أيمن شروف
يتنقل لبنان في حكمه بين طائفة وأخرى، وسط تقاطع عوامل خارجية وداخلية، فتجارب حكم الطوائف تتراوح بين فاشلة وفاشلة أكثر، إلّا أن جميعها تعاود المحاولة بشتى الوسائل، وفقاً للراعي الإقليمي والدولي. وفي وقت ليس ببعيد، شعر السُنّة أنهم امتداد طبيعي للناصرية، في حين رأى المسيحيون وتحديداً الموارنة أن الغرب سيقف إلى جانبهم للنهاية، وفي المحصلة كانت النتيجة أن الغلبة، مهما عظمت، فإن استمرارها مستحيل.
اليوم، يعود الشيعة ليُجربوا كما فعل من سبقهم، ولا يبدو أن مصير التجربة ستكون مماثلة لما سبقها، إذ كُل مؤشرات ما يمرّ به لبنان في الحاضر توحي بأن ما هو مُقبل على هذا البلد الصغير سيكون أكبر وأسوأ من كُل ما سبق، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. هذا ولا يبدو في الأُفق أن من يقود مشروع الشيعية السياسية مُكترث لما يُسببه مشروعه على هذه المساحة الضيقة المليئة بالتناقضات التي ستبقى ولّادة لمشاريع انتحارية جديدة.
في ستينيات القرن الماضي، برز في لبنان مجموعة من رجال الدين الشيعة آتين من قم والنجف. أوّلهم كان موسى الصدر الذي وصل عام 1960، بعد سنوات قضاها في مدينة قم الإيرانية حيث وُلد ودرس، قبل أن ينتقل إلى النجف ليستكمل دراسته الدينية. لحق بالصدر، اثنان سيتركان بصمتهما على الطائفة الشيعية ولكن بدرجة أقل من الصدر، وهما السيد محمد حسين فضل الله والسيد محمد مهدي شمس الدين، اللذين تشاركا مع الصدر في تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.
وتُعبّر هذه الشخصيّات الثلاث عن ثلاثة مناهج مختلفة بشكل متقاطع، ففضل الله بنزعته وتكوينه وعناصر نشأته أراد أن يكون منظراً لحركة إسلاميّة عالميّة، حركة تكون سياستها هي الإسلام وكان لبنان هو المنطلق، فيما كان محمد مهدي شمس الدين فقيه علاقة الشيعة بالجماعات الإسلامية الأخرى، ضمن إطار دول أو مناطق، وفكرته عن أن في وجه ولاية الفقيه، ولاية الأمّة على نفسها وإجزاء الأمّة على نفسها.
أمّا موسى الصدر، فهو ببساطة رفع مطلب إعطاء الشيعة اللبنانيين دوراً سياسياً يناسب كتلتهم العدديّة واختصاصاتهم وكفاءاتهم الجديدة، ليس بواسطة العمل الخاص أو التنمية المناطقية، ولا عن طريق التنمية الاجتماعية العامّة، أو بنية جديدة للدولة، إنّما انطلاقاً من حصّة في الدولة القائمة.
من أقوال الصدر التي تُضيء بشكل كبير على تفكيره وخطته في آن، قوله: “وجود لبنان برهان قاطع ومناقض لوجود إسرائيل، والمحافظة على لبنان هي على السواء ضرورة دولية وواجب وطني، ويجب أن نحفظ لبنان، وطن الأديان والإنسانية، بتعميم العدالة الحقيقية”. هذه العدالة كما يراها الصدر، لا تأتي إلا من باب إخراج الشيعة من التهميش الذي يعيشون فيه وتحويلهم إلى كتلة داخل الدولة وليس على ضفافها، أريافها وضواحيها.
يقول الكاتب والباحث وضاح شرارة: “قيل شيعيّة سياسيّة عن حركة الصّدر بعد أكثر من عشر سنوات على بدئها، وهنا بدأ يتبلور عدد من نتائج حركته التي انطلقت من انشقاق في الطاقم السياسيّ الشيعي بوجه قطب مهيمن ولكنه ليس القطب الوحيد وهو كامل الأسعد (زعيم إقطاعي وسياسي)، ومن أوقات مختلفة بين 1958 و1962 وبشكل صريح وعلني سنة 1966 عندما بدأت حركة تطالب بمجلس إسلامي شيعيّ للشيعة بتشجيع من الطرف الشّهابي (نسبة لرئيس الجمهورية آنذاك فؤاد شهاب) وبتشجيع كبير جداً من السوريين”.
وموسى الصدر، بحسب شرارة، “هو وريث اتجاه موجود في قلب التشيّع اللبناني، يمثّله في مطلع القرن العشرين شخصاً اسمه عبد الحسين شرف الدين ويسمونه تيّار التّوحيد الإسلامي. والذي أكمله في 1909 وكان شرف الدين على صلة ببعض أعيان العلويين، بيت الأحمد بشكل خاص جبّ سليمان الأحمد.. وعباس الموسوي كان أحد الأشخاص الذين أكملوا في هذا التيّار الذي كان نجم حزب الله قبل اغتياله”.
وجها الصدر المتناقضان
حمل الصدر هموم الطائفة التي كانت تعتبر نفسها محرومة. استفاد من ظروف عدة، وكان الظلم الواقع على الطائفة إن من الدولة أو من قُرب الشيعة جغرافياً من إسرائيل، وبالتالي الصراع المُسلح مع إسرائيل، بمثابة قوّة دفع باتجاه تحقيق مطالب كان يراها محقة وضرورية، وبالتالي “إذا كان هناك من إعادة نظر لمّا يسمّى نظام، تتمّ إعادة النّظر هذه لمصلحة العدد والدور الشيعي”، يقول الصدر.
