أكرم البني
على عكس التوقعات والتقديرات التي تستبعد حرباً بين أطراف محور «الممانعة» وإسرائيل، ثمة توقعات واجتهادات تقول بحرب قادمة خلال فترة لا تتعدى شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، على أن يكون لبنان ميدانها الرئيسي، لكن بالتكامل، مع تفعيل الجبهتين السورية والفلسطينية، ودلائل هذا التكامل الاتفاق الجديد بين طهران ودمشق لتطوير أنظمة الدفاع الجوي السورية، وتواتر التصعيد اللفظي والتهديدات لقادة من حركة «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«حزب الله» ضد حكومة تل أبيب، ثم توقيت حديث المعاون السياسي للأمين العام لـ«حزب الله» حسين خليل، عن تفاصيل جديدة متعلقة بدور سوريا خلال حرب 2006، أهمها إعلان جاهزيتها لفتح جبهة الجولان، يعزز ذلك ما أعلنته إسرائيل منذ أيام عن القضاء على أفراد خلية ترتبط بإيران حاولت زرع عبوات ناسفة عبر الحدود السورية، تلته ضربات جوية، اعتبرتها إسرائيل عقابية، طالت تمركزات حدودية لقوات النظام السوري.
ثمة من يرجح احتمال الحرب ربطاً بتنامي حاجة تل أبيب وواشنطن، وإنْ بدرجات ولأسباب متباينة، لهذا الخيار، فالرئيس دونالد ترمب وقد تراجعت حظوظه بولاية ثانية، حسب استطلاعات الرأي، يبحث عما يمكن أن يعزز فرص فوزه من جديد، وربما إحداها تشجيع إسرائيل لتشديد ضرباتها ضد المواقع الإيرانية في سوريا، وإن أفضت لاندلاع حرب واسعة، والمعروف أن حرباً صغيرة تجلب نصراً، هي إحدى الطرق التقليدية لجذب الناخبين، خاصة عقب الكارثة الاقتصادية التي نجمت عن الحجْر الصحي، وردود الفعل الشعبية الأميركية التي تتسع ضد بعض ظواهر التمييز العنصري.
أما حاجة تل أبيب فتتجلى ليس فقط بتوظيف هذه الحرب كوسيلة للالتفاف على خلافاتها وأزماتها الداخلية، بل للنيل من «حزب الله» والوجود الإيراني في سوريا، ووضع حد لما تعتبره مستجدات نوعية عززت تهديدهما لمصالحها الراهنة والاستراتيجية، خاصة بعد أن غدت ميليشيا طهران قرب حدودها، وتجاوز «حزب الله» مواقعه التقليدية في لبنان متوغلاً في عمق الشريط الحدودي السوري، من مدينة القصير، ريف حمص، حتى مرتفعات الزبداني، غرب دمشق، ما أكسب محور «الممانعة» قدرة أكبر على المواجهة والمناورة، وعلى إخفاء منظومته الصاروخية وبعض الأسلحة الاستراتيجية، الأمر الذي تعتبره تل أبيب خطاً أحمر وتطوراً خطيراً لا يمكن تمريره، أو السكوت عنه.
ولعل ما يشجع أكثر، أميركا وإسرائيل، على الحرب، تقدم مناخ عام يوفر موضوعياً الغطاء السياسي والعسكري لهما إن بادرتا بالهجوم، يحدوه انحسار شعبية إيران وحلفائها على الصعيدين العربي والعالمي وسقوط ادعاءاتهم حول تحرير فلسطين، ثم التداعيات السلبية عليهم لجائحة «كورونا» ولأزماتهم الاجتماعية والاقتصادية ولتوغلهم المخيف في المأساتين السورية واليمنية، والأهم التزايد اللافت لأعداد الشيعة في العراق ولبنان الرافضين للصراع المذهبي والمناهضين لسياسات طهران التدخلية وسعيها للهيمنة على المنطقة، والأهم الاعتقاد بأن ثمار ما قامت به واشنطن خلال السنوات الماضية من ضغوط وعقوبات على إيران وحلفائها قد أينعت وحان قطافها، ولنقل أدّت وظيفتها في خلق ظروف مؤاتية لشن حرب سريعة وحاسمة، وبأقل تكلفة، لكسر وتحجيم أذرع طهران في لبنان وسوريا وفلسطين.
