من تلك الأنظمة “خبز العدالة” و”خبز الحرية” و”خبز الكرامة”، فخبز دون خميرة الحرية والكرامة والحقوق هو خبز مر ومسموم.
لم تخبز تلك الأنظمة لمواطنيها إلا رغيفها الرسمي وتعمّدت ربطهم به وجعلتهم يلهثون خلفه، صارفة النظر عمّا وراءه، ولم يكن ذاك الرغيف سوى رغيف التجويع العقلي والاستكانة والخنوع.
ولم تكن تدري تلك الأنظمة أنَّ خبزًا آخر كان عجينه يختمر ويُخبز على نار واعية هادئة، خبزٌ له شكل الحياة والإنسان، يستعيد فيه هذا الأخير خُبْزهُ المفقود الذي أُغتِيلَ وغُيِّب.. إنَّه خبز الثورة والانعتاق.
وإذا استعرضنا انتفاضات وثورات الخبز التي حدثت في العالم العربي في الخمسين سنة الماضية، نجد أنَّ هذه الانتفاضات كان شعارها الأول “الخبز” وما يختصره من مضامين وجودية وإنسانية ومعنوية وفكرية وثقافية ومعيشية ومطلبية.
ففي مصر اندلعت ” انتفاضة الخبز” في كانون الثاني/يناير عام 1977 ضد سياسات محمد أنور السادات التقشفية. وفي المغرب اندلعت “انتفاضة الخبز” أو “انتفاضة الكوميرا” عام 1981، والكوميرا هو نوع من الخبز الفرنسي. لتتجدد في البلد ذاته عام 1984 “انتفاضة الخبز والكرامة”. وشهد السودان انتفاضتي “إبريل” عام 1985، و”سبتمبر” عام 2013. وفي تونس نشبت ” انتفاضة الخبز ” في 29 كانون الأول/ديسمبر عام 1983. وكان للجزائر موعد مع “انتفاضة الخبز” عام 1988، وفي مظاهرات تلك الانتفاضة رَفَعت الجموع الغاضبة أكياس الدقيق الفارغة عوضًا عن العَلَم الجزائري. وفي الأردن حلّت ” ثورة الخبز” أو “هبة نيسان” عام 1989. و”ثورة الخبز” عام 1996. كما شهدت السنوات الأخيرة من حكم محمد حسني مبارك وتحديدًا عام 2008، أزمة تتعلق بنقص حاد في الخبز، الأمر الذي أدى إلى تزاحم المواطنين بأعداد كبيرة للحصول عليه، فيما سُمي بـ”طوابير العيش”. والحقيقة أن الأزمة لم تقتصر على تلك السنة فقط، بل شهدت سنوات مبارك إخراج المصري من الحياة العامة وحصر دوره في اللهاث وراء (أكل العيش).
ويأتي العام 2011 تتويجًا لكل انتفاضات الخبز العربية السابقة ولإرث طويل من نضال الشعوب العربية لتغيير نظمها الاستبدادية، في ربيع عربي ثوري هزَّ الجمهوريات “المَلَكِيّة”، تلك الأنظمة التي لم تع رسالة وشيفرة “الخبز” المقدسة التي أرسلها المواطن العربي مع كل ّانتفاضة سبقت ربيعه، ولم تعِ أنَّه حين كان يتظاهر من أجل خبزه إنما تظاهر من أجل كل القيم والحقوق المسلوبة والأموال المنهوبة.
تندلع ثورة الياسمين في تونس رافعةً شعار “خبز وماء وبن علي لا”، لتلحقها مصر في 25 يناير من ذات العام في ثورة عارمة رافعةً شعار “عِيش ـ حرية ـ عدالة اجتماعية”، (والعيش هو الخبز في اللهجة المصرية).
ولتلحق بهما في ذات العام 2011، كلّ من اليمن في 11 شباط/فبراير وليبيا في 17 شباط/فبراير، واحتجاجات المغرب في 20 شباط/فبراير، وسوريا في 15 آذار/مارس (10)، واحتجاجات الأردن في صيف 2018 التي كانت إحدى شعاراتها “الخبز كرامة”، والسودان في 19 كانون الأول/ديسمبر 2018، والجزائر في 22 شباط/ فبراير 2019، والعراق في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019، ولبنان في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، والاحتجاجات المحدودة في مدينة السويداء السورية في 16 حزيران/يونيو 2020 وفيها كَتَبَ المتظاهرون على رغيف الخبز “بدنا نعيش”.
إنَّه عِقد الثورات بلا منازع، ثورات غير مسبوقة في تاريخ العرب الحديث، تلك التي لم تندلع ضد محتلٍ خارجي بل ضد محتلٍ داخلي استحوذ على فضاءات الناس وسَطَا على قمحهم وأفسد خبزهم وقوتهم.