بحسب شرارة، كانت السياسة ملتبسة كثيراً عند الصدر، كان هناك وجه لبناني (صور الكنائس، الزيارات، الشعارات والخطابات)، ووجه ثان غير خفيّ على الإطلاق، باتّجاه انقلابي تماماً، أحد عناوينه “السّلاح زينة الرجال” ومن عناوينه الأخرى الأقلّ ظهوراً، علاقات مع الحركة الإسلامية في العراق التي أطلقها محسن الحكيم تحت اسم حزب الدعوة، وعلاقات وثيقة ومتعددة بإيران، كان هناك علاقات بنظام الشّاه. وكان هو من أتى بالعاملية المدرسة المهنيّة التي موّلتها إيران يومها. كما كان في الوقت نفسه على صلة بالخميني شخصيّاً من موقع مختلف كثيراً عمّا يزعمه حزب الله أو ما يزعموه الخمينيون، فقد كان الصّدر متقدّماً على الخميني، وأمير طاهري الذي كتب أفضل تأريخ ربما للخميني وحركته يقول إن فكرة المستضعفين وما يسمّيه “ولاية أهل الضعف أتت من موسى الصّدر”.
وكان لا بد للصدر من أجل أن يُمتّن مكانته في المجتمع الشيعي أولاً ويحوّله إلى مدخل للسياسة اللبنانية عامة، أن يكسب أبناء الطائفة، وأن يخلق لهم حافزاً كانوا قد فقدوه نتيجة عدة أسباب من بينها التهميش ودور الزعامات التقليدية والإقطاعية وبُعدهم عن الدولة ومؤسساتها وغيرها. بالتالي أدرك الصدر مُبكراً أهمية خلق إطار شيعي يجمعهم، فانكب على تكوين نواة حركة تساعده وتسهّل له مطلب خلق إطار، أو مجلس شيعي.
وفي إطار الإعداد لهذا المجلس، استخدم الصدر ذراعين. يختصرهما شرارة كالتالي: “ذراع أوّل توجّه من خلاله نحو المغتربين الأثرياء وقام بجولات في المغترب لمخاطبة المغتربين بأسلوب كان يظن هو أنهم يرغبون في سماعه، فبرأيّه المغتربون همّ قوميون عرب أو قوميون سوريون، فكان يتكلم معهم بأنه يجب على الشيعة المساهمة في خيار المقاومة العربي وبأن القوة في لبنان ضروريّة للتغيير في سياسة لبنان العربية”.
أما “الذراع الثاني فهو الناس الذين كان يجمعهم الصدر بعشرات الآلاف بين صور وبعلبك ضمن “حركة المحرومين”، وكان معظمهم يرتبطون بالمكتب الثاني (تسمية تُستعمل لمن يعمل لدى أجهزة الاستخبارات) فكان يصطاد الزعامات الشعبية، والناس المطاردين، المحكومين والمهربين، ويستحصل لهم على براءات وإخلاءات سبيل مقابل انضمامهم للحركة. فقامت هذه الحركة بشكل سريع من ناحية هناك الأثرياء ومن الناحية الثانية الفقراء والمستضعفين، وأدار هذه العلاقة بين الناحيتين بمتانة وقوة وشدّة. أتصوّر أن الجمع بين هذين الطرفين على مثال ليس بعيداً عن المثال الماروني في القرن التاسع عشر. دور الكنيسة في جمع الأعيان وجمع العامّة”، وفق شرارة.
الإضاءة على مرحلة الصدر ضرورية لتبيان كيف بدأ التحوّل الفعلي عند الطائفة الشيعية، وكيف ساهم هو من موقعه كرجل دين وسياسي في تكوين نواة الشيعية السياسية التي بدأت منذ ذلك الوقت في التشكل، فكان المجلس الشيعي وكان للصدر أن يتحوّل إلى رجل سياسة أكثر منه رجل دين، فوطد علاقته بالسوريين وكان له علاقة وثيقة بحافظ الأسد، ورجل المخابرات البارز علي دوبا، كذلك بالإيرانيين من الشاه إلى الولي الفقيه ولم يُخف التوجه العروبي وفلسطين وعلاقته بمنظمة التحرير آنذاك التي كانت علاقة فيها الكثير من الصعود والهبوط حيث لعبت المنظمة وياسر عرفات دوراً كبيراً في تمتين الجناح الخميني داخل حركة أمل.
اختفاء الصدر – ظهور حزب الله
وبين “السلاح للمقاومة” وأفواجها “أمل” والمجلس الإسلامي الشيعي وحركته السياسية لبنانياً وعربياً، بات الصدر رقماً لا يُستهان به في المعادلة المحلية، خاصة بعد عام 1968 تاريخ بدء المناوشات على الحدود، وبالتالي وجوده يفرض على الأطراف الأخرى محلياً ودولياً التعامل معه، ومن هنا بدأ يظهر تناقض مصالح الصدر الوطنية مع مصالح حلفائه الخارجيين.
حتى داخل الطائفة الشيعية نفسها، وبحسب شرارة، “تبنّت النّواة التي شكّلت حزب الله فيما بعد، نقد الصدر، لا بل اعتبرته وجماعته يزيديين (نسبة ليزيد بن معاوية) يقبلون بلبنان حتى لو كان ما يعرضه لبنان على الشيعة هو عبارة عن وظائف في الكازينو. فكتبوا أكثر من مرة واتهموا الصدر بإضعاف التعليم الديني عند الشيعة. وأولى ممارساتهم كانت إنشاء الحوزات، حوزة فضل الله، حوزة الرسول الأكرم، التي كان يدرّس ويتكلّم فيها حسن نصرالله (أمين عام حزب الله الحالي)، و حوزة علي الأمين”.