في المقابل، ثمة من يرى أن العكس يمكن أن يحصل، وأن أطراف محور الممانعة باتت مستعدة للذهاب بعيداً لفك الحصار وتخفيف الضغوط الاقتصادية والمالية التي يتعرضون لها، في رهان على أن تفضي هذه الحرب لقلب الطاولة وخلط جميع الأوراق، وأن تتحول نتائجها ورقة خاسرة لترمب في السباق الرئاسي، وهو تقليد مألوف أن تعتمد الأنظمة والجماعات الاستبدادية المأزومة سياسة الهروب إلى الأمام، وتلجأ إلى افتعال حروب خارجية لربح الوقت وفرص الهروب من المشكلات التي يتخبطون بها، خاصة أن التوغل في أساليب القمع والعنف لم يعد يجديهم نفعاً، ولن تكون النتيجة أفضل في حال الانكفاء والتراجع، ما يترك أمامهم نافذة تسعير الصراع وافتعال حرب خارجية، للالتفاف على الأسباب الحقيقية لأزماتهم وكسب نقاط تساعدهم في تحصيل بعض الشرعية ومعالجة أهم التصدعات والعقبات!
ومع أن إيران وحلفاءها غارقون في مستنقعات العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتعيش شعوبهم أزمة اقتصادية ومعاناة حياتية وصحية لا سابق لها، ثمة دافع قوي لديهم اليوم لشن حرب كرد رادع وانتقامي، أو على الأقل لحفظ ماء الوجه، على عمليات قصف إسرائيلية لم تتوقف ضد مرتكزات إيران و«حزب الله» وحركة «الجهاد الإسلامي» في سوريا، وطالت عدداً من رموزهم وكوادرهم، بما في ذلك توظيف تداعيات هذه الحرب للحد من تفرد روسيا بالمصير السوري، خاصة أن التباين بين موسكو وطهران وصل إلى درجة تشي بخلافات لم يعد يصح تجاهلها، وآخر تجلياتها توجيه أصابع الاتهام للفرقة الرابعة التي تدعمها إيران في تفجير حافلة للقوات الروسية قرب قاعدة حميميم، كما تبادل عمليات الاغتيال بين فصيلين في محافظة درعا، أحدهما موالٍ لطهران، والآخر لموسكو، ثم تقدم القوات الروسية قبل أيام للسيطرة على حقل «الورد» النفطي بدير الزور، بعد إخراج الميليشيات الإيرانية منه، وما يزيد خيار الحرب وضوحاً، استشعار طهران وحلفائها بحاجتهم لرد استباقي على ما رشح من تحضيرات إسرائيلية لشن الحرب، تحدوهم قناعة بأن حرباً يخوضونها بإرادتهم اليوم، وتؤهلهم ربما لتحقيق بعض الانتصار، هي أقل سوءاً من حرب تفرض عليهم، وهزيمتهم فيها شبه مؤكدة.
وحيث لن تغفل الأطراف المعنية بهذه الحرب العتيدة حسابات التكلفة والثمن الذي ربما يكون باهظاً، فإن سقفها يتحدد ربما بوجود مصلحة أميركية وإسرائيلية مضمرة في استمرار حضور إيران وأطراف محورها كفزاعة في المشهد السياسي، لشلّ الحياة في سوريا ولبنان والعراق وتدمير فرص تقدمها، أو لمحاصرة الأطراف العربية وإشغالها، تقابلها مصلحة مكشوفة لمحور «الممانعة» في الاتكاء على بقاء التهديد الإسرائيلي لخلط الأوراق وتبرير سياسته التدخلية في شؤون المنطقة!
والحال، سواء أحجمت إسرائيل مؤقتاً، ومن خلفها واشنطن، عن شنّ حرب جديدة ضد محور الممانعة، أو تجرعت طهران وحلفاؤها، بذلّ وصمت، كأس ما يتكبدونه من خسائر، متحسبين من حرب واسعة قد تطيح ما راكموه طيلة سنين، فإن موجات التوتر والتصعيد لن تهدأ، وربما تفضي إلى اندفاعات مدمرة، يغدو معها ما تعيشه المنطقة، هذه الأيام، أشبه بلعب أطفال.
المصدر: الشرق الأوسط