دلال البزري
الانفجار النووي كان منعطفاً. وفيه شيءٌ من الغرابة. حزب الله، المحمول على انتصارات لا تُحصى، وبأوصافٍ مثلها قضتْ على كل المعاني الممكنة: إلهية، إستراتيجية، تاريخية .. حزب الله الذي يراقب، بعين سحرية وصريحة، كل المعابر، البرّية والبحرية والجوية، ويسيطر عليها. حزب الله الذي خاضَ معركة دامية في 7 مايو/أيار 2008، من أجل الحفاظ على واحدةٍ من تلك العيون، في المطار، وخرج أمينه العام بوصف لها، ما زال يندي الجبين، أنها كانت “يوماً مجيداً من أيام المقاومة”: حيث قتلَ وحرقَ ودمّرَ في العاصمة ما لم يتجرأ عليه جيش الاحتلال الإسرائيلي أن يفعله في صيف 1982. حزب الله الذي شلّ البلاد ثمانية أشهر من أجل تصعيد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية؛ وتدليل صهره، جبران باسيل، حتى أصابه الجنون. حزب الله الذي طالما انتفخ صدر أمينه العام، وهو يصرّح بأنه (الحزب) صار “قوة إقليمية”، بعدما نفّذ أجندة “الحرس الثوري الإيراني”، في سورية خصوصاً، حيث زرَع الموت والدمار. وفي العراق واليمن، حيث لا نعرف تماماً، وربما نعلم لاحقاً، كم من المهارات المليشياوية، والعصبية الإجرامية .. رماها بوجه أهلهما. واللائحة تطول.. هذا الحزب لم يعُد يعرف شيئاً عن الميناء المستهدف من الانفجار. أمينه العام يتباهى، في خطاب ما بعد الانفجار، بأنه يعلم عن ميناء حيفا أكثر مما يعلم عن ميناء بيروت. وهو مسنودٌ، بهذا “الاعتراف”، بكميةٍ من الازدراء الشعبوي، الذي يحمله جمهوره الواسع والضيق، تجاه بيروت “الماجنة، المزدهرة، السعيدة”، التي لا تتصدّر شرف الاستشهاد والجهاد وأنواع الموت الأخرى التي يجرّها “خط الممانعة” على أهلها، وأهل كل لبنان.
حسناً، أمين عام حزب الله لا يعرف شيئا عن المرفأ. هو الذي يراقب ويعيّن ويشترط .. هو العارف بكل شيء، مهندسه، عن درجات الفساد التي تنخر الإدارات الرسمية. هو الذي يتلو، في كل المناسبات و”الأحداث”، فعل إدانة إسرائيل بتورّطها. هو الذي اتهم إسرائيل بقتل رفيق الحريري، وكل الشخصيات التي أيدته للتخلّص من الوصاية السورية على البلاد، منذ عقد ونصف العقد. هو الذي كتب، قبل أيام من الانفجار، مسرحية الثأر لأحد “مجاهديه” الذي سقط في سورية دفاعاً عن إيران، فكانت مسرحية فاشلة، بفصول متخبِّطة؛ بدأت بعيد إطلاقها بتوزيع التبريكات والحلويات فرحاً بـ”نجاح العملية ضد إسرائيل”، تلاها ابتهاج والدة “الشهيد” على الثأر لابنها، وهي توزّع الحلويات على المارّة في قريتها الجنوبية.. وسرّب، في الوقت نفسه، “معلوماتٍ أولية” عن هذه العملية، لم يتجرّأ معظم الإعلام على نشرها، ثم تراجع عنها بعد أقل من ساعة، لينفي خبر الثأر هذا. ويؤكد، مغْتبطاً كما هي عادته، أن كل الموضوع أن إسرائيل “تتوهّم أشباحا”؛ وهذا دليل الرعب “الذي نبثّه في قلبها”. هو الحزب الشجاع الذي لا يكفّ عن المقارنة بين “خوف الإسرائيليين” وانعدام هذا الخوف في صفوفه، فيستهزئ بهم… هذا الحزب، يتبرّع، منذ لحظات الانفجار الأولى، بنفي تورّط إسرائيل به. وهذه نادرة، تسجَّل على الحزب، بأن يلتقي مع إسرائيل في نفي ضلوعها في الانفجار، منذ لحظاته الأولى. ولكنه يترك الحرية لكتّابه وكتَبَته بأن يشيروا إليها، بفرضياتٍ وبمعلوماتٍ سرّية وبتحليلات .. إلخ، قوامها كلها أن “بلى… إسرائيل ضالعة في الانفجار”. وبعض منهم يورد أسباباً “جوهرية”، منها مثلاً أن من الآن وحتى شهرين، سوف تكون القنبلة النووية الإيرانية قد جهزت؛ وهذا ما يفزع إسرائيل، المستعجلة للقضاء على هذا الطموح، بالغارات على المواقع الإيرانية؛ وبتحقيق التهديد الذي أطلقه نتنياهو يوماً، إنه هذه المرّة، سوف يضرب “الدولة اللبنانية”، لا مواقع حزب الله وحسب؛ وبأنه سوف يعيد لبنان إلى “العصر الحجري”. وآخر الجواهر، تبرُّع أمل أبو زيد، مستشار حليفه الأوثق ميشال عون للشؤون الروسية، بالتلميح: “إذا ثبت وجود اعتداء إسرائيلي وتورّط الكيان المحتل في انفجار مرفأ بيروت، فإن المقاومة ستردّ عليه”..