لكن ذلك لا يمنع أن الصدر شكّل حركة متناقضة فيها تيارات مختلفة والجمع بين هذه العناصر والمناطق غير متكافئ على الأقلّ حتى لو أراد هذا الشيء. في مرحلة من المراحل وتحديداً بدايات السبعينات من القرن الماضي، كان الصدر قد بدأ الانعطاف نحو التركيز اللبناني، وهذا العامل الذي أُخِذ ضدّه، واعتبر البعض أن الرجل دخل في “مرحلة التواطؤ” مع النظام.
في ظل هذا الواقع، اختفى الصدر في ليبيا في أغسطس من العام 1978، في ظروف غامضة لم تُكشف إلى اليوم حتى بعد سقوط نظام معمر القذافي الذي اتُهم بأنه وراء عملية اختفاء الإمام ومرافقيه. بعد اختفائه، بدأ الإعداد لمرحلة جديدة عند الشيعة، مغايرة تماماً لما قال به الصدر ولكنها، بشكل أو بآخر، استفادت كثيراً مما فعله الرجل لدى الشيعة، فكان ظهور حزب الله للمرة الأولى كتنظيم عام 1982.
يقول شرارة: “خلال أربع سنوات بين قتله/إخفائه وعام 1982، قسم من حركة أمل وهو أمل الإسلامية بقيادة عباس الموسوي وتيارات شيعية أخرى في البقاع دعت إلى قيام دولة إسلامية، بالوقت الذي كان موسى الصدر قد قُتل، وطبعاً بعض الناس تتساءل حول توقيت قتله، بعد ستة أشهر من بداية الموجة التي استولت على إيران، بداية التحركات التي أدت إلى فبراير الـ1979 (الثورة الإسلامية) أي حوالي الـ10 أشهر من الحركات الإسلامية، فهو اغتيل في وسط هذه المرحلة. لذلك بعض الناس تعتبر أن الإيرانيين والسوريين ليسوا غريبين عن هذه الوجهة”.
ويضيف: “الموقع الذي احتلّه موسى الصّدر في وجهته الأساسيّة لا يفترض أن يلتقي بحزب الله. وانشقاق أمل الإسلامية الأول حصل باسم موسى الصّدر، بالرغم من أنه بين عامي 1978 و1980 عندما خلف نبيه برّي (رئيس حركة أمل الحالي) وحسين الحسيني (الرئيس السابق) الانتقادات الداخلية لأمل كانت لأن توجهه اعتبر بداية أنّه مخالف لتوجّه الصدر”.
وبالتالي، فإن موسى الصدر قد أسّس لمشروع حزب الله من حيث لا يدري، لكنه جمع وحوّل الشيعة الى كتلة متماسكة في مكان ما وربط بين أثريائها وفقرائها وسياسييها. فحزب الله لم ينشأ من العدم ولم يبدأ من الصفر، والكلام لشرارة.
مرحلة التمكين وتهيئة الأرضية
لم يكن من السهل على حزب الله أن يفرض نفسه لدى الشيعة بالخطاب المقاوم والفكر الديني وتحديداً ولاية الفقيه. في السبعينات والثمانينات، كانت الطائفة الشيعية وقود الحركات اليسارية في لبنان، وكان توجه الطائفة لبناني، فيما يأتي التدين في مرتبة لاحقة، نجح الحزب عبر السنين في قلب المعادلة وتحويل التشيّع إلى انتماء للحزب ولمخطط أوسع من حدود لبنان.
في طريقه لتحقيق هذا الأمر كان لا بد من مواجهة مع “الأخوة”. حزب الله ذو المشروع الإيراني لا يُريد أن يُشاركه مناطقه أيّ كان، فإمّا الإلغاء أو التطويع، وبالتالي كانت المرحلة الممتدة منذ عام 1982 حتى عام 1989 وتحديداً إلى حين توقيع اتفاق الطائف، مليئة بمعارك فرض النفوذ العسكري في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية مع توسع لمناطق أخرى لاصطياد قيادات حزبية أو محاصرة حركات إسلامية قد تؤثر عليه.
يقول شرارة في هذا السياق: “بين عامي 1985 و1990 تقريباً، أدت حروب المخيمات المتتالية إن كان في بيروت أو طرابلس أو الجنوب إلى مقتل معظم العناصر العسكرية الفاعلة في حركة أمل. لقد سقط حوالي 1500 قتيل في هذه الحروب. العناصر التي كان لها وزن عسكري في أمل كداوود داوود في صور قتلت. وعدد من الأمور الأخرى كمحاصرة الحركات الإسلامية في طرابلس، تحجيم وتصفية الشيوعيين، كل ذلك كان له صلة بتنظيف الأرض لحزب الله. والتنازل الضخم الذي قدّمه السوريين لحزب الله أنهم لم يتدخلّوا في سياسته وبعمله، باستثناء بعض الخطط الثأريّة الصغيرة كثكنة فتح الله في آخر فبراير عام 1987 (هجوم للقوات السورية على الثكنة التي كانت مقر حزب الله رداً على دعمه الفصائل الفلسطينية ضد حركة أمل فيما عُرف بحرب المخيمات)”.
توازياً مع تنظيف الساحة من قبل حزب الله، كانت هناك حرب بالوكالة تُخاض بين قوّتين إقليميّتين على الورقة اللبنانية. فمعارك الحزب مع حركة أمل كذلك حرب المخيمات كانت حرباً بالوكالة بين إيران الخميني وسوريا حافظ الأسد. كانت لكل دولة أجندتها وذراعها، وهدفها أن يكون لها الكلمة الطولى في سياسة بلد صغير، لكن جغرافيته جعلته حاجة للجميع، أو بالأحرى صندوق بريد فيما بينها، ومعبراً لطموحاتها التوسعية.
