د- عبد الناصر سكرية
منذ ولادتها والولايات المتحدة الأميركية تعاني عوارض الكذب والخداع. ومع مرور الزمن تضخمت تلك العوارض حتى أضحت مرضا مزمنا؛ كان يحتاج إلى ولادة قيصرية لاستئصال جنين الكذب من أحشائها المتعفنة علها تشفى قبل أن يتحول الكذب إلى أهم ركن من أركان نظامها القمعي المجرم.
تعثرت الولادة فمات الجنين في الأحشاء حتى اختلطت الدماء وصار الكذب خبزها اليومي الذي تتغذى عليه وتبيعه للناس وهما وخداعا وتضليلا.
ولعل فيما حملت فيه أزيد من تسعة أشهر بكثير، فأسمته، بعد مخاض ولادة متعثرة ممتدة، قانون قيصر؛ ما يحمل كل أوجاع الولادة القيصرية المتعثرة التي تنتج مولودا معاقا مشوها. فصار يحتاج إلى حضانة أوكسجين والتي يسمونها باللغة الطبية ” كوفوز ” (couveuse ) , بتكاليفها العالية المرتفعة والتي لا يغطيها التأمين الطبي ، ليبقى على قيد الحياة ويصبح كائنا معافى لكنه سيبقى محتاجا للرعاية مشكلا عبئا على المعنيين به بل عالة عليهم..
أليس هكذا هو حال قانون قيصر مع شعب سورية الذي سيواجه تأثيراته وعليه يقع عبء رعايته على أمل أن لا يبقى عالة وربما يفيده مستقبلا في أمر حياتي ما.
أليس هذا واقع الحال؟
١ – حتى الآن فالولايات المتحدة الأمريكية هي القوة العظمى في العالم. ليس فقط في قوتها الاقتصادية والعسكرية بل في أجهزتها الأمنية والتجسسية المتشعبة والمنتشرة في كل دول العالم دون استثناء. ومن البديهي جدا أن تكون على معرفة بكل ما يفعله النظام في سورية وما يرتكبه من جرائم بحق المدنيين من أبناء شعب سورية.
فهل كانت بحاجة إلى قيصر لتعرف أن النظام يعتقل عشرات آلاف الشباب السوريين ويقتلهم بالتعذيب الرهيب؟؟
٢ – يوثق قانون قيصر لقضية المعتقلين بين سنتي ٢٠١١ و٢٠١٣.. لمواطنين قتلوا بالتعذيب الوحشي الفظيع لأجهزة أمن النظام. ومنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم لا يزال عشرات الآلاف غيرهم من الشباب يعذبون بأحقر وأجرم أنواع التعذيب تحت سمع وبصر وسكوت بل تواطؤ العالم كله المتحضر منه وغير المتحضر، المحلي والإقليمي والعالمي؟ ألا يستوجب هؤلاء الأحياء الاهتمام الأكبر بقضيتهم والضغط الحقيقي الآني الفوري لإطلاقهم؟؟ أم تنتظر امريكا حتى يصبحون جثثا متفسخة لتضيفهم إلى قوائم قيصر بعد أن يصرف آلاف السوريين الأحرار من الناشطين ومن ذوي الشهداء سنوات أخرى من الجهود المضنية لتوثيق صورهم وتعذيبهم، كما حصل مع الدفعة الأولى الأولية المدرجة في قانون قيصر!!
