محمود الوهب
ما يزال السجال حول نظام الحكم في سوريا المستقبل قائماً، ولم يزل، في شدة احتدامه، لا يفصح عن عمق أوجاع السوريين وأسبابها..! وإذا كان هذا الأمر طبيعياً (إذ القرار اليوم ليس بيد السوريين) فغير الطبيعي أن ترتفع أصوات نشاز لدى بعضهم ممن تتصل بهم هذه الدولة ذات الشأن أو تلك، في محاولة لامتطاء رغباتهم، واستغلال وجعهم، وأخذ أصواتهم نحو غايات سياسية بعيدة عن جوهر ما عبرت عنه احتجاجات السوريين عام 2011 وتتنوع تلك الأصوات في تعبيرها عن ظلمها الذي غالباً ما ينطوي على وجع قومي أو ديني أو طائفي أو اجتماعي عام.. وإذا كان الكرد قد تفاهموا، في الفترة الأخيرة، حول قيام فيدرالية خاصة بهم تشمل منطقة شرق الفرات لافتين إلى أمرين أولهما: حق تقرير المصير.. وثانيهما: ثروات المنطقة وغناها فإن أصواتاً عربية حولت أمر المنطقة ذاتها إلى صراع مديني، فتجار حلب ودمشق قد استغلوا أراضي المنطقة الشرقية حتى قبل سلطة البعث.. بالطبع هم لا يذكرون أن تلك الأراضي كانت بيد زعماء العشائر الذين استفادوا من إيجارها واستخدموا عمالاً لديهم خبرة بالأعمال الزراعية جلبوهم من ريف حلب تحديداً مستغلينهم وفق نظام “المرابعة” ما يعني أن يعمل الفلاح بعيش يومه فحسب..
أما الأمر الأخطر المثير للريبة فصدور وثيقة وزعت على وسائل التواصل، فيها مغالطات وروائح بشعة، إذ تصور سكان المنطقة بغير ما كتبه التاريخ، وما يثير الريبة والشك أكثر أنَّ الوثيقة مغفلة من الاسم غير عنوانها: “وثيقة استقلال الجزيرة”، وإعلانها انفصال الجزيرة السورية عن الوطن الأم، واعتبارها “العبرانيين” من سكان الجزيرة السورية تاريخياً، (ولا أحد يعرف لماذا دسَّ أصحاب الوثيقة العبرانيين الذين يمثلهم الصهاينة اليوم.. هل هم بصدد بيان سياسي أم تحقيق تاريخي أم إن وراء الأكمة ما وراءها..؟!) وقد مروا، في الوقت نفسه، مرور الكرام على العرب متجاهلين أسماء مناطق الجزيرة المرتبطة بأسماء القبائل العربية التي سكنتها قبل الإسلام واستمرت بعده فالجزيرة العليا “ديار بكر” والسفلى “ديار مضر وربيعة..”.
وحين تُحَدِّث هؤلاء عن الديمقراطية ودولة المواطنة والنظام اللامركزي الذي يمنح البلديات صلاحيات واسعة في مجال التنمية ومراعاة المساواة بين مواطنيهم، وأن جوهر المشكلة كامن في الاستبداد يقولون لك: هذه سذاجة، وكلام إنشائي..! ما نريده هو حصة من تلك الثروات، وكلام من هذا القبيل يتجاهل أنَّ ملكية ما يعرف بالثروات الباطنية والمائية ومياه البحار الإقليمية والمجالات الجوية تخصُّ الدولة المعنية أياً كان نظامها ومهما كانت درجة رقيها.. والمشكلة أن الدول المتدخلة على نحو مباشر أو غير مباشر يجدون في مثل هؤلاء نواة صالحة للشغل عليهم، ولاتخاذهم متراساً للقول بأن السوريين يريدون ذلك.. وواضح أن تلك الأصوات تنطلق من ظلم وقع عليها، لكنها لا تراه بسبب الاستبداد الذي يكمن وراء كل علة، وأن خلاص الجميع يكمن في إزالة الاستبداد الذي ما يزال جاثماً فوق صدور السوريين أجمعين، وفي بناء دولة الديمقراطية والمواطنة الفعلية التي يمكن أن يتفق عليها السوريون كافة عبر حوارات مستفيضة لا تهمل حقوق أحد ولا تتجاوز أحداً..!
إن عدم قدرة المعارضة على ترجمة شعارات المحتجين إلى وقائع تبرز الصوت السوري الواحد وتركها كل مكوِّن منها يعزف على وتر مظلوميته وبؤسه الذي يراه منفصلاً عن معاناة الآخر ساهم في إطالة عمر النظام المتهرئ إلى هذه الساعة.. بالطبع لا يمكن إغفال الدور الرئيس لكل من روسيا وإيران الدولتين الغارقتين اليوم في المتاهة السورية، وشدة توحشهما فيما ارتكبتاه من جرائم دمار طال السوريين قتلاً وتهجيراً..! وبخاصة روسيا الراغبة اليوم في إيجاد مخرج ما لأسباب كثيرة تتعلق بوضعها الاقتصادي وأوضاعها الداخلية عموماً، وبمواقف الدول الكبرى، إضافة إلى مجيء قانون قيصر، ولذلك تراها تتصل بأغلب المكونات السورية..! ومع ارتفاع وتيرة البحث عن أيّ حل تزداد الأصوات النشاز حدة وتترصدها في الوقت نفسه الدول المتدخلة على نحو مباشر أو غير مباشر والباحثة لها عن مرتكز تعتمد عليه ريثما تحصّل جزءاً من الكعكة.. الأمر الذي استدعى من جهة أخرى بعض السوريين للدخول في مساجلات تجاه وطنهم وهويتهم السورية وليردوا على هؤلاء المراكيب الذين يثيرون الشفقة بمنطقهم الذي لا يثبت أمام الواقع والوقائع ويكشف خبث نواياهم وسوء سلوكهم وتخبطهم..!
فهذا المحامي الأستاذ رديف مصطفى يردُّ على المجلس الوطني الكردي بتذكيره أنه “أول من عادى الـ”ب. ي. د” إذ وصفهم بأنهم سلطة وكالة تتبع النظام في سوريا، وأنهم تنظيم إرهابي يتبع لحزب العمال الكردستاني وتديره كوادر قنديل؟ وقد قام بارتكاب مجازر وانتهاكات تصل إلى جرائم حرب وأنَّ تجربة الإدارة الذاتية هي ضد الكرد.. وأنهم يتفرَّدون بالقرارات السياسية والعسكرية والإدارية ضد مصلحة الشعب السوري بشكل عام والكردية منها بشكل خاص.. كل ذلك فعله المجلس الوطني الكردي عبر بيانات رسمية. الآن حين ننتقد الحوار والتفاهمات والاتفاقيات التي تجري بين ب ي د والمجلس الوطني الكردي الذي يخوض هذه الحوارات بمعزل عن الائتلاف الذي هو جزء منه وبمعزل عن جزء مهم من الشارع الكردي السوري وعن مكونات الشعب السوري عموماً، وفي الجزيرة السورية بشكل خاص تثور ثائرة المجلس ويتهم كل كردي ينتقد، ويرفض الاتفاق بأنه ضد وحدة الصف الكردي وليس كرديا ويتهم كل سوري عربي بأنه شوفيني عقليته بعثية وضد القضية الكردية..!” ويضيف الأستاذ رديف “يتحدثون عن مسودات سرية اتفقوا على سريتها هم والأمريكان والـ”ب. ي. د” ويقولون بأن كل من ينتقد الفيدرالية هو ضد القضية الكردية! ألا يندرج هذا الأمر في إطار شرعنة وجود العمال الكردستاني في سوريا، وبالتالي السير على حافة الهاوية في دفع المزيد من الأثمان الباهظة..! ويشكل المزيد من التباعد والتوتر بين مكونات الشعب السوري..!”
كذلك يكتب المربي الأستاذ جمال الجميلي على صفحته حول الظواهر الانفصالية السورية: “منذ أن بدأت محادثات الأكراد (قسد، والمجلس..) فاحت رائحة الانفصال المبطنة بالتسويغ اللفظي، واللغوي، وظهرت السياسات “الضدية” وبدأت النزعات الانتقامية المناطقية تطفو على السطح بلبوس “ديمقراطي” معتمداً أصحابها حجة “المظلومية”، للأسف كيف فهمت المظلومية بربطها الجزئي والهش بالتاجر الدمشقي أو الحلبي (أفراد) عبر منظور ذاتي ضيِّق وغير موضوعي، مستبعدين من صياحهم أو مطالبتهم أو إنشاء تجمعاتهم وتياراتهم، الرؤية التاريخية الشاملة لسوريا أيام العثمانيين ومن ثم الفرنسيين، وفترة ما بعد الفرنسي التي سميت بالاستقلال..” ويشير إلى أنَّ “رفع المظلومية الفئوية أو المناطقية لا يقوم على تحقيق سياسة “الضد” فهذه السياسة تجعل المناطق السورية في حالة احتراب خفي أو علني فمن ينادي بنظام سياسي ديموقراطي ودولة علمانية، ومن ثم يقول بمظلومية مناطقية أو عرقية أو فئوية.. يغالط نفسه، إذ ما إن يتحقق حلم السوريين بدولة ديمقراطية حديثة وعلمانية، سوف تحلُّ المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية وستشمل العملية التنموية سوريا بكل مناطقها وفئاتها وبتكامل عادل، ومساواة بين الجميع..”
وفي تسجيل صوتي بثه الكاتب السياسي “بسام يوسف” تحدث فيه عن محاولات روسيا التخلص من حال الاستنقاع في سوريا، ولذلك تراها في سعيها للخلاص تلتقي بهذه الفئة أو تلك، وأشار إلى لقاء مسؤولين روس ببعض السوريين العلويين على أنهم يمثلون الطائفة، ورفض هذا التمثيل الانتقائي إذ لا يحق لأحد بمفرده أن يمثل الطائفة مؤكداً أن معالجة المسألة السورية لاتحل بهذه الأساليب، بل بالعودة إلى جذر المشكلة الكامنة في الاستبداد الذي ظلم الناس جميعاً على اختلاف أقوامهم وأديانهم وطوائفهم بمن فيهم الطائفة العلوية..!
وكتابات أخرى لا مجال لاستعراضها الآن، وبغض النظر عن مدى وضوح مفهوم الوطن، وتأثر المفهوم بتغول الاستبداد ما خلق ردود أفعال غير طبيعية..! كما أنه مكشوف للملأ وجود أيادٍ تحاول العبث بمصير سوريا والسوريين مستغلين وجع بعضهم أو سذاجتهم، ولعلَّ بعضهم الآخر يريد استمرار الوجع السوري، ولا يريد لسوريا ولا لسواها من دول المنطقة العربية أن تبنى على أسس جديدة وأن تكون نموذجاً ونواة لبناء آخر يشكل عامل نهوض في المنطقة، ويودع التخلف بأشكاله كافة ويكنس دولة الاستبداد وذيولها ويذهب إلى دولة المواطنة المؤسسة للحرية والعدالة والمساواة وفق دستور ديمقراطي يقره الشعب وترعاه سلطة قضائية مستقلة..!
المصدر: تلفزيون سوريا