في هذا السياق، يقول الصحافي والكاتب محمد أبي سمرا: “بعد انتهاء حرب المخيمات والتّخلص من المنظمات الفلسطينية، حصلت التسوية بين إيران وسوريا مفادها أن حافظ الأسد هو من يدير حزب الله وإيران هي التي تُسلّحه. وضمن الخطة السورية لم يكن مسموحاً لحزب الله أن يتصرف من تلقاء نفسه وهذا ما بدا واضحاً عندما تمّت التسوية الكاملة لاحقاً في التسعينيّات. حركة أمل ولاؤها سوري بالكامل، لم يكن هناك من داع لتقاسم ولائها مع أي طرف آخر. كونها تمثّل حصة الشّيعة في الدولة”.
يستذكر أبي سمرا أنه “في المرة الأولى التي أتي بنبيه بري وزيراً عام 1983، اشتعلت بيروت بالرصاص لمدة ساعتين، إذ كانت هذه المرة الأولى التي تنجح بها الحركة الشيعيّة المسلحة بالإتيان بوزير في الحكومة. باعتقادي أن مجتمع التهجير هو ما جعل الشيعة منذ الحرب الأهلية وحتّى اليوم في حالة مظلومية، بالرغم من أنهم أصبحوا يمسكون بمفاصل البلد”.
البناء من تحت
وفي الثمانينات أيضاً، تنامى دور رجال الدين بشكل أكبر، بعدما كان بدأ بالخفوت سابقاً (حتى نهاية الخمسينات)، عبر دخول العامل الإيراني، من مال وتأسيس أول ثكنة عسكرية في البقاع (ثكنة الشيخ عبدالله) وإنشاء الحوزات الدينية، وتخريج رجال دين خلال 3 أو 4 سنوات ليشرعوا بالعمل، وكانوا أقرب إلى الدعاة مما هم رجال الدين الذين يتكلمّون بالعلم والفقه. كذلك، كان من مظاهر بروز حزب الله بدء ظهور ما يسمى بـ”التشادور” (النقاب) إضافة إلى منع الناس من شرب الكحول، غير أنه ومنذ بداية التسعينات لم تعد هذه الأمور أساسية وأصبح التركيز على الصراع وعمليات المقاومة ضد إسرائيل هو الأساس، وفق ما يقول أبي سمرا.
خلال مرحلة التوسع، أي الثمانينات، والتي انتهت بسيطرته، حرص حزب الله وبشكل خاص نصرالله (أكثر بكثير من صبحي الطفيلي وعباس الموسوي وأمين السيد)، بحسب شرارة، على أمرين: أولاً، عنصر الانفصال عن الحياة العادية في لبنان، بواسطتين، واسطة عسكرية وواسطة مدنية أهلية، شبكة المؤسّسات التي كانت قدّ بدأت ولكن نصرالله وسّعها بشكل ضخم، من تدريب الكشّافة، إقامة الزيجات الجماعية المشتركة، تمويل الصيدليات والتعاونيات، المنح الدراسية، إلى آخره. ثانياً، التجنيد، المرحلة الأولى كانت تجنيد العناصر الذين هم في نفس الوقت طلّاب مدارس دينية وتكوين صورة دعويية خالصة ولكن فاعلة.
والحروب التي خاضها الشيعة فيما بينهم ومع الفلسطينيين وغيرهم، حولتهم إلى مجتمع تهجير. ماذا يعني ذلك؟ يقول أبي سمرا: “كانوا يتهجرون من الجنوب بسبب الاعتداءات الإسرائيلية إلى بيروت ويتوسعون في الضاحية الجنوبية في مجتمع تهجير وليس في مجتمع هجرة، في مجتمع الهجرة يأتي الأفراد ليعملوا ويستقروا بشكل من الأشكال، أما في مجتمع التهجير الحربي، فتتلاشى الحياة الاجتماعية، ويتلاشى المجتمع. المهجرون فوضى كاملة، مُقتلعين، بلا عمل، هاربين. هذه الحالة التي عاشها مجتمع التهجير الشيعي في لبنان كانت عاملاً أساسياً في ولادة حزب الله. لقد ولد حزب الله على الحطام الاجتماعي، حيث أنه لم يعد هذا المجتمع متماسك ولو قليلاً. خصوصاً في منطقة الرمل العالي، وهي منطقة تهجير بالكامل”.
وكان مرسوم لمجتمع التهجير هذا أن يبقى في حالة حرب دائمة، التي كانت بوابة عبور إيران إلى قلب الطائفة وبسط كامل النفوذ العسكري عليها منذ أواخر الثمانينات. يقول شرارة: “حين نقرأ سير القتلى لدى الحزب أو ما يعرف ب”معراج الشهادة”، نلاحظ أمراً أساسياً هو أن مقاتليهم والذي عددهم صار ضخماً، النواة المقاتلة الأولى التي قدرت ب 5 آلاف، كلهم ناس كانوا يقومون بدورات تتراوح ما بين الـ6 أشهر إلى السنة بين التدريب على القتال والتعليم في الحوزة في إيران، والكادر العسكري الكبير والمتوسط كان بالكامل بإعداد إيراني”.
ويضيف: “حسابات الحزب والقيادة الإيرانية أن التمكين الحزبي والتماسك الحزبي الداخلي بحاجة لناس يدينون بكل شيء للحزب وإيران، ولذلك قاموا بتشكيل ما يعرف بالمجتمع النقيض، وهذا ما هم حريصون عليه، كما يحصل في العراق واليمن ولبنان حيث أعطى نتيجة مدهشة، إذ نرى أن القاعدة اللبنانية لحزب الله وليس فقط القاعدة المباشرة بل حتى القاعدة الاجتماعية، أكثر تمسكاً وأكثر حدة بانتسابهم للحزب الإلهي العقائدي والسياسي، من الإيرانيين أنفسهم. ليس هناك مثيل في حزب الله للانتفاضات والانشقاقات التي حصلت (في إيران) عام 2009 و2017 و2019 هذه الانتفاضات ذات الطابع الجماهيري لا تحصل لدى الحزب”.