ألا تعطي الولايات المتحدة الأمريكية الوقت الكافي والحماية الكافية للنظام ليعتقل المزيد من الشباب ويقتلهم بالتعذيب الممنهج الوحشي الإجرامي؟؟
٣ – هل تعجز امريكا عن ضغط حقيقي على النظام ليفرج عن المعتقلين أو ليوقف تعذيبهم أو لنقل يقدمهم لمحاكمات مدنية حقوقية واضحة؟؟ فتلجأ إلى منطق الحصار الاقتصادي الذي سيخنق الشعب السوري ويغرقه في هموم معيشية تضاف إلى الفقر والقهر والاستبداد والتهجير والتدمير؟؟
٤ – إن أركان النظام السوري قد راكموا ثروات طائلة نهبوها من موارد سورية التي هي حق للشعب ولديهم من الأموال الطائلة ما يجعل معيشتهم في منأى عن أي حصار أو تدهور.. فما معنى قانون قيصر إن لم يشكل ضغطا يوميا مباشرا خانقا على النظام للإفراج عن الشعب إذا كان هذا هو الهدف؟؟
ألا يعطي القانون فرصة عملية كبيرة لتجار الحروب من أتباع النظام أو غيرهم من استغلال معاناة الشعب للاغتناء على حسابه ولو من جوعه وحرمانه؟؟
٥ – القانون غير محدد بزمن.. فقط يشير إلى تعديل في سلوك النظام دون تحديد أية مهلة زمنية. وهذا يعطي النظام الذي ينكل بشعبه ويفرغه من قواه الشبابية النضالية، المزيد من الوقت لمزيد من التنكيل والتفريغ والتجريف للشعب وقواه الحية. أو ما تبقى منها تمهيدا للمرحلة اللاحقة حيث الهيمنة الصهيونية الكاملة المطمئنة إلى مستقبلها دون منغصات!!
٦ – تسيطر الولايات المتحدة على الجزيرة السورية حيث منابع النفط والغاز والثروات المعدنية والمياه والغذاء. وتعمل لبلورة كيان كردي انفصالي فيها وتحت حمايتها. فهل يعطي قانون قيصر مبررا غير مباشرا أو اعترافا ضمنيا بحق امريكا بما تفعله هناك؟!
٧ – عشر سنوات والتواطؤ الأمريكي مع النظام السوري وجرائمه الخطيرة بحق الشعب والمعتقلين ، جلي واضح بكل المكر والخبث والخداع والمناورة ..تواطؤ مع النظام في كل المجازر الجماعية التي ارتكبها بحق المدنيين ..تواطؤ وتبرير للفتك بالسلاح الكيماوي والغازات السامة المحرمة ..تواطؤ مع القصف بالبراميل والتدمير والتهجير لمئات آلاف الأسر السورية … تواطؤ باستجلاب التدخل الإيراني والتركي والروسي للإمعان في تمزيق سورية وقتل روحها العربية ووأد ثورتها لأجيال قادمة …فهل كانت بحاجة لقيصر كي يوثق جرائم للنظام بحق معتقلين فيما الجرائم كلها معروفة ومصورة ومنشورة بالأسماء والوقائع والضحايا ؟؟
٨ – يتحدث الموقف الرسمي الأمريكي عن تعديل في سلوك النظام حيال بعض الامور الداخلية. وهذا تأكيد على الموقف المؤيد للنظام والداعم لبقائه على رأس السلطة ليتابع المهمات الكثيرة الموكلة إليه منذ عقود..
فيأتي قانون قيصر ليؤكد رعاية امريكا للنظام وحرصها على بقائه، ولا ينفيها.
٩ – إن أحد الوجوه المضللة لقانون قيصر هو أنه يوحي بأن الولايات المتحدة الأمريكية طرف محايد في القضية السورية لا بل أنه الطرف الذي سينقذ الشعب السوري من براثن النظام المجرم.. ومؤدى هذا اعتراف بالدور الأميركي وإقرار بالاحتلال الأمريكي والتطلع إليه بصفته صديقا للشعب السوري في حين أن الواقع عكس ذلك تماما. فكل التدخلات الخارجية التي حصلت وتحصل وساهمت في بقاء النظام إنما تمت بإشراف أمريكا ورعايتها؛ بما في ذلك دخول جيوش أجنبية رسمية وميليشيوية، كانت سببا مباشرا في الالتفاف على مطالب الشعب السوري وأهداف ثورته..
١٠ – سورية العربية هي الركن الأساسي بعد فلسطين في إستراتيجية النظام الأمريكي الصهيوني، لتكون جزءا من إمبراطورية ” إسرائيل” الكبرى الممتدة بين النيل والفرات. سورية هذه تعج بالحيوية السياسية والطاقات النضالية والنشاط الوطني رغم نصف قرن من القمع الدموي والتجريف الاجتماعي النضالي ..إن النهج الأمريكي – الذي هو صورة للنهج الصهيوني – في التعاطي مع الوضع السوري يسعى في بقاء النظام حتى تتم عمليات إنهاك الشعب العربي في سورية وتفكيك بناه الثقافية والاجتماعية التاريخية المتماسكة ووأد روح الثورة والإبداع فيه وإغراقه في الهم المعيشي التفصيلي اليومي المتناهي في الصغر حتى لا يعود يقوى على التفكير بأية مسألة وطنية تحررية وتسقط في عقله روحية النقد والمقدرة على التفكير وتموت في روحه المقدرة على التضحية أو مجرد الرغبة فيها دفاعا عن أي شيء ولو دفاعا عن ذاته أو أية قيمة وطنية أو اجتماعية أو ثقافية أو أخلاقية.
فيكون بذلك قابلا بأي حكم راضيا بأية سياسة مهللا لهيمنة ” إسرائيلية ” شاملة عليه وعلى بلاده لا بل مدفوعا إلى طلب الإنقاذ من عدوه الوجودي ” إسرائيل “. هكذا يكون المشرق العربي قد أصبح جاهزا ليرضى بالهيمنة التامة عاجزا عن فعل أي شيء حيال نهب مقدراته وخيراتها الكثيرة…
ألا يخدم قانون قيصر هذا الاتجاه الأمريكي العام؟؟
وهل ما يفعله النظام يتعارض مع ما تريده ” إسرائيل الكبرى ” الأمريكية؟
هل يريد قانون قيصر معاقبة النظام أم معاقبة الشعب السوري على ثورته على الوضع القائم؟؟
١١ – يتضح من واقع مجريات الأحداث في العدوان الصهيوني – الامريكي على الامة العربية أن تفريغ المنطقة من أكبر عدد ممكن من ابنائها المسلمين سكان المدن والحواضر التاريخية العربية (وقبلهم كان تهجير المسيحيين)، هو هدف صهيوني يحظى بأولوية شديدة واهتمام خاص.. وما حصل في دول الطوق المحيطة بفلسطين منذ ١٩٤٨ ومرورا بحرب لبنان ثم العدوان على العراق ثم سورية يبين هذا الهدف الصهيوني الاحتلالي للمنطقة. فهو يقلل عدد السكان فيها ويدمر المدن التاريخية لتهجير من يبقى من اهلها خارج المنطقة العربية. ليمهد أرضية مناسبة للتمدد الصهيوني إلى ” إسرائيل الكبرى ” المنشودة: قليلة السكان من جهة وعديمة المقدرة على المقاومة مستنزفة بإرهاق الهم المعيشي. وفق نظرية أرض بلا شعب.
فيأتي قانون قيصر ليزيد الخناق والتضييق على الشعب السوري حدا يدفع من بقي لهجرة طوعية هربا من الاختناق الوجودي الحياتي. حتى أولئك الذين في مناطق سيطرة النظام وروسيا وإيران.. ١٢ – خلاصات:
تملك أمريكا من اوراق الضغط والتدخل والنفوذ في سورية ما يمكنها من إسقاط النظام أو تغييره لو أرادت. وما الحصار الاقتصادي إلا إرهاق للشعب وإبقاء للنظام حتى ينهار المجتمع تماما فيستسلم ويرفع رايات الترحيب بالهيمنة الصهيونية..
إن انتظار بعض السوريين إنقاذا يأتي من ضغط أميركي على النظام بقانون قيصر أو سواه ؛ إنما يشكل ثغرة كبيرة في العمل الوطني وفي الرؤية الوطنية ذاتها ، ينبغي تداركها وتجاوزها بالتأسيس لمرحلة جديدة من المشروع الوطني يقوم على اجتماع القوة الوطنية في جبهة حرة متماسكة فوق العصبيات الفئوية من كل نوع ؛ تعي طبيعة النظام والحماية الدولية له ، وطبيعة المشروع الصهيوني لسورية وعموم المنطقة.