وقد يكون للحزب أسبابه، في تبرئة الإسرائيليين من الجريمة. ساعدته إسرائيل على ذلك، بأن نفت مسؤوليتها، بأن ذرَفت دموع التماسيح، على المأساة التي نزلت على لبنان. أما لماذا؟ لماذا هذا الصمت، غير التقليدي، للحزب على إسرائيل، فيمكن الافتراض: أولاً، أنه لو كانت إسرائيل قد فعلتها، فهذا يعني خرقاً منها لـ”قواعد الاشتباك” التي سادت على الحدود الجنوبية منذ نهاية حرب 2006. وهي، أي القواعد، تقوم على “الردّ” على عملياتٍ إسرائيليةٍ تخصّ لبنان، لا تتجاوز حدود “الضربة المدروسة”، وأحيانا يكون أقلّ منها. المهم أن يترافق الردّ مع تجييش الجماهير بخطاباتٍ رنّانة عن القدس وفلسطين، كي تبقى على ولائها.
الافتراض الثاني: لو كانت إسرائيل هي الفاعلة، لثبتَ على الحزب استخدامه الدروع البشرية في قتاله لها. أي بأن يكون المدنيون وأرزاقهم، هم الذين يردّون، يحمون، يحتضنون .. الحزب. فيسهل بذلك مطالبة الحزب بنزع سلاحه. وهذه المرّة، سميكة، غليظة، جسيمة. والدروع البشرية لم تكن مكوّنة من “بيئة” الحزب، إنما كانت بغالبيتها مسيحية؛ التي تُحسب أصواتها على ميشال عون، الحليف الموثوق إلى رئاسة الجمهورية، أو منافسيه من “القوات اللبنانية” و”الكتائب”. ولن يسْكتها “الطريق إلى القدس”، ولا التعبئة المذهبية، ولا العقيدة الدينية.
ثالثاً: يرى الحزب الموضوع الآن “إقليميا”، يصبح أوسع نظراً: هي إيران نفسها، تتعرّض لتفجيراتٍ على مواقعها العسكرية النووية. ولكنها لا تتهم إسرائيل، ولا إسرائيل تعترف رسمياً بضرباتها. بعض الصعاليك من كتابها وإعلامييها، وحدهم يغضبون، ويهدّدون، على طريقة آل الأسد أنفسهم: أن إيران سوف تردّ في المكان والتوقيت المناسبين. ويتوّج حزب الله كل هذا النكران بقراراتٍ تحميه، يتشارك بها مع الذين أصعدهم إلى الحكم. من أن لجنة تحقيق دولية أمر مرفوض. إذ يثق هو بكل الرؤساء الذين يمشي على رؤوسهم، فيعوّمهم: الجمهورية، الوزارة، النيابة. ويدخل في محاصصة المساعدات. وكأن الانفجار لم يستدع ذئابا أخرى.