الطائف وبدء توزيع الأدوار
عام 1989 انتهت الحرب الأهلية اللبنانية على الورق، بتوقيع اتفاق الطائف، في السعودية. كانت الطائفة الشيعية قد وصلت إلى معادلة فيما بينها وبين راعييها الإقليميين. تُرك للسوريين أمور السياسة عبر نبيه برّي، وقبضت إيران على الورقة التي تراها أكثر استراتيجية في معركة توسعها: “المقاومة”. وهذه المقاومة كانت في تلك الوقت شبه وحيدة على الساحة الجنوبية، ثُم ما لبثت أن تحولت إلى الميليشيا الوحيدة التي تحتفظ بسلاحها بعد الحرب، تحت شعار محاربة إسرائيل.
والواقع أن حزب الله لم يكن مع الطائف بصيغته التي أُقرت آنذاك، لكنّه طبعاً لم يُعارضه حينها. كانت المصلحة السورية تقضي بأن يرضخ الحزب وهذا ما حصل، إذ يقول شرارة: “السوريون أقنعوه بقليل من العنف وقصة ثكنة فتح الله غير بعيدة عن هذا السياق، بأن يدخل بالطائف عبر نواب وليس وزراء وهذا ما يُكسبهم شرعية دولية وبدأت الحجة التي تُستعمل الآن عند حزب الله بأنه يمثل قسم من الشعب اللبناني وله ممثلين في المجلس النيابي والحكومة، يومها لم يكن لديه وزراء لأن السوريين آنذاك هم من تولّى شؤون التوزير وكان رأيهم أن هذا الأمر قد يثير حساسية أميركية، ثم مع رفض الحزب التوظيف بمؤسسات الدولة، أعطى السوريون الوظائف إلى مناصري أمل الذين يُعتبروا جماعتهم من دون تحفظ تقريباً”.
ويذكر نائب أمين عام حزب الله نعيم قاسم في كتابه “حزب الله.. المنهج، التجربة، المستقبل” إن الحزب دخل إلى الحياة السياسية وتحديداً إلى مجلس النواب إثر نهاية الحرب الأهلية بعد أن أصدر الخامنئي فتوى تُجيز لهم بالترشح إلى الندوة البرلمانية.
وجدير بالذكر أن العلاقات الإيرانية السورية في ذلك الوقت، كانت علاقات تجاذب وليس علاقات توافق وتسليم كامل، الشيء الذي يظهر علناً كيف الميزان الإيراني السوري مال مع الوقت لصالح الإيرانيين.
يقول أبي سمرا: “لقد انتهت الحرب عند جميع الطوائف اللبنانية، إلا عند الشيعة، فلقدّ استمرّت حتّى عام 2000 لأنّهم مجتمع حربي. قسم منهم يعيش في الجنوب وقسم في بيروت، فاستمروا كمجتمع حربي وقتال وقاموا بعمليات” في الجنوب الذي شهد حربين. وبعد كل حرب كان رفيق الحريري (رئيس الوزراء اللبناني آنذاك) يذهب إلى الخارج ويأتي لهم بالمساعدات والأموال ويقيم المؤتمرات الدولية ومنذ ذلك الوقت بدأت قصة الديون والإفلاس ومؤتمرات الدعم كمؤتمر باريس 1 و 2 و 3″.
ويضيف: “خلال هذه السنوات العشرة بين عامي 1990 و2000، كانت قوة الحزب تتزايد وكان يستمر بالحصول على الأموال والسلاح من إيران، مجتمع الحرب موجود وجاهز، مجلس الجنوب الذي تسيطر عليه حركة أمل يدفع لهم الأموال أيضاً، والشيعة ارتضوا بهذا التوزيع للأدوار بين إيران وحافظ الأسد”.
ومجلس الجنوب هو صندوق تأسس في أبريل 1970 تحت ضغط موسى الصدر والإضراب العام الذي دعا إليه في ذلك الوقت لمساعدة الجنوبيين على “الصمود”، فاجتمع مجلس النواب في مساء اليوم ذاته (الإضراب)، وأقر تحت ضغط التعبئة العامة، مشروع قانون وضع أفكاره الصدر يقضي بإنشاء مؤسسة عامة تختص بالجنوب، مهمتها “تلبية حاجات منطقة الجنوب وتوفير أسباب السلامة والطمأنينة لها”.
الزحف نحو الدولة
ومنذ الطائف ودخول لبنان في شبه سلم، تحوّل هذا المجلس ليكون بوابة حركة أمل ورئيسها نبيه بري إلى الجنوب في أيام السلم، فوظف فيه من وظف وباسمه كانت مشاريع الإعمار والتمويل والمساعدات وبناء المستشفيات والمدارس والصرح وغيرها، فكانت الخدمات التي قدمها بري عبر هذا المجلس وسيلة صموده لاحقاً بمواجهة الخطاب العسكري للحزب، ليُترجم توزيع الأدوار السوري الإيراني إلى توزيع أدوار حزبي في قلب الطائفة.
