محمود الوهب
يُجري بعضهم مقارناتٍ بين أبناء الريف وأبناء المدن من جوانب إنسانية وأخلاقية، فينتصر لهذه الجماعة أو لتلك، كأن يخصّ الكرم والنخوة والإقدام ومسحة التعاطف الإنساني بأبناء الريف، بينما ينسب غير ذلك إلى أبناء المدينة، كالتشوّف والاستعلاء والمباهاة بالعقل والعمل والتمدن. تلك الصفات حين تُلقى باعتبارها مسلَّمات، يمكن أن تبعد أصحابها عن التفكير السليم، إذ تتجاوز طبيعة الإنسان وفطرته التي لا بد أن تنطوي على الخير والشر، والحب والكره، والجبن والشجاعة، والكرم والبخل، والتمييز بين القبح والجمال، وما إلى ذلك من صفاتٍ ونوازع إنسانية تلازم الإنسان أينما وُلد وأينما حلَّ، ولا ينفي هذا الأمر شروط الحياة الموضوعية الأخرى التي تفرض نفسها أحياناً!
وعلى الرغم من بديهية هذه الأمور عندنا وفي العالم، إلا أننا، نحن السوريين، منشغلون غالباً بما يفرّقنا أكثر مما يجمعنا، على الرغم من أنَّ بلادنا على حافّة الضياع، إذ أهلها مشتَّتون في الأنحاء يعانون المرارة والأحزان، ومن تبقى مسكون بالخوف مما يراه في حاضره، ومن مستقبل مجهول قادم. ففي إطار نقد مسيرة الثورة السورية، كتب المعارض سمير نشار (عضو المجلس الوطني) في موضوع الريف والمدينة: “في غمرة الجدل بين الذهنية المدينية والذهنية الريفية علينا لحظ التباين التالي: أدوات الاحتجاج في المدينة ضد السلطة هي المظاهرة، الإضراب، الاعتصام، العصيان المدني. أما أدوات الاحتجاج في الريف فهي حمل السلاح فقط”. وأضاف: “ثورة الحرية والكرامة في سورية فشلت عندما تريفت، وتأسلمت على أيدي الفصائل الريفية”، وأشار إلى الانقلابات العسكرية في مصر والعراق وسورية 1963 وليبيا وعدَّها “انقلاب الريف على المدينة”. أما الكاتب والمعارض أيضاً، بسام يوسف، فقد تحدث في منشور له عن فقره وعدم تمتعه بما عند أهل المدينة من أدوات تعليمية وترفيهية، وأصناف أطعمة افتقدها في قريته، لكنها لم تفقده إنسانيته وتحضّره، ولا انفتاحه على الآخر. وقال بالحرف: “نعم أنا ابن ريف وفقر وجوع و”تعتير” لكن بكل راحة ضمير، وبكل تواضع، وبكل شجاعة أقول: ما رأيت ابن أي مدينة عشت فيها لاحقاً أكثر إنسانية مني، ولا أكثر انفتاحاً على العلاقة مع الآخر، ولم أشعر مرة أنني أقل حضارة ممن يعرف كل هذه الأشياء!”.
لا تعلّق هاته المقالة على كلام الاثنين، بل تأتي على هذه الظاهرة منذ نشوئها، ومن المسؤول عنها في سورية المعاصرة تحديداً؟ ويمكن تسجيل النقاط الآتية:
أولاً: بدأت الحضارة مع التجمعات البشرية الأولى، والقرية أحد تلك التجمعات، ولعلها نواة المدينة الأولى. وتبدأ القرية بمئات الناس المتقاربين، لتصل إلى الآلاف القليلة. ولم تكن المدن الأولى في التاريخ لتتجاوز هذا العدد، وقد تتوافر الشروط المناسبة لقرية ما لتغدو مدينة. ومن خصائص المدينة توفير الحاجات الضرورية لمعيشة سكانها، ولسكان البوادي، والقرى الصغيرة المشتغلين في الزراعة وتربية الماشية. وإذا افترضنا أن الإنسان نما وارتقى وازدادت ثقافته ووعيه من خلال العمل وتطور أداته، كما يرى أكثر علماء الاجتماع، فهذا الأمر محسوم للمدينة.
ثانياً: بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، بوصفها آخر إمبراطورية في العالم، نشطت حركات الفلاحين في سورية ضد العائلات الإقطاعية، وأهمها آل العظم والبرازي والكيلاني في مدينة حماة. وفي مارس/ آذار من عام 1951 عقد الحزب العربي الاشتراكي مؤتمره الأول، ووجد في الفلاحين جماهير جاهزة للاندفاع معه ضد الإقطاع، كما يذكر عبد الله حنا في كتابه “صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية”، وبعد ذلك اندمج مع حزب البعث في نهاية عام 1952، وكان الحزب قد تأسس عام 1947.