تلك الثورات التي رفعت المطلب ذاته: “رحيل الأنظمة”، وفيها كان الخبز حاضرًا أمام الرصاص والدم والتنكيل ورائحته تحاول دفع رائحة الإجرام والكراهية والطائفية.
لقد دفعت هذه الثورات ولا زالت أثمانًا باهظة وتراجيدية، لأنها قالت: لا لخبزكم المرّ.. لا لخبز العبودية والتجانس.
في حادثة عند مدخل مخيم اليرموك بدمشق، أثناء حصار النظام السوري له في 2013 وبِدء عملية التجويع الممنهجة، طلب أحد الضباط المتواجدين في المكان من رجلٍ سبعيني أن يُقلِّدَ صوت الكلب، كي يُفرج له عن ربطة خبزه، امتثل السبعيني بصوت باكٍ لذلك.
الجميع في تلك الليلة سَمِعَوا صوته، ذلك الصوت كان صهيل القمح فينا. ويُعلِّق أحد شهود الواقعة، أنَّ الجوعى باتوا شبعانين تلك الليلة.
إنَّ الغشَّ يُفسد كلّ شيء، والفساد والاستبداد يدمران الدول، ولا ينتجان إلا الخراب. وما الخبزُ الرديء إلا انعكاسًا لصورة هذه الأنظمة في رغيفها الرسمي: “فمِن خُبزهم تعرفونهم”.
يقول مَثل بلغاريٍ عظيم الدلالة: “عندما تُعطَى مملكة، يسألُ الغَجر: ماذا عن الخبز؟”… نعم ماذا عن الخبز؟!
عن تاريخ الخبز، هل يمكن وضع تاريخ للخبز؟
إنَّ التصدي لوضع تاريخ عام للخبز، أمرٌ بالغ المشقة على المستوى الفردي، فهو أشبه بجمع الماء في الغربال أو كولوج ثقب أسودٍ له رائحة خبز.
إنَّ التصنيف في تاريخ الخبز يتطلب جهود عدة مؤرخين وأدباء وشعراء ورجال دين، فكتابة مثل هذا التاريخ يقتضي البحث في عدة محاور: الخبز والشعر “التاريخ الشعري للخبز”، الخبز والدين “التاريخ الديني للخبز”، الخبز والثورة، الخبز والأمثال، الخبز والعائلة.. إلخ.
فعلى سبيل المثال إذا أراد أحدهم أن يصنّف كتابًا في أنواع الخبز ببلد ما، قد يتطلب هذا جهدًا كبيرًا، فما بالك بتصنيف تاريخٍ للخبز، فهذا الأخير هو تأريخ للإنسان بل قُل هو تاريخ الكون.
ومع ذلك وَضعتْ بعض الشعوب تاريخ خبزها وبجّلته وأغنت المكتبة به، لكنه يظلّ تاريخًا محليًا يساهم في كتابة التاريخ العام للخبز.
إنَّ دولة كألمانيا ــ على سبيل المثال ــ يوجد فيها أكثر من 300 نوعٍ من الخبز، وقد أقامت في عام 1955 متحفًا له في مدينة “أولم ULM “، ويحتوي هذا المتحف على مكتبة فيها أكثر من 6 آلاف كتاب تدور كلها حول الخبز، كما يحتوي على أكثر من 14000 قطعة عرض.
وكذلك الفرنسيون الذين أحصوا من خبزهم أزيد من 200 نوعٍ، وهم يسعون لتسجيل أشهر أنواعه (الباغيت La Baguette) في لائحة التراث الثقافي الإنساني “غير المادي” لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو). هذا الخبز المُصَنّف فرنسيًا باعتباره مَعْلَمًا وطنيًّا وثقافيًّا وسياحيًّا، يضاهي أهم معالمهم التاريخية والسياحية.
والسؤال هل كتب العرب تاريخ خبزهم الحقيقي؟
بعض المختارات من معالم الخبز في الشعر والأمثال وعن الخبّازين
وحدهما الخبَّاز والمصلي يعرفان سرّ نهاراتنا ونسائمها الأولى، أول الصبح وأنفاسه ورائحة الخبز في المساء، الأول يذهب ليخبز نعمة الله، والآخر يذهب للصلاة له وشكره على تلك النعمة.