فحزب الله الذي انشغل بما زعم أنه “مقاومة” وعمل عسكري وتدريب وتسليح المقاتلين ونشر فكره في المجتمع الشيعي لم يُمانع أن يستلم بري ووزراؤه من حركة أمل الجانب الخدماتي والتنموي، طالما أن التنمية يحصل عليها المواطن الجنوبي الذي مع الوقت صار أكثر قُرباً من الحزب الذي نجح في نشر أفكاره وتحويل السيرة الحسينية إلى وسيلة لشد عصب ناسه والتوسع ليكسب ثقة وتأييد غالبية أبناء الطائفة حتى ممن هم مع “أمل” وينصبون العداء للحزب من أيام الحرب، حتى أن هذا التوزيع انعكس على تسمية كتلهما النيابية، فكتلة أمل كان اسمها “التحرير والتنمية” بينما حزب الله فسمى كتلته “المقاومة والتحرير”.
في هذا الإطار، يقول شرارة: “أراد السوريون أن يظهر بري كرجل دولة فاستخدموه في إطار هذه التركيبة كي يستولي على شطر كبير من اللبنانيين الشيعة شرط ألا يسحق الناس الذين هم خارج دائرته. كما أن حصص بري كانت عمليا 95% من توظيفات الشيعة. وذلك بعد الطائف في التسعينيات وحتى ذلك الوقت حزب الله لم يكن بعد قدّ أبدى أي رغبة بالدخول الى الدولة أو أنه كان مقتنعاً بالتقسيم الأفضل لسبب جوهري وهو أن لهم عملاء كثر في قاعدة برّي، من عسكريين ومقاتلين وموظفين. فكان هذا التوزيع ناتج عن استراتيجيّة تسمح بنوع من التعدد المحصور والمضبوط بإحكام”.
منذ سنة 1990 وما بعدها، أي منذ نهاية حقبة الاقتتال الأهلي، تغيّر لبنان كثيراً وأصبح التقاسم والمحاصصة المذهبية من الأمور الأساسية في السلطة. الميليشيات التي تقاتلت طوال 15 سنة عادت لتوزع محازبيها على مؤسسات الدولة. كانت الوظائف في تلك الحقبة مكافآت، يوزعها كل حزب على جماعته وأبناء طائفته، وكان للمسلمين الحصة الوازنة في هذا الدخول الكبير إلى الدولة نتيجة الإحباط المسيحي السائد آنذاك، وطبعاً كان من شبه المستحيل، كما يقول من عايش تلك الفترة، على أيّ شيعيّ الحصول على أيّ وظيفة في الدولة إلّا عبر حركة أمل.
بحسب أبي سمرا، قبل الحرب وبعدها لم يكن هناك من مسار اجتماعي لفكرة الانتماء إلى لبنان، فسابقاً كان هناك مساراً واحداً “للبننة” اجتماعياً. مسار ذو مضمون قيمي دقيق أو ترقّي اجتماعي طابعه لبناني. هذا المسار انعدم خلال وبعد الحرب. وأصبحت عملية الانتقال شكليّة ومرتبطة بالمظاهر. أمّا المسيحي فهو ليس بحاجة لكل ذلك، هو لبناني بالولادة، سياسياً واجتماعيّاً. يضيف: “في التسعينيّات، كل هذه المسارات تحطّمت وتحوّلت إلى الاستيلاء بالقوة والسلاح على الدولة. فالشيعة لم يستولوا على الدولة ومؤسساتها عن طريق التوظيف والعمل وبناء العلاقات داخل الوظيفة كما كان يحصل سابقاً، بل أصبحت الطوائف والمنظمات الحربية والجماعات تستولي على حصتها في الدولة بالطرق الحربية والميليشياوية”.
وساعد الوجود الإسرائيلي لأجزاء من الجنوب في التسعينات في الإبقاء على هذا المجتمع في حالة صراع دائم. حرب عام 1993 ومن ثم عام 1996 وما بينهما من ضربات متواصلة. استغل الحزب هذا الواقع ليُمتّن وجوده العسكري، وزاد الدعم الإيراني بالسلاح فيما كانت النظام السوري يدير السياسة الشيعية بما يتناسب معه وبشكل لا يتعارض مع المصالح الإيرانية.
في أبريل من العام 1996، بدأت إسرائيل حرباً أطلقت عليها اسم “عناقيد الغضب” في محاولة لردع حزب الله ومنعه من إطلاق الصواريخ على المناطق الشمالية، وكانت نتيجتها دمار كبير في البنى التحتية وسقوط قتلى، قبل أن يجول رئيس الوزراء اللبناني آنذاك رفيق الحريري لحشد الموقف الدولي لتنتهي الحرب بما عُرف بـ”اتفاق نيسان” الذي منع أي عمل عسكري ضد المدنيين وكرّس حق اللبنانيين بالمقاومة. يقول أبي سمرا في هذا السياق: “كانت حرب عناقيد الغضب أساسيّة في إشعار الشيعة أنهم مجتمع حزبي – أي مجتمع حزب الله”.
التحرير والبقاء بحالة حرب
بقي الحال على ما هو عليه حتى عام 2000. فجأة ومن دون مقدمات أو أي اتفاق مع لبنان، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك انسحاب إسرائيل من الجنوب وهي كانت تسيطر على ما 133 بلدة فيما كان “جيش لبنان الجنوبي” يسيطر على 35 بلدة جنوبية. في 25 مايو، خرجت إسرائيل من الجنوب وأُطلق على هذا النهار اسم “يوم التحرير”، وكان لافتاً حينها امتناع الدولة عن الدخول إلى المناطق المحررة من خلال الجيش اللبناني.
اعتقد اللبنانيون أنه بانسحاب إسرائيل من الجنوب تكون قد طويت نسبياً صفحة الصراع المستمر معها والتي دفع لبنان فاتورتها حروباً خارجية وداخلية، إلا أن هذا ما لم يحصل، إذ وفي الوقت الذي اعتقد اللبنانيون أن ساعة تسليم السلاح ونهاية القتال قد اقتربت بعد أن انتفت الذريعة لذلك، ظهرت مزارع شبعا المحتلة لتكون ورقة التوت التي يُلقي حزب الله عليها ذريعة بقاء السلاح وبقاء الاستنفار وحالة الحرب مع إسرائيل.
