أيمن أبو هاشم
نالت بيروت عبر تاريخها الطويل والعريق، من الأوصاف والمسميّات، ما لم تحظ به مدينة في الكون، فأطلقوا عليها “جوليا السعيدة، مفتاح الشرق، زهرة سورية، ست الدنيا، لؤلؤة المدن، باريس الشرق، وغيرها من الألقاب التي تغازل سحرها الأبديِّ”. لذا بقيت هذه المدينة – الأيقونة، التي أقيمت بجوار مينائها منذ نشوئها الأقدم، تُزين بجمالها، وجلال إطلالتها، الساحل الشرقي للبحر المتوسط. ومع تعاظم دورها الاقتصادي والثقافي والاجتماعي في الحياة اللبنانية المعاصرة، أصبحت منذ النصف الثاني من القرن العشرين، قبلة التجار والصناعيين والمستثمرين، وواجهةً مفتوحةً لكل المثقفين والفنانين والشعراء، ومقصداً لكل السياسيين المنفيين على اختلاف مشاربهم، وملجأ الهاربين العرب من سجون أوطانهم. احتضنت بصدرها الرحب تيارات الحداثيين والتقليديين، حتى غدا لكل زمرةٍ ثقافيةٍ فيها مقهاها الخاص، حسب تعبير الأكاديمي الأميركي روبن كريسويل.
هذه المدينة المتوقدة بالحياة والفرح، كانت الحرية مرفأ أسرارها، ويخضور أحلامها القصيّة، فألهبت مخيلة الشعراء في ذروة بوحها اللامتناهي، ومنحت للصحافة وأقلام أعمدتها، مناخاً للقول بلا رقيبٍ أو حجاب، وفتحت مسارب الأفكار الجديدة، لتجترح حداثتها الاستثنائية، بين ماضٍ لم تقطع مع حقبه الزاهية، وحاضرٍ تبنيه بشغف الأسئلة، وبريق العيون الساهمة نحو الضوء.
مثل بيروت المتفتحة والصاعدة والمدويّة، كان يستحيل أن تكون مسرحاً يَفُك طلاسم حواضرنا الحزينة، دون أن تنفجر فيها التناقضات الرابضة على جسدها الغض، فأضرمت مخاوف الطغاة والمحتلين من عبق حريتها، نار حربها الأهلية التي امتدت لخمسة عشر عاماً، انتصبت فيها الأحقاد والمتاريس وخطوط التماس، وقتلت الكثير من أحلام أبنائها وعاشقيها، بما لا يقل عمّا أصاب عمرانها من دمارٍ وتشويه. انتهت الحرب في نهاية الثمانينات، على جراحٍ لم تلتئم، وذكريات مؤلمة لا تبارح مخيلة من عاشوها، وأضحى قادة ميليشيات حربها البغيضة، أقطاب تسويتها النائمة على دماء حقبتها السوداء، وبيادق طائفية تأتمر بحاكمها الأسدي، الذي تولّى برخصةٍ دوليةٍ فاضحة، قتل ما تبقى من روح بيروت الجميلة، على طريقته الرهيبة في إخضاع الحواضر السورية.
لم ترضخ بيروت، ولم تقبل تدجينها، طيلة الزمن الأسدي الساطي عليها حد الاختناق، وكانت تدرك بحدسها وتجربتها، أن الوحشين الإيراني والأسدي، يتربصان بها، طالما أن وكيلهما المحلي ” حزب الله ومعه حركة أمل” فيهما من الحقد الدفين على بيروت، ما يكفي لاستباحتها كلّما أشهرت تمردها على الظلم. كان اجتياح بيروت في 7 أيار/مايو 2008، رسالةً فصيحة لإخراس كل صوتٍ حر، لم يتعظ بعد من جريمة اغتيال الحريري عام 2005، وغيرها من الاغتيالات التي حصدت العديد من الأصوات الحرة، التي صدحت لحرية بيروت وتحريرها من القتلة.
كبرت آلام بيروت وأحزانها حتى فاضت قدرتها على الاحتمال، ولأنها عاصمة لبنان وقلبه، اندلعت فيها الثورة الموعودة في 17 تشرين 2019، وامتدت من شمال لبنان إلى جنوبه. ثورةً عابرةً للطوائف والمذاهب والمناطق، أطلقت صرختها في وجه الطبقة السياسية الشرهة للسلطة والنهب، وفي وجه هيمنة حزب الله على مؤسسات الدولة، واحتكاره سلاح الموت والترهيب بحق بقية اللبنانيين. لم يقبل أحرار لبنان بأقل من إسقاط كل من ذبحوا الوطن، ونهبوا مقدراته، وأفقروا شعبه، وخانوا قضيته. فكان شعار ” كلن يعني كلن ” التعبير الأدق عن وعي الثورة لشروط تحرر وخلاص لبنان، بلا أي مواربة والتفاف على حقائق الواقع المرير.
أسقطت الثورة كل الأقنعة، ومعها تعرّت سلطة وقيادات وأحزاب وشعارات ومرحلة، قادت لبنان بتحالفها اللعين إلى قعر الهاوية، وكادت أن تقبض على أنفاس بيروت بلا رحمة. خرجت خفافيش الموت من خندقها الغميق، لإطفاء جذوة الثورة بالحديد والنار والتشبيح، لكن عشّاق الحرية لم يهابوا القمع والتنكيل، في جولةٍ عارمة، قاومت فيها أعين الحق، مخارز الباطل، وكانت الساحات والميادين، تهدر وتغني للبنان المنتصب شامخاً كشجر الأرز. ولأن بيروت هي القلب والنبض وشعلة التغيير، كان الانتقام منها أكبر وأشد وأفظع، فدمروا ميناءها ووجه حاضرتها البهيّة، بانفجارٍ مروع يفوق الخيال، أدمى القلوب قبل دمع العيون، بعد أن افترشت دماء الأبرياء، وملأت صرخات الضحايا، أزهى وأروع مدائن شرقنا المستباح.
أحرق الأشرار بفسادهم وإهمالهم وجبروتهم بيروت، وانصرفوا لاجترار رواياتهم المفضوحة بكل خسةٍ وصفاقة، وتركوا لأهلها لملمة جراحها على ركامٍ من الخراب والأحزان. لكن مافيا الحكم والقمع والترويع، فاتها أن بيروت عصية على الموت، وهي لا تنام على ضيم، وتعرف كيف تنفض الغبار عنها، وكيف تستعيد حياتها بعد كل الحروب والمآسي، التي شهدتها عبر تاريخها القديم الحديث. وقبل أن يجف دم بيروت النازفة، اشتعلت مجدداً ساحات الغضب والتحدي، وانتصبت المشانق بوجه كل المسؤولين عن خطفها وإفقارها وتجويعها وتدميرها.
ستبقى بيروت وبحرها المشرع للشمس، أقوى من الموت، وأكبر من أوهام العابرين، لأنها كما قال عاشقها المبدع محمود درويش في قصيدته ” بيروت “:
تفاحةٌ للبحر، نرجسةُ الرخام، فراشةٌ حجريةٌ بيروت. شكلُ الروح في المرآة، وصف المرأة الأولى، ورائحة الغمام… بيروت من تعبٍ ومن ذهبٍ، وأندلسٍ وشام، فضةٌ، زبدٌ، وصايا الأرض في ريش الحمام، وفاةُ سنبلةٍ، تشردُ نجمةٍ، بيني وبين حبيبتي بيروت، لم أسمع دمي من قبلُ ينطقُ باسم عاشقةٍ تنام على دمي… وتنام.
المصدر: الحرية أولا