محمد أمين الشامي
باغتني مبرمج فيليبيني يوماً بسؤال جعلني في حيص بيص من أمري. حدث ذلك حين كنت أعمل في مجلة في الكويت في تسعينات القرن الماضي وكان هو زميل لي في العمل. سألني يومها السؤال التالي: “لماذا يستمر الرؤساء عندكم في سدة الحكم لسنوات وسنوات ولا يبقون لفترة رئاسية واحدة أو اثنتين مثل بلدنا؟ ما الَّذي سيقدمونه أكثر للبلد بعد مضي أربع أو خمس سنوات من أفكار أو استراتيجيات أو سياسات تنقل البلد نقلات نوعيَّة هو في مسيس الحاجة إليها؟ المفترض أنَّهم قد قدَّموا كلَّ شيء وعليهم أن يفسحوا المجال لغيرهم. ثمَّ، من أين اخترعتم لقب الأب القائد لزعمائكم؟”.
لا أخفيكم أنَّ انهمار هذه الأسئلة الاستفسارية ظاهراً التَّهكُّميَّة باطناً فاجأني وأحرجني بقدر ما انحط على نفسي كسيل العرم. وللهروب من الإجابة بطريقة ساخرة أجبته يومها: “لأنَّ رؤساءكم يفتقرون إلى خاصِّيَّة بالغة الأهمِّيَّة لا تتوافر إلّا في زعمائنا. إنَّهم يفتقدون صفة ’ الإلهام‘الَّتي يتمتَّع بها المسؤولون عندنا”، وتركته مشدوهاً وعدت إلى مكتبي أنقط خيبات وحسرات لا تقلُّ عدداً عن إشارات الاستفهام الَّتي استثارها ذلك المبرمج الفيليبيني بسيل أسئلته.
حدث هذا على وجه الدِّقَّة في العام 1997، أي أنَّنا كنّا حينها لا نزال بعيدين عن خضرة الرَّبيع العربي وتفتُّح أزهار الآمال وعبق الجو بروائح الحرِّيَّة وغيرها من أمانٍ عشناها وخبرناها بعد عقد ونيِّف من السِّنين.
ما ذكَّرني بذلك الموقف البعيد هو علمي القريب وبمحض الصُّدفة بإعادة انتخاب قيادات ما يدعى إلى الآن “بالائتلاف الوطني لقوى الثَّورة والمعارضة السّوريَّة” وعمليَّة تسليم واستلام المناصب وتدوير الكراسي. والصُّدف أحياناً تجعلك تدخل في حال نطلق عليها في الأدب اسم “flash back” أو العودة بالذّاكرة ومضاً إلى نقطة ما من الماضي. لكنَّ ما حفَّز الذّاكرة هي سخرية الموقف أو “irony of situation” الَّذي جعلونا نعيشه نتيجة اجترارهم لذات المهازل. ثمَّ، يردُّني سؤال عريض وعويص بآن معاً إلى الواقع السَّديمي الَّذي نخبط فيه، نحن الشَّعب المنهك، وهأنذا أطرحه فوق هذه السُّطور: ماذا أنجز من انتخب رئيساً للائتلاف من منجزات تستدعي انتخابه أو إعادة انتخابه مرَّة ثانية كائناً من كان؟ والسُّؤال طبعاً يسري على بقيَّة من احتلّوا المناصب القياديَّة الأخرى. لن أتطرَّق إلى آليات الانتخاب وديمقراطيَّة العمليَّة الانتخابيَّة والبيان الانتخابي للمرشَّح المنتخب ولا حتَّى إلى مؤهلاته وكلِّ هذه التَّساؤلات الدَّخيلة على مفاهيمهم والاستفسارات المشروعة في الحالة الطَّبيعيَّة والمبرَّر غيابها في حالتنا الغرائبيّة، فالجواب بات معروفاً والمبرِّر جاهزاً، إنَّه الاستثناء: استثنائيَّة الوضع واستثنائيَّة المرحلة واستثنائيَّة التَّداخلات والتَّدخُّلات واستثنائيَّة التَّشرذمات واستثنائيَّة الاعتبارات ووجاهتها واستثنائيَّة الضُّغوط الَّتي تمارسها القوى المتناطحة إقليمياً ودولياً والتي تطحننا على أرضهم وأرضنا. وطبعاً، سنستثني استثنائيَّة الشَّخصيّات فهذه ليست موضع مساءلة لأنَّنا لا زلنا نعمل بموجب مقولة “جود بالموجود”.
ولذلك سأعود إلى السُّؤال البديهي الَّذي طرحته وأقف عنده مكتفياً به: ماذا أنجز من تمَّ انتخابه رئيساً للائتلاف في سابق ما أوكل إليه من مناصب، وأيُّ مواقف تبنّى في الحالات الاستثنائيّة الكثيرة الَّتي شهدتها السَّنوات العجاف التِّسعة الماضية ممّا جعله أهلاً لأن ينتخب لمنصب يفترض به أن يكون حسّاساً كهذا؟ بل إلام استند هو شخصيّاً في قبول ترشيح نفسه إلى منصب كهذا وهو واثق بقدراته مرتاح الضَّمير عالي الجبين كنسر يحلِّق في فضاء حطِّين؟
لا أظنُّكم تنتظرون منّي جواباً معروفاً على تساؤلاتي البريئة فعلاً فبصراحة لا يهمُّني أن أتتبَّع التّاريخ النِّضالي “للأب القائد” المنتخب والتَّضحيات الجسام الَّتي قدَّمها “الملهم” في سبيل الثَّورة والشَّعب وحساسيَّته المفرطة بمفهوم “لم يبق لنا إلّا أنت” الَّتي دفعته إلى التَّنازلات الَّتي أقدم عليها في هذه المرحلة العصيبة والَّتي أملتها عليه وطنيَّته وثورجيَّته كي يقبل مكرهاً بالتَّرشُّح لهذا المنصب. ولا أتوقَّع منكم أن تجيبوا على أسئلتي هذه فمن البداهة بمكان أن نعرف الإجابات عن ظهر قلب. لكنَّني سأسأل الآن سؤالاً وأرجو من الجميع الإجابة عليه:
ألم يئن الأوان لتغيير هذه الوجوه الَّتي حفظنا مواقفها وكلماتها وتجرَّعنا بؤس إنجازاتها واطَّلعنا على تبعيَّتها على مدار سنيِّ الثَّورة؟ هل عقمت الثَّورة أن تخرج لنا غير هذا “المثل” وذاك “الأمل”؟ أيعقل أنَّه لم يبق فينا رجل رشيد؟ متى سننتهي من هذه المواقف ومفارقاتها ونضع حدّاً لها؟
رحم الله الفنّان عبد اللَّطيف فتحي حين فاض به ممّا يحدث معه وراح يكرِّر عبارة “هرّو هرّو” في مسرحيَّته دون أن يصل إلى قفلة اللّازمة حتَّى لا يضربه خصمه بما يحمل في يده فراح يكرِّر “أعد من هرّو هرّو”. ونحن الآن في موقف مشابه من حيث السُّخريَة والألم مع إصرار هؤلاء على جعلنا نعيش ما عاشه ذلك “الضَّحيَّة” ويدفعوننا دفعاً إلى نطق الكلمة الفخ كي يبقونا تحت تهديد “التنكة” الَّتي يحملونها فوق رؤوسنا ويعيدونا إلى مربَّع “لم يبق لنا إلّا أنت”.