ويقول أبي سمرا: “أتت مزارع شبعا كذريعة لإبقاء حزب الله على سلاحه، بالرغم من أنه لم يكن بحاجة إلى أي ذريعة لتكملة الحرب بما أن هذا التكوين موجود منذ 15 سنة بهذا الشكل”.
ومزارع شبعا هي منطقة تقع على الحدود بين لبنان وهضبة الجولان التي كانت الحدود اللبنانية السورية قبل يونيو 1967، وهي منطقة تابعة لإسرائيل اليوم، وليس واضحاً إن كانت في السابق أراضٍ لبنانية أو سورية إذ تُظهر خرائط فرنسية منذ عام 1946 أن المنطقة تلك هي جزء من الأراضي السورية وليس اللبنانية إلا أن حزب الله وفريقاً من اللبنانيين يتمسك بلبنانيتها، فيما ترسيم الحدود البرية والبحرية لا يزال غير منجز إلى اليوم. ولم يكن لبنان جزءاً منها، ولم يتم الإتيان على ذكر هذه المزارع كونها لا تخضع للقرار الدولي 425 المتعلق بالأراضي اللبنانية.
هذه المعادلة، الانسحاب الإسرائيلي ومعضلة المزارع ورفض النظام السوري تثبيت لبنانيتها في الأمم المتحدة، سمحت للحزب بأن يعطي لنفسه انتصاراً أمام اللبنانيين والعالم، وفي الوقت نفسه، أبقى على سلاحه الذي ربطه مرة بالمزارع ومرة بالقرى السبع ومرات بصراع أوسع من لبنان.
ويروي شرارة رواية تُعبر عن المزاج الشيعي آنذاك (حزب الله تحديداً)، والذي كان رافضاً لأي تسوية أو تنازل لصالح الدولة اللبنانية ولو صورياً. يقول: “بعد الانسحاب بسنة، يأتي خاتمي زيارة للبنان ويقول إن هناك ركنين للبنان، الاستقلال الأول أي الجلاء والاستقلال الثاني أي التحرير ويجب أن يُجمع بين الإثنين تحت عباءة دولة واحدة”، و”بالرغم من أن الكلام كان فيه تطمين لدور حزب الله ولكن الأخير عارضه بشكل عنيف ومن نتائج هذه المعارضة أن هناك من فُصل من عمله وطُرد من الحزب لأنّه أيّد كلام خاتمي، مثال على ذلك محمد كريّم الذي كان مسؤولاً عن إذاعة صوت النور، حتى أنهم طردوا ابنته من المدرسة”.
في تلك المرحلة، وكأي منتصر، لم يتعامل الحزب مع محيطه إلا من باب أنه القوي وأنه وحده من حقق الانتصار، وهو كان منذ الثمانينات قد ألغى كل حركات المقاومة في محيطه واستفرد بإدارة الصرع. بعد إنجاز التحرير، استثمر الحزب في شعور الانتصار، ليكون في موقع أكثر متانة في تعامله مع باقي الأفرقاء، ولكن الأهم في تعامله مع النظام السوري الذي كان إلى حينها هو المُقرر في السياسة، ليظهر هذا التحول في التعامل مع نبيه بري.
يستفيض شرارة في العودة إلى أحداث يرويها ليبيّن كيف أن التحولات فعلت فعلها مع الحزب. يقول في سياق وصفه لإحدى نتائج التحرير: “العلاقة (مع السوريين) التي مرت بمرحلة جفاء خاصة عام 2000 (الانتخابات النيابية كمحطة مهمة) حيث كان هناك تنافساً على عدد من المقاعد وقيل عن ناس أثق بكلامهم بأنه في خلال اجتماع بين حسن نصرالله وغازي كنعان في شتورة، حصل نقاش على مقعد في الدائرة الثانية في بيروت حيث اعترض السوريون على بقاء حزب الله فيه لأن الأميركيين اعترضوا على ذلك، فما كان من نصرالله إلا أن جاوبه بطريقة توحي أنه لا يبالي بنائب بالزائد أو بالناقص، وكان السوريون حينها يضعون نوابهم كودائع لدى الكتل النيابية المختلفة. أذكر هذه الحادثة من باب الإشارة إلى ما كان قادر عليه نصرلله في التعاطي مع السوريين آنذاك”.
توزيع الأدوار السوري الإيراني، انسحب على الحياة السياسية اللبنانية الضيقة. أُعطى للأفرقاء السياسيين المحليين إمكانية المساهمة في فتح طريق، بناء مدرسة، توظيف، أي وكأنهم في مجلس إدارة شركة. في المقابل، تُرك القرار الرسمي اللبناني والسياسة الخارجية في يد النظام السوري ومنه في يد حزب الله الذي دائماً وأبداً في حالة حرب.
حين تُوفي حافظ الأسد واستلم نجله بشار من بعده في يوليو من العام 2000، تغيّر الكثير في السياسة السورية، خاصة في كيفية التعامل مع حزب الله. كان حافظ، قوياً وذكياً في إدارة ملفاته السياسية، أما هو فكان إعلان تسليم شبه مطلق لإيران. خرجت غالبية الطوائف ضد الوجود السوري في لبنان بعد بيان المطارنة الموارنة عام 2000 وتأييد جنبلاط له، فكان إعلان بدء مرحلة جديدة في التعاطي مع الوصاية السورية أتت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها لتفرمل الاندفاعة اللبنانية.. يقول أبي سمرا: “بدأ اصطدام الطوائف مع سوريا بين عامي 2000 و 2005 عندما بدأ زعماء الطوائف كوليد جنبلاط ورفيق الحريري يحاولون الخروج من التبعية السورية ويبحثون عن استقلال ما للبنان، بينما بقيت هذه النزعة عند الشيعة معدومة كليّاً وبقي ارتباطهم جذري بسوريا وايران”.
بحسب شرارة، كان رفيق الحريري يقول للسوريين إنه بمشروع الإعمار، “سيخرج الأطراف الذين حاربوا إلى جانب سوريا منتصرين وجزاء انتصارهم يعوضوا عن خسائرهم بالحرب فيُعطوا تعويضات الإخلاء حوالي 700 إلى 800 مليون دولار ويُعطوا حصة متزايدة في الدولة بواسطة بري وحزب الله يبقى، وتقدير الحريري أن الحزب يذوب في لبنان القوي اقتصادياً وبتقديري كان الحريري يعتقد أيضاً أنه بهذه السياسة يستطيع تذويب الحكم السوري أيضاً بإطار عربي متكاتف ومزدهر، طرف منه الصلح مع إسرائيل”.
عام 2005 مرحلة اللا عودة
لم يكن رفيق الحريري مجرد رئيس وزراء، وهو لم يكن أيضاً كغيره من السياسيين المحليين، إذ إن إيران وسوريا اعتمدتا واستثمرتا في الحريري قدر الإمكان، وهو بدوره أدرك أنه شخصية محورية وحاجة للدولتين، عدا عن كونه يُمثل الإجماع العربي حول لبنان، أو بالأحرى الرؤية والسياسة السعودية. على سبيل المثال، كان طرفاً في قضايا إيران الكبيرة، منها مسألة النفط مع أذربيجان والعلاقات الإيرانية اليابانية. عرف الحريري كيف يكون حاجة للدولتين.
لكنه ومن بعد عام 2000 لم يعد ذلك الرجل الذي يمشي طبقاً لمصالحهم. بدأت نزعة استقلالية تظهر لديه، شجعها الجو اللبناني العام، وتحديداً المسيحي متمثلاً بالكنيسة و”قرنة شهوان”، ومن ثم “لقاء البريستول” عام 2004 الذي أرسل إليه الحريري غطاس خوري ممثلاً له ومن ثم النائب السني أحمد فتفت، وهي كانت نقطة اللاعودة بينه وبين النظامين السوري والإيراني.
يقول أبي سمرا: “لم يعد هناك من قرار سوري، أصبح القرار السياسي إيراني واصبح بشار الأسد إيرانياً بالكامل. قد يكون بشّار قد خاف من الوجود الأميركي في العراق وبالقرب من الحدود السورية فوضع نفسه تحت القرار الإيراني. بهذا المعنى أصبح موضوع العراق باغتيال الحريري في ال 2005 موضوعاً إقليمياً. أصبح الصراع الإقليمي هو الأساس وليس الداخلي. وعندما تحوّل الصراع الى صراع إقليمي بهذا الحجم، لم يعد باستطاعة حزب الله أن يبقى خارج مؤسسات وقرارات الدولة”.
وإيران بسقوط نظام صدام حسين في العراق ومجيء بشار الأسد للحكم في سوريا، أصبحت على قناعة أن حلمها بالسيطرة على الطريق الواصل من طهران إلى البحر المتوسط قاب قوسين أو أدنى.
في 14 فبراير من العام 2005، اغتيل رفيق الحريري في بيروت، بانفجار هز العاصمة اللبنانية وأدى إلى سقوط 23 ضحية. هذا الاغتيال، أعطى الدافع لما عُرف أنداك بالقوى السيادية كي تطالب بضرورة الانسحاب السوري بعد تحميل النظام الأمني السوري اللبناني مسؤولية الاغتيال، وتقاطع هذا الاتهام مع جو دولي كان يميل لفرض نهاية هذه الهيمنة وباكورته القرار 1559.
يقول وضاح شرارة: “هناك أمر جوهري يتنبهون هم له أكثر من الناس الذين ينظرون إلى الأمور من الخارج، والذي يُختصر بأن هناك نواة لبنانية سيادية لدى رفيق الحريري وبالتالي من الصعب أن يقدروا تطويع شخص يمجد المبادرة اللبنانية وعنده نوع من الاعتداد بلبنان حتى بالمعنى الجزئي أي الرأسمالية اللبنانية، وهو جزء من الثقافة الاقتصادية”.
يرى أبي سمرا “أن إيران قد شعرت أن رفيق الحريري خطراً إقليمياً وليس فقط خطراً لبنانياً. خطر على المشروع الإيراني بما كان لديه من علاقات دولية وعربية قوية. فخافت منه وارتأت التخلّص منه”، ويضيف: “سرعان ما استعاد الحزب زمام المبادرة بعد اغتيال الحريري وكان ذلك لشدة ضعف القوى الأخرى المواجهة له. بدأت الاغتيالات المتتالية والتفجيرات ونزاعات الشوارع، وتعطيل البلد ووضع المعسكرات في وسط بيروت، فقام الحزب بما يشبه الحرب الأهلية الباردة. واستمر الوضع على ذلك منذ عام 2005 حتى يومنا هذا”.
هجوم الحزب المعاكس
لم يستكن حزب الله بعد اغتيال الحريري إلا لفترة وجيزة. تراجع إلى الخلف وراقب مجريات الأمور. حاول جاهداً منع انسحاب الجيش السوري من لبنان لكن الاغتيال وحجم الضغط الدولي والشعبي المحلي كان أكبر منه، وهي من المرات القليلة التي شعر فيها الحزب