يقول الفرنسيون في مَثَلهم الشهير: “كان يومًا طويلًا رتيبًا، كيومٍ بلا خبز”. يُقال إنَّ في روما القديمة حَظِيَ الخبّاز بمكانة مرموقة ما دفع الرومان إلى القول: “إنَّ شخصًا ما بارعٌ في إعداد الخبز، فإنَّه يصلح لتمثيل الشعب في مجلس الشيوخ”. أما إيزابيل الليندي في كتابها “أفروديت” فتعلق بالقول: “لا أنصحُ بصنع الخبز، لأنَّه قد يتحول إلى وَلَهٍ خطير… والخبز كالشِّعر إلهامٌ حزينٌ قليلًا، شَرطه الأساسي الوقت الحر للروح. الشّاعر والخبّاز أَخَوَان في مهمّة تغذية العالم”. كثيرةٌ هي الأعمال الأدبية والشعرية وأمثال الشعوب عن الخبز ورمزيته التي استُخدمت في أغلب الآداب العالمية، في شبه إجماع إبداعي أدبي. وإذا قلنا الشِّعر فسنجد مئات القصائد والدواوين والقِطع الشعرية العربية والعالمية الآسرة التي لعب فيهما القمح والخبز دورًا مركزيًا فيها، وستبرز أسماء يتعذر حصرها ههنا. من الكاتب المسرحي الألماني برتولد بريخت في قصيدته الشهيرة “خبز الشعب” إلى أمل دنقل وبدر شاكر السيّاب وغيرهم الكثير.
ولعل محمود درويش من أكثر الشعراء الذين استخدموا رمزية القمح والخبز في شعره، لدرجة أنَّك قد تجد نفسك في فردوسٍ مشتهى من قمح وخبز، فنقرأ له على سبيل المثال:
“إنَّا نحبُّ الوردَ
لكنَّا نحبُّ القمحَ أكثر
ونحبُّ عطرَ الورد
لكن السنابل منه أطهر”.
(عن الصمود، من ديوان أوراق الزيتون، 1964).
وليس آخرها:
“أرى ما أريدُ من الفجرِ في الفجر… إني أَرى
شعوبًا تُفتِّشُ عن خبزها بين خبز الشعوبْ
هو الخبزُ، يَنْسُلُنا من حرير النعاس، ومن قُطْن أَحلامنا
أَمِنْ حَبَّة القمح يبزغُ فجر الحياة.. وفجرُ الحروبْ؟ “.
(من ديوان أرى ما أريد/1990م، ص190)
وأيضًا:
“في حبَّة القمح التقينَا، وافترقنَا في الرغيف وفي المسيرِ
مَنْ نحنُ في هذا النشيدِ لنَسقُفَ الصحراءَ بالمطر الغزيرِ؟
مَنْ نحنُ في هذا النشيدِ لنُعتِقَ الأحياءَ من أَسر القبورِ؟”.
(الهدهد، من ديوان أرى ما أريد، 1990).
وما بين ذلك، قصيدته الشهيرة “إلى أمي”:
“أحنُّ إلى خبز أمي / وقهوة أمي / ولمسة أمي”.
(إلى أمي، من ديوان عاشق من فلسطين، 1966).
أما في الأمثال العربية والعالمية، فلن تجد إلا روائع من الحكمة الشعبية اللّمّاحة: “فَيا سائلي عن طعامي الخبز رأس الأمور”، كما يقول المَثَل المصري، لأنَّ “الخبز أب والماء أم”، كما يذهب إلى ذلك الروس الذين وجدوا أنَّ “الجنّة هناك حيثُ يوجد الخبز”.
وقد رأت الحكمة الشعبية أنَّ الوفاء والثقة تتعززان في الخبز والملح، فيقول العرب: “بيننا خبزٌ وملح”، وأنَّ أي شِقاقٍ أو شِجار بين اثنين سيتلاشى: “إذا تشارك أسوأ الأعداء الخبز والملح فلسوف يتصالحون يومًا ما” كما يقول الموروث الشعبي الروسي.
تقديم الخبز دليل كرم صاحبه وقِلته دليل بخل، حيث كان العربي في العصر الجاهلي يقول: “خبزتُ القومَ وأتمرتهم”. ولا بدَّ أن يُوضع الخبز قبل أي طعام على المائدة، قال الجاحظ: “إنَّ الناسَ كانوا يُبَخِّلُونَ من قَلَّ عددَ خبزه”.
سيبقى الخبز دائمًا في أذهان الشعوب العظيمة، فهم مسكونون به، عابر لكلّ شيء، جامعٌ بين الناس. فمن يرفع لافتة كُتب عليها “خبز” سيجد من يفهم هذه الرسالة في الطرف الآخر. ولا يستطيع أيّ شعب أن يعيش تحت ظلّ خبز مرّ ومسموم، فخبز الإنسان على الأرض هو خبز الحب والحرية والعدالة.
المصدر: الترا فلسطين