أبرع أولئك الذئاب هو الرئيس الفرنسي الذي استمدّ خيطه المحلي اللبناني، من قوة الدعوة البطريركية إلى “حياد لبنان”. وهذه لم تأتِ أصلا من فراغ، إنما على أثر الموقف الفاتيكاني، الذي كان ثمرة لقاء دبلوماسي مع مندوبين فرنسيين وبريطانيين وأميركيين. فدخل ماكرون إلى لبنان، مكلّلا بأوراق غار، من اليأس والضياع، والألم. لا يحتاج فيها المرء إلى أكثر من أمه. فتكون “فرنسا أمَنا الحنون”، في تلك اللحظة، هي ربما الترجمة المناسِبة لتلك العلاقة التي انْبنت عليها العلاقات الفرنسية – اللبنانية، قبل الانتداب وبعده. وتلك الصرخة الداعية إلى هذا الأخير، الانتداب، بأن يعود إلينا، بعدما تحوّل حكامنا إلى مجرمين معْلنين، جيوش احتلال، يهدرون دمنا على مذبح حساباتهم “العليا” دائماً، الرخيصة أبداً. زيارة كانت صاخبةً بتفاصيلها. أثبت فيها الرئيس الفرنسي إلماماً بهذه التفاصيل، وأثار الإعجاب. على الرغم من أنه لم ينج من هُزال “المجتمع المدني” الذي اجتمع بممثليه في آخر الزيارة، ولا من المواربات السياسية للمعارضة الرسمية، الطائفية، التي لا تقلّ فساداً ونِفاقاً عن تلك التي تعتبر “حاكمة”.. فاتته أشياء صغيرة، على الرغم من ذكائه ودقة بلاغته. لكن المهم الآن أن ماكرون أعطى الدَفَق لموجة مقابلة للهيمنة الإيرانية على القرار اللبناني. ومن بعده، خذْ على مساعدات، وتضامن رسمي عربي وعالمي؛ حتى دونالد ترامب نفسه، عديم الحساسية، دخل في الموجة من أعلاها، أو أنه وجد الوقت مناسباً ليظهر مدى دعمه “المبادرة الفرنسية”.
إنها لحظة تشبه، إلى حدّ ما، واحدة أخرى سبقتها. عُرفت بـ”ثورة الأرز”، في 14 مارس/ آذار 2005، عندما برز موقف غربي، أميركي – أوروبي، دعماً لصرخة لبنانية عارمة، بأن يخرج الجيش السوري من لبنان. فكان هذا الخروج، وكانت انتخابات نيابية، بتحالفاتٍ سُميت رباعية، دخل حزب الله مع أصحاب رفيق الحريري على اللائحة نفسها. وكان الفوز الانتخابي لهم. ولكن ما لبثت العلاقة بين إيران والغرب أن “تحسّنت”، وبدا وكأن هذا الغرب غير مبالٍ ساعتها بمنطقتنا، فانقضّت قوة إيران العظمى علينا. وكان إغلاق البلاد و7 أيار وقبله حرب تموز 2006، وما تبعها من خطواتٍ مكّنت الحزب من السيطرة على لبنان؛ أخذت هذه السيطرة تمتد وتتعمّق، حتى وصلنا إلى الانفجار الكبير الذي أعاد الغرب إلينا، وهو على ما يبدو كان على درجةٍ من الجهوزية لهذا الدور.
هكذا تبلورت أكثر فأكثر فكرة لبنان “الساحة” بين قطبَي رحى، وأصبحت مباشرة. وأمهر اللاعبين في هذه الساحة، هم أولاً المتمرِّسون بها، حزب الله طبعاً، بحلفائه وخصومه. خصوصا الخصوم الذين استقتلوا بصفقاتهم المختلفة، من أجل أن يحفظ لهم الحزب دورا، أو إذناً، أو قبولا. وهؤلاء الآن يعملون مثل القدّيسين التائبين، لم يعودوا بحاجة إلى حزب الله، لم يعودوا يخافون منه، أو يحسبون ما يمكن أن يجود عليهم من فَضَلاته. إنهم مدعومون من الخارج. وكل “معسكر” الآن يقيس حجمه بحجم الدعم الذي يتلقاه، ومدى جدّيته. وسوف يدخل في “التسوية”، إذا حصلت، “وجوه” من المجتمع المدني. فيما المتظاهرون الثائرون صاروا أكثر جذريةً مما كانوا في ثورة تشرين الماضية. يجدون الجرأة بتعليق المشانق، حتى حول رقبة حسن نصر الله نفسه.. ولكنهم متفرّقون، مشتّتون، لكل واحدةٍ من مجموعاتهم أجندتها الخاصة، من العسكريين المتقاعدين، إلى جماعات “تشرين” متعدّدة الأوصاف. التغيير؟ حجم التغيير الذي نحتاجه يفوق حجمنا وخيالنا وإرادتنا.
المصدر: العربي الجديد