د – عبد الناصر سكرية
من بديهيات الصراع العربي – الصهيوني التي بينتها الأيام وطبيعة العدوان والمواجهة، أنها حرب وجودية تستهدف ليس فقط فلسطين وإنما البلدان العربية بأسرها بمن فيها وما عليها وما فيها أيضًا. وأن الكيان الصهيوني الذي يحتل أرض فلسطين العربية إنما هو قاعدة متقدمة للعدوان الاستعماري على الوجود العربي المستمر منذ خمسة قرون على الأقل وبشكل متواصل. والمواجهة شاملة تمتد في أرجاء الأرض العربية وحيثما يتواجد عربي ومصالح عربية. وتمتد إلى كل ميادين الحياة وأنواع الأنشطة الإنسانية الحياتية.
استنادًا إلى هذه البديهيات، تشكل مواجهة العدوان الاستعماري – الصهيوني، ركنًا أساسيًا من مقومات الحياة العربية المعاصرة. وكل نشاط عربي لا يأخذ في اعتباراته هذه المواجهة وضروراتها وما تقتضيه، إنما يبقى عاجزًا عن تحقيق أي إنجاز إستراتيجي يصلح لبناء المستقبل الأفضل. وإن أنجز شيئًا من هذا فلن يستطيع حمايته دون مشروع للمواجهة متكامل الأبعاد.
إن أبجديات أية مواجهة أن يكون لديها رؤية تترجم في مشروع واضح الأهداف محدد الغايات، يوضع للتنفيذ وفق برنامج مرحلي متصاعد حسبما تسمح به الظروف والإمكانيات.
وما لم تكن أية أعمال عسكرية محكومة بمثل هكذا رؤية ومشروع وبرنامج تنفيذي في إطار المواجهة المطلوبة، فإنها تكون إما مقامرة انفعالية طائشة مؤذية، أو تعبر عن رغبة كامنة في نفوس أصحابها للتلاعب بمتطلبات المواجهة؛ أو المتاجرة بأهدافها العامة الكبرى تغطية لغايات خاصة فئوية غير متعلقة بها؛ أو لتمرير أنشطة عدائية تحت شعارات المواجهة المفرغة من أي مضمون إيجابي. والحال كذلك فإن أكثر ما يتعرض للمتاجرة هو قضية فلسطين ومقتضيات مواجهة العدوان الصهيوني الشامل على الوجود العربي برمته.
صارت تتحدث باسمها أو بالنيابة عنها جماعات لا تمت للعروبة بصلة أصلًا. وليست لها رؤية أو مشروع أو برنامج. ولا تملك من مقتضيات المواجهة ما يلزمها ويفيدها. أما الأعمال الغوغائية الدعائية التي تفيد أصحابها لتغطية قضيتهم الخاصة بهم تحت اسم قضية فلسطين الأم؛ ثم لتمرير مشاريعهم الفئوية التي تخدم ولاءاتهم الخارجية خارج دائرة الانتماء العربي؛ وهو المستهدف؛ فليست من المواجهة في شيء؛ أو أنها تدخل في نطاق التشويش والمتاجرة وتحريف الوعي وتزوير الحقائق المتعلقة بالصراع والمواجهة والعدوان. ومهما تكن النوايا؛ فإن هذا يخدم غايات العدوان ويفيد قوى العدوان بتشتيت عناصر القوة اللازم تجميعها للمواجهة.
ولعل هذا ما ينطبق بوضوح على الدور الإيراني في عموم المنطقة العربية. لا سيما في المشرق العربي الذي يشكل الطوق المحيط بفلسطين المحتلة والذي يشكل منطلق أية مواجهة لدحر العدوان الصهيوني.
وطالما أنه عدوان يستهدف الوجود العربي، فليست إيران معنية بدحره. وليست مطالبة بأن تفعل. أما أن تتخذ من قضية فلسطين ستارًا لتمرير مشروعها التوسعي الفئوي الطامع الحاقد على العرب وتاريخهم؛ فهو ما لا يمكن لأي عربي حر شريف أن يقبله أو يسكت عنه.
وما ينطبق على إيران؛ ينطبق على امتداداتها المحلية الميليشيوية على الأرض العربية. فهي تلتزم ولاءً كاملًا متكاملًا بالسياسة الإيرانية وغاياتها التوسعية في الأرض العربية. وتبرر هذا الولاء بحيثيات عقائدية دينية. فتضفي على سلوكياتها طابعًا مذهبيًا تقسيميًا لا يختلف على خطره الاجتماعي والوطني والإنساني معًا اثنان، من حيث هو عقيدة تعصبية انغلاقيه مربوطة بالدين. وهنا وجه أخطر.
وإذا أضفنا تنكرها للعروبة ولأي انتماء يمت إليها بصلة، نصل إلى معرفة موضوعية بحقيقة شعاراتها المتعلقة بفلسطين وقضيتها.
فحينما ترفض العروبة هوية وانتماء، وتسلك نهجا مذهبيًا تقسيميًا، ولا تملك أية رؤية لطبيعة العدوان وغاياته ومن يقف وراءه ولماذا، ولا تملك أي مشروع للمواجهة لا في مدى منظور أو قريب ولا في أي مدى آخر.
وليس لديها أي برنامج عملي للمواجهة أو حتى تصور لكيفية الرد، ومقتضيات الرد؛ وبديهيات الرد والصمود؛ ولا تحرص على علاقة ود وتكامل مع البيئة الشعبية التي يفترض أن تكون ساحة مواجهة بل طاقة المواجهة الرئيسية؛ فكيف يمكن إذن لهذه الأذرع الإيرانية أن تكون، موضوعيًا، أداة مواجهة للعدوان الصهيوني على الوجود العربي؟؟
لا بل كيف يمكنها أن تشكل قوة فاعلة؛ وهكذا حالها؛ في مجرد مقاومة العدوان أو الرد عليه؟؟
استنادًا إلى كل المعطيات الميدانية والموضوعية لا يمكن لإيران وأدواتها العربية أن تشكل حتى رافعة لحالة المقاومة العربية المطلوبة وتأمين متطلبات الصمود الشعبي في مجتمع الطوق الذي يمثل ساحة الصراع الأساسية ومنطلقها الجغرافي والبشري والتاريخي.
في سياق هذه المعطيات لا يمكن فهم الأنشطة الإعلامية – العسكرية لحزب إيران اللبناني في الأيام المنصرمة في جنوب لبنان؛ إلا بكونها استعراضات بهلوانية دعائية تسويقية يحتاج الطرفان إليها حاليًا لأسباب محلية عديدة. وحتى وفقًا لمصادر الطرفين وتصريحاتهما؛ فالأمر ليس أكثر من (هوبرة) كلامية ومزايدات لفظية بغرض الاستثمار الإعلامي والتوظيف السياسي.
الطرفان مرتبطان باتفاقية ” سلام ” تحفظ الأمن على حدود لبنان الجنوبية منذ ٢٠٠٦؛ وكل أعمال عسكرية بينهما على الأرض اللبنانية لا يمكن فهمها وتفسيرها إلا في إطار الأنشطة المحسوبة المقدرة بتنسيق الطرفين وتوافقهما على نتائجها.
أما الظن بأن مثل هذه التظاهرات الغوغائية؛ وإن رافقتها مناوشات عسكرية؛ سوف تكون موضع تصديق وتصفيق من اللبنانيين والعرب؛ فإنه تهافت مكشوف وتلاعب سفيه بالعقول.