ثالثاً: كرّس حزب البعث، بعد تسلّمه السلطة، التفرقة بين الريف والمدينة، إذ كان يفضِّل ابن الريف على ابن المدينة في الوظائف، وبعثات الدراسات العليا وسوى ذلك، ومعروفة قصة رفعت الأسد مع عضو القيادة القُطرية للحزب، إلياس اللاطي، عندما قدَّم له رفعت الأسد قائمةً بمائة اسم مرشحين للدراسة، طالباً الموافقة عليهم، وكان من بينهم 97 اسماً من مدينتي طرطوس واللاذقية وأريافهما، فلما أبدى إلياس دهشته، إذ “هم من منطقة واحدة”، ما كان من رفعت إلا أن رفع إصبع الاتهام بوجهه قائلاً: “وهل ستديرها طائفية ولاك!”. هكذا بكل صفاقة، فضلاً عما كان يحدث في انتخابات حزب البعث، إذ كان أبناء الريف ينسِّبُون إلى الحزب أقرباءهم وأبناء عشائرهم، ما يقوي تلك الصراعات خلال الانتخابات بالتحديد. عندئذ يُستعان بالقيادة القُطرية التي فرضت انتخاب أعداد أكثر من المطلوب، لتعيّن منهم على مزاجها، وتستبعد من لا ترغب به، حتى وإن نال أعلى الأصوات!
رابعاً: رفع حزب البعث شعار ردم الهوّة بين الريف والمدينة، لكنه فشل في ذلك، كما فشل في عموم الشعارات التي رفعها، وفي التنمية الشاملة أولاً. وما حصل فعلاً، هو ترييف المدن، لا بإدارة دوائرها الرئيسة فحسب (المحافظون، دوائر الأمن والشرطة، الجامعات وسوى ذلك)، بل بمحاصرتها بحزام من الأبنية العشوائية التي تفتقد معظم ضرورات الحياة. ولعلَّ سكان تلك العشوائيات، والمدن الصغيرة، كانوا روافع للثورة السورية، شعوراً منهم بالظلم الواقع عليهم، وقد دعَمَهُم كمٌّ كبير من المثقفين، أدباء وفنانين، وحسبهم هذا.
خامساً: حرمان المدينة مستلزمات تكوينها، وأهمها حرية عمل منظمات المجتمع المدني التي تغدو رديفةً للدولة المتصالحة مع شعبها في التنمية الشاملة، إذ تؤثر إيجابياً في حياة الفرد والأسرة والمجتمع من النواحي الاقتصادية وعموم الأنشطة الاجتماعية، خصوصاً ما يتعلق بحقوق الإنسان التي تأتي الحرية في مقدمتها، إضافة إلى دعم حقوق المرأة والطفل والشباب عموماً، والوقوف إلى جانب العدالة، والمساعدة في مجال الصحة والتعليم، والأخذ بيد المعوَّقين وتأهيل العاطلين من العمل، وإيجاد فرص عمل لهم، وذلك كله وفق مبدأ التعاون والشفافية والتنسيق للتضييق على الفساد والفاسدين.
سادساً: من لم يساهم في الثورة السورية، وخصوصاً في المدن الكبرى، كدمشق وحلب، هم في معظمهم من كبار التجار وأصحاب المشاريع الاقتصادية الصناعية، والخدمية، فهؤلاء مستفيدون من فساد النظام، ومن الشراكات التي نشأت بينهم وبين أصحاب المراكز العليا في الدولة، ككبار ضباط الجيش، ورؤساء فروع الأمن، والنافذين في الدولة بقربهم من القصر الجمهوري، ما يعني بإيجاز تحالف البرجوازيتين: البيروقراطية والطفيلية.
سابعاً: أراد النظام لمقولة “نقاء ابن الريف وفساد ابن المدينة” أن تدخل في نسيج الثقافة السورية، ففي عام 2012 أنتجت المؤسسة العامة للسينما فيلم “صديقي الأخير” من تأليف جود سعيد وإخراجه. يقارن الفيلم بين الأمس واليوم، ليخلص إلى أنَّ الأمس هو سبعينيات القرن الماضي، وهو الريف بخضرة جباله، وسعة فضائه وهدوئه (حديث الكاميرا)، وفي بساطته وطيبة أهله، الممثلة بضابط أمن مخضرم، انتقل في مهمة إلى دمشق العاصمة، ليجد الفساد في إدارة الأمن وفي المجتمع على السواء، لكن الفيلم يُبقي المتلقي في حيرةٍ، إذ لم يقل من أين أتى الفساد، وكيف، وما مسؤولية السياسي بذلك؟
كلمة أخيرة، هذه التقسيمات وتلك المظالم التي تستعرض اليوم لن تحلّ ما لم يرحل النظام أولاً، ويحل مكانه نظام لامركزي محمي بدستور ديمقراطي، وقوانين واضحة ودقيقة، وسلطة قضائية مستقلة. والأمل كبير في ألّا تهدر تضحيات الشعب.
المصدر: العربي الجديد