عقيل حسين
مع اقتراب موعد انتخابات مجلس الشعب التي يجريها النظام في 19 تموز/يوليو، وبعد انتهاء ما أسماه حزب “البعث” بمرحلة “الاستئناس” لاختيار مرشحي الحزب للانتخابات، أصدرت قيادة الحزب بيانها الانتخابي الاربعاء، قدمت فيه “برنامج العمل” الذي ستعتمده للدورة البرلمانية المقبلة.
فرغم أنه لم يتغير شيء على صعيد استئثار “البعث” بالغالبية في المجلس التشريعي، حتى بعد الغاء المادة الثامنة من الدستور التي تقرر أنه “الحزب القائد للدولة والمجتمع”، إذ بقي يسيطر على مئة وثلاثة وستين مقعداً من أصل 250 لصالح البعث، إلا أن بيانه الانتخابي يستمر في التأكيد على تعزيز التعددية السياسية.
ومن المعروف أن قوائم الجبهة الوطنية التقدمية، التي تضمه مع الأحزاب الهامشية المتحالفة معه، هي قوائم ناجحة أتوماتيكياً، ما يفرغ الانتخابات من مضمونها، بل إن المقاعد المتبقية والمخصصة للمستقلين نظرياً، بعد احتساب 24 منها لصالح بقية أحزاب الجبهة، اعتاد السوريون على أنها محسومة هي الأخرى سلفاً، لصالح رجال الاعمال ووجهاء العشائر المتحالفين مع النظام، الذين ينضم إليهم في الترشح للدورة البرلمانية الجديدة قادة مليشيات الشبيحة، الذين لا يشك أحد في من سيحصل منهم على عضوية مجلس الشعب مسبقاً.
ومع ذلك، يحاول حزب “البعث” أن يظهر اختلافاً ما هذه المرة، من خلال بيان انتخابي لم يحمل رغم هذه المحاولة أي جديد يمكن أن يُقرأ خارج السياق المعتاد لخطاب الحزب وأدبياته.
فعلى الصعيد الداخلي، وإذا كان من البديهي أن يبدأ البيان بترديد الشعارات المكررة حول “مواجهة الارهاب وتعزيز المقاومة”، وما يستلزمه ذلك طبعاً من “دعم الجيش العربي السوري الباسل” فإن جعل “تلبية احتياجات المواطنين وتحسين وضعهم المعيشي والاقتصادي” من أولويات عمل مجلس الشعب المقبل، هو الهدف الأبرز للحزب، حسب البيان. لكن هذه الأولوية محكومة كما يرى “بالإمكانات المتاحة والظروف الموضوعية الناتجة على الحصار والعدوان والاحتلال والإرهاب”.. أي بمعنى آخر، لن يكون هناك أي تحسن على هذا الصعيد.
لكن مع ذلك، فإن بيان “البعث” يؤكد على ضرورة مكافحة الفساد وتعزيز الرقابة، من خلال “العمل على إصلاح المؤسسات الرقابية، وتعزيز دور الرقابة على عمل المؤسسات وأدائها في مكافحة الفساد، وتقوية حس المسؤولية والمبادرة لدى المواطنين عموماٌ والعاملين في الشأن العام خصوصاً”. وهذه الأخرى من الكليشيهات المعتمدة في خطاب الحزب منذ أن انتشرت منطلقاته النظرية التي كانت تتحدث عن تعزيز الرقابة والنقد الذاتي. هذه المنطلقات التي بقيت نظرية على الدوام طيلة عقود الاستقرار من سنوات حكم البعث التي قاربت الخمسين.
ويرى المعارض السوري، وعضو مجلس الشعب السابق عماد غليون، أن “تفاصيل البيان مكررة عن خطاب البعث الماكر في منطلقاته النظرية، من حيث الحديث الممجوج عن مكافحة الفساد والاحترام المزعوم للقانون وللتعددية، والادعاءات الكاذبة في المساواة، الخ…”.
ليست الرقابة ومكافحة الفساد هما فقط ما يعد البعث بتعزيزهما في الدورة البرلمانية القادمة، بل إن تعزيز دور مجلس الشعب نفسه، وتطوير أدائه في إتمام مهامه التشريعية بالشكل الأمثل يعتبر أولويات من أولويات برنامج الحزب الحاكم الانتخابي، لكن هذه الأولوية سيتم انجازها “عبر المبادرات والاقتراحات!”.
يستمر “البعث” في استحضار عبارات الماضي التليد الذي تحفل بها أدبياته وإصداراته من الكتب والمجلات والمنشورات، والتي لا يحتاج في كل مرة إلا إلى نفض الغبار عما يناسب كل مرحلة منها، فيتحدث في بيانه الأخير أيضاً عن تعميق الديموقراطية وتعزيز ثقافة القانون والمساواة في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص، وهي نقاط يفرد لها بيانه الانتخابي الأخير فقرتين تفيضان بالحشو الكلامي المعتاد، بلا أي فائدة تُذكر.
فتعميق الديموقراطية يتطلب “تطوير التعددية الحزبية”، وهذا بديهي، وتعزيز احترام القانون يستوجب “توطيد مفهوم دولة القانون والغاء الاستثناءات وجميع الممارسات التي لا تحترم القانون أو تتلاعب به” وهي عبارات لا تحتاج بطبيعة الحال إلى من يذّكر المواطن السوري بها، بقدر ما يحتاج حزب “البعث” نفسه إلى الإقرار، ولو لمرة واحدة، أنه كان أول وأكثر من خالفها وعزز كل ما هو نقيضها.
أما في النقطتين الثامنة والتاسعة من البيان، فيبدو أن البعثي الذي صاغه لم يكن أكثر سعادة في أي من بقية النقاط كما كان فيهما، حيث المجال الأثير لكوادر الحزب وقياداته عندما يتم التطرق “للتربية والإعداد ونشر الوعي وتعزيز الوحدة الوطنية” الخ… هذه المصطلحات التي طالما تنافس حزب البعث مع شركائه في الجبهة الوطنية التقدمية من الأحزاب (القومية والشيوعية) في تدبيجها وتكرارها على آذان الجمهور السوري، بينما كانت هذه الأحزاب تضمحل في الشارع وتتكلس في مكاتب الوزارات والادارات، وتغوص أكثر في الفساد والتحاصص الذي وصل إلى المؤسسات التربوية والتعليمية، خاصة الجامعات التي تم تفرغيها تقريباً من الكوادر العلمية والتخصصية، ما أدى الى تراجع مخيف في مستويات ترتيبها الدولي.
أما النقطة التاسعة، فيؤكد فيها البيان على “تطوير قوانين النقابات والاتحادات والمنظمات الشعبية بما يزيد من دورها وحضورها في المجال الوطني، وكذلك في مجال حماية حقوق أعضائها وقطاعاتها”، علماً أنه قد لا يوجد ملف يتفق السوريون حوله، مؤيديين ومعارضين، مثل ملف النقابات التي تم الإجهاز عليها وتفريغها من مضمونها، منذ أن قرّر “البعث” إنهاء استقلاليتها وجعلها تابعة له بشكل رسمي.
يتجنب البيان في كل فقراته أي ذكر للمحاسبة، وهو هنا لا يتهرّب فقط من مواجهة حقيقة مسؤولية الحزب عن كل ما تعيشه سوريا من تدهور في كافة القطاعات وعلى جميع الأصعدة، بل يريد التأكيد على أن هذا التدهور هو بسبب المؤامرات الخارجية والإرهاب، وفاتورة الصمود والمقاومة، هذا “الكليشيه” الذي لم يستخدمه النظام بعد العام 2011 فقط، بل كان شماعته الدائمة منذ بداية حكمه عام 1963.
لكن البيان الانتخابي للحزب لا ينسى التأكيد “في مجال العمل القومي” على “تعزيز التفاعل الشعبي العربي، والتمسك بالعروبة كهوية ثقافية وحضارية وتاريخية، وترسيخ ثقافة المقاومة على المستوى القومي”.
أما في مجال السياسة الإقليمية والدولية، فإن البيان يؤكد على “تعزيز العلاقات متعددة المجالات مع الدول التي وقفت إلى جانب سورية وهي تواجه المؤامرة، وخاصة تلك الدول والأوساط التي تدعم المقاومة، وتدين العدوان الصهيوني، وسياسات الهيمنة والتدخل”.
وعليه، يرى عماد غليون في حديث ل”المدن”، أن “حزب البعث ما زال محكوماً بإيديولوجيا خشبية تعتمد المراوغة والخداع، وتفترض أن الشارع لا زال يراوح مكانه منذ عقود، من دون أن يعي التحولات الهائلة في بنية المجتمع السوري بعد اندلاع الثورة وما تبعها من أحداث وتطورات، ومن دون أن تدرك قيادة البعث تنامي الوعي الجمعي وعدم القدرة على توجيهه من خلال بيانات جامدة لا تستجيب لمعاناته ولا تقدم رؤىً لحلول ممكنة في المدى المنظور”.
ويضيف أن “السوريين لا يقيمون أي اعتبار لانتخابات مجلس الشعب ولنتائجها، ولا يتوقعون أن تأتي بأي شيء جديد أو مفيد، وهم يدركون أن السلطات الحقيقية كلها بيد أجهزة الأمن والمخابرات، أما باقي السلطات فهي شكلية لا أكثر”.
رغم الحديث عن ضغوط يتعرض لها النظام من قبل حليفته روسيا من أجل تأجيل انتخابات مجلس الشعب على أمل الوصول لتوافق سياسي ما مع المعارضة أو من يقبل منها بمشاركة النظام في حكومة موحدة، إلا أن الأخير يؤكد اصراره على الذهاب حتى النهاية بقناعاته حول رفض أي معارضة، والإصرار على خياراته المعلنة، ومنها عدم الاهتمام حتى بالموقف الشعبي العام من الانتخابات البرلمانية في البلاد، وهو موقف سلبي تعبر عنه نسب المشاركة الهزيلة في الدورات السابقة كلها.
المصدر: المدن