عبد الناصر سكرية
ظهرت في الآونة الأخيرة تعبيرات سياسية ذات دلالات مستقبلية غير بريئة، وغير مطمئنة، “الدولة الفاشلة” أكثرها إثارة للريبة والشك، فيما يوحي إليه التعبير من تحضيرات تخصّ مستقبل لبنان، خصوصا أنه يصدر عن مثقفين أو محللين أو إعلاميين، يعرفون تماما الفرق بين الدولة والسلطة.
الوطن هو الأرض والشعب والدولة، الدولة هي المؤسسات الحقوقية والقانونية والدستورية والتشريعية والتنفيذية والقضائية والإقتصادية والعسكرية، فهي جميعا من مقومات وجود أي وطن، ومن ضروريات بل أساسيات حياة الناس فوق أرض وطنهم.
أما السلطة، فهي مجموع الأشخاص والقوى التي تحكم تلك المؤسسات وتديرها وتسيرها، والتي يفترض أن تديرها لمصلحة الشعب والوطن وحمايتهما، ورد الأخطار عنهما وحل مشكلاتهما الحياتية والمعيشية، وحينما لا يتحقق هذا، أي حينما لا تنجح السلطة ممثلة بأشخاص معينين يعملون وفق نهج محدد وسياسة مرسومة، في تحقيق مصالح الشعب وحلّ مشكلاته، تكون هي الفاشلة، وينبغي أن تُحاسَب وتتحمل مسؤولية عملها ونتائج فشلها، السلطة تفشل، الفشل يصيب الأشخاص فيما يعملون، ولا يصيب الدولة أي المؤسسات، التي يتحكم بها أشخاص السلطة المعينون.
بناء عليه، إن كل ما جرى ويجري في لبنان منذ عقود، يبين ويبرهن ويؤكد لكل ذوي العقول العاملة، فشل السلطة الحاكمة بكل من تعاقب عليها، لا بل دلت الأحداث المتعاقبة على إصرارها على الفشل، وتمسكها بكل ما يؤدي إليه، ومحاربة كل ما يمكن أن يحمل إنجازا أو نجاحا أو حلا لمشكلة، كانت السلطة عامدة متعمدة تراكم الفشل وأسبابه معا، إمعانا في فسادها وإجرامها بحق الشعب والوطن.
السلطة متمسكة بإستكمال عدوانها المتواصل على الناس، على الشعب، كما على الوطن، الذي لا تخفي تنكرها له بإصرارها على نهبه وبيعه خردة للنفوذ الأجنبي، في البرّ، كما في البحر والجو.
السلطة ليست فاشلة فقط، بل مصرة على الفشل، بما يفيد أنها مكلفة تكليفا وظيفيا بالفشل في كل ميدان وكل مجال، حتى الفشل في إبقاء الإنسان في وطنه، مجرد البقاء في وطنه مهما تكن نوعية حياته ومستواها.
بالعكس من الفشل، فقد نجحت السلطة المجرمة المأجورة المرتهنة في زرع القرف في نفوس اللبنانيين، من إستمرار وجودهم في بلدهم الذي يحبونه، ونجحت في زراعة رغبة قوية لدى أبناء الوطن في مغادرته والإغتراب عنه، الأغنياء قبل الفقراء، المتعلمين قبل غيرهم، فقط هذا ما نجحت فيه والباقي كله فشل.
كان يمكن للفشل أن يصحح، فيما لو كان ناتج نقص في المعرفة أو ضعف في الخبرة، لكن تكرار الفشل مئات المرات وفي كل مجال وميدان لا يعود فشلا، لقد أصبح عدوانا مستمرا متواصلا على لبنان وشعبه، حتى لو كان غير مقصود أو لم يكن فعلا متعمدا، فالسلطة تحتل المؤسسات وتعتدي بها عليها وعلى الشعب، وهذا ما يجب أن ينتهي بأسرع وقت، ليس فقط تحرير مؤسسات الدولة منها ووقف عدوانها على الشعب، بل محاسبتها على إجرامها وعدوانها، وما أوصلت لبنان إليه من خراب وإنهيار.
كيف يمكن لهذا أن يتم؟! بكل تأكيد إن إرادة الشعب اللبناني إن توحدت، قادرة على فعله، ووضع حد لمسلسل البؤس والإنهيار وإغتصاب الدولة من قبل سلطة الفاسدين المرتزقة، لن تكفي صفحات كثيرة لبيان مدى إتساع عدوان السلطة على الوطن وشعبه، لم يعد بيان هذا لازما، فالأمور أوضح من أي إدعاء أو إلتفاف أو إستحمار للعقول.
في المقابل، كل هذا لا يعني فشل الدولة، أي فشل المؤسسات، إن القول بـ”فشل الدولة” يوحي بضرورة تصحيح الفشل بتغيير الدولة، فهل غير الدويلات التقسيمية الفيدرالية من بديل عن الدولة؟ وهل هذا ما يريدون؟! هل هذا ما يتحضرون له ويستحضرون من المخاطر والأحداث ما يدفع اللبنانيين مرغمين إلى قبوله أو السكوت عنه؟ وهل الحديث المعاد المتكرر في غير مناسبة وعلى غير لسان أو قلم، عن الفيدرالية يصب في ذات المنحى التقسيمي؟ أليس حديث الدولة الفاشلة من مكملات إجراءات التقسيم التي تظللها الدعوة إلى الفيدرالية؟
وهل لبنان قابل للانقسام أصلا، وهو البلد الصغير المحدود الإمكانيات والجغرافيا أيضا؟ في سلوك السلطة ما قبل الإنفجار الكبير في مرفأ بيروت، ما يبين ليس عجزها وفشلها وسوؤها فقط، بل دفعها الأمور نحو الهاوية العميقة، وإمتناعها عن ممارسة أي دور، سوى الكذب على الناس ومخادعتهم وإستحمار عقولهم وإنتهاك حقوقهم وحرياتهم وكراماتهم، وكأنها مساقة برغبتها إلى هذا المصير.
وما سلوكها بعد الإنفجار – الجريمة، إلا تأكيدا على استخفافها ليس بعقول الناس وحقوقهم ومصالحهم، بل بوجودهم ذاته وحياتهم ذاتها، تعامل السلطة مع الحدث أقل ما يقال فيه الاستخفاف بحياة الناس جميعا وبالوطن ذاته، الاستخفاف والتفريط حتى بأرواح من سقطوا شهداء، ومن لا يزالون مفقودين، مكان الجريمة – العدوان مفتوح مستباح؛ تبريرات تافهة سخيفة غبية، لجنة تحقيق ممن هم متهمون جميعا! بلادة في كل سلوك وكل تطرف من أجهزة السلطة ومسؤوليها في أعلى المستويات، إغراق الناس في تفاصيل هامشية، يريدون بها كعادتهم تمييع الأمر الجلل، وتضييع المسؤولية وترقيع الجريمة بخبثهم وتوقيعها على مقاس بعض الصغار الموظفين.
ليست السلطة صالحة لأي شيء نافع أو مفيد، فهل تصلح لإزالة شبح ما يبدو مقبلا، وما تتراكم خيالاته ونذره في الأفق القريب؟ وهل تصلح لما هو أقل من هذا بكثير؟ مواساة المنكوبين وإعانة المتضررين؟ أليست أعجز من أن ترمم مسكنا، فكيف بها تعيد بناء مدينة منكوبة ومرافقها المدمرة؟ أليست نذر التدويل والتدخلات الأجنبية قريبة واضحة؟
واضح أن السلطة ذاتها بأطرافها كلها، السياسية والميليشيوية تدفع البلاد في هذا الاتجاه، من ليس ولاؤه لأرضه وشعبه لن يكترث لموت الشعب ولو مات جميعا، ولن يبالي ولو ضاعت الأرض كلها، المهم، أن يبقى في قوقعته على كرسي حكمه وعرين إمتيازاته، المسلوبة من دماء الشعب وصرخات الوطن.
المصدر: “المدار نت”..