نيران تتدافع وتزداد قوّة، دخان يحجب السماء لكثافته، محاولات يائسة لإخماد “الجحيم” المندلع أرضاً، وأخيراً هدوء برائحة الحرائق وصورٌ توثّق ما صارت إليه مزارع الزيتون والفستق الحلبي في ريف حماة الشمالي، حيث تبدو أغصان وهي واقفة وقد تفحّمت كإشارة إلى أنّها بقايا شجرة زرعها أصحابها قبل عشرات السنين. هدوء يقابله ضجيجُ أصحاب الأرض على منصّات التواصل الاجتماعي، تمثّل بمنشورات غاضبة وأخرى تعرب عن حزن كاتبها.
هو مشهد لم يألفه أبناء المنطقة النازحون واللاجئون منذ هاجمتها قوات النظام ومن ثم سيطرت عليها مع نهاية آب/ أغسطس الماضي، وتساءل البعض عن السبب وردّ آخرون باتّهام النظام كونه المسيطر الوحيد على المنطقة الخالية من السكان، قبل أن يقطع الأخذ والرد تسجيل مصوّر متداول بدا أنّه المشهد الأول للحرائق، وفيه عناصر من قوات النظام يرتدون بزّات عسكرية ويمشون في طريق زراعي، حيث أضرموا النار بالعشب اليابس الكثيف المحيط والمتغلغل بكروم الزيتون والفستق الحلبي، لتمتدّ منه إلى الشجر.
وعلى إيقاع أغانٍ دمجت بالتسجيل المصور تتحدّث عن “حفر قبور وساحات حرب” وما إلى ذلك، ظهرت تلك المجموعة وهي تفعل فعلتها بفرح وفخر لم يفهم سببهما، إلّا أنّ شبانا من أبناء المنطقة ترجموا “فرح قوات النظام” على أنّه “رسائل وجّهها الغرباء لأبناء الأرض المهجّرين، وإلّا فلماذا سرّبوا التسجيل الذي صوّروه بأيديهم؟”.
ويبدو التسجيل الذي انتشر على منصّات التواصل الاجتماعي مصورا في ريف حماة، وفي الفترة الحالية حيث يبدو العشب وقد أصبح يابساً.
وقال أحمد طلفاح الذي عمل في مجلس بلدة كفرزيتا المحلّي في ريف حماة قبل سيطرة النظام عليها، إنّ “قوات الأسد تنتقم من أبناء البلدة والمنطقة عموما بهذه الجريمة التي تضاف إلى ما فعلوه بالبشر والحجر وأخيراً الشجر”.
“هي محاولة لقتلنا عن بُعد لأننا وقفنا في وجه النظام منذ عام 2011 ولا نزال”، يؤكّد الشاب الثلاثيني في حديث هاتفي مع بروكار برس أشار فيه إلى انتهاكات النظام بحق ممتلكات الأهالي في كفرزيتا، على مستوى سرقة الأثاث بما فيه صنابير المياه، وحرق المواسم الزراعية والأشجار التي يتجاوز عمر كثير منها عمره بعشرين عاما.
والتهمت النيران مئات الدونمات من الأراضي الزراعية في كفرزيتا معظمها في منطقة “دميون” (شمال غرب)، لتغدو المنطقة متفحّمة حسبما أظهرت الصور، كما التهمت النيران مئات الدونمات في بلدة اللطامنة وفقا لإعلام النظام الذي لم يشر إلى التسجيلات التي تظهر قوات الأخير وهي تضرم الحرائق، واكتفى بالحديث عن فرق إطفائية قطعت مسافة 40 كيلو مترا من مدينة حماة إلى الريف المحترق، لتخمد ما اندلع من حرائق.
مصدر خاص، أكّد أن الحرائق التي ضربت كفرزيتا مصدرها من مزرعة الجبين القريبة، حيث تسيطر قوات النظام أيضاً، ما يشير إلى احتراق مساحات قال المصدر إنّه لا يستطيع تقديرها لكنّها هائلة.
المنطقة لقوات النظام فقط
طوال السنوات الماضية كان ريف حماة في واجهة القصف البري والمدفعي، وكان الأهالي النازحون يفدون من المخيمات والقرى البعيدة في زيارات عمل خاطفة يسقون فيها محاصيلهم أو يحرثونها باعتبارها مصدر رزقهم.
أمّا اليوم، وبعد أن سيطرت على المنطقة قوات النظام، فإنّها مغلقة أمام كل من نزح شمالاً، ومفتوحة في وجه الأهالي النازحين في مناطق سيطرة النظام، لكن ومع عدم صدور قرار بمنع دخول الأهالي إلى قراهم وبيوتهم أو ما بقي منها، إلّا أنّ مخلفات الحرب وانعدام أي من الخدمات كالماء والكهرباء أو ترحيل الأنقاض التي سببها القصف السابق، يصبح السكن في الريف الحموي خاصة كفرزيتا واللطامنة ومزارعهما مستحيلاً.
أحد نازحي المنطقة يقيم في حمص، فضل عدم الكشف عن اسمه، أكّد في اتصال هاتفي أنّه في كل زيارة إلى بلدة اللطامنة جنوب كفرزيتا يضطر لدفع أتاوة لحواجز ما أسماه “الجيش العربي السوري”، التي تحيط بمداخل المدينة وتقيم في بيوت خالية من أهلها.
ولفت النازح (ع. د) إلى أنّه لا حياة في المنطقة، إذ أنّ أصحاب الأراضي يقومون بتفقد مزروعاتهم، خاصة أشجار الزيتون والدراق ورعايتها بحسب المستطاع، ليعودا بعد الانتهاء إلى حيث هم نازحون، لينتظروا الموسم الذي يعلّقون عليه آمالهم.
وينطبق واقع اللطامنة على كفرزيتا في سياق عدم إقامة الأهالي والعائلات فيها، وانتشار حواجز النظام على مداخلها وفي بيوت أصحابها.
بين فترتين
شهد الريف الحموي وريف إدلب المجاور المشمول بالحرائق الجديدة أيضاً، حرائق سابقة لكنّها محدودة النطاق حسبما أفادت مصادر من الدفاع المدني العامل سابقا في كفرزيتا.
ووفقا للمصادر في فرق الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) فإنّ أكبر حريق تعاملوا معه كان العام الماضي بالقرب من مزرعة الحماميات ذات التل الاستراتيجي الشهير، والتابعة لكفرزيتا.
وكان الحريق بحسب المصادر سببه طلقات نارية حارقة (خطاط) أطلقتها قوات النظام على الحنطة المستحصدة فأشعلت أكثر من مئة دونم، غير أن وجود الدفاع المدني والأهالي هناك حال دون تفاقم الحريق حيث تعاملوا معه وأخمدوه. بينما لم يسجّل احتراق أشجار، إلا في حالات استهداف الطيران الحربي للمزارع، وحينها كان يتم إخماد النيران على الفور.
وأكّدت المصادر أنّ المنطقة اليوم عرضة للحرائق أكثر من أي وقت مضى بسبب عوامل منها نمو العشب وانتشاره بكثرة في الكروم لعدم قدرة الأهالي على حراثة أراضيهم لأسباب متعدّدة تتعلّق في مجملها بوجود قوات النظام أو مخلفات الحرب في المنطقة، وأيضاً حركة الرياح النشطة هذه الأيام.
ومع العاملين السابقين يضاف تجاهل النظام للمنطقة وتخديمها وإنشاء فرع للإطفاء فيها كونها زراعية بالمجمل.
الانتقام من الأشجار
بعد أكثر من شهر على سيطرة النظام عليها، انتشرت صور من بلدة كفرزيتا لأشجار فستق حلبي وقد قطعت من جذوعها.
حينذاك، أفاد أحد أبناء المنطقة أن قوات النظام تقطع أشجار الفستق الحلبي والزيتون في المنطقة الواقعية بين مستشفى كفرزيتا التخصّصي (المدمّر) والذي يقع غربي المدينة، وبين أقصى الغرب، حيث أنّ معظم الأراضي في تلك المنطقة مزروعة بالفستق الحلبي والزيتون منذ 50 عاماً على الأقل.
وقال أهالٍ من المدينة إنّ تقطيع الأشجار غايته انتقام من الأهالي من جهة واستفادة من الحطب لبيعه في الأسواق كحطب تدفئة بسعر أقل باعتبار أن بائعيه سرقوه.
المصدر: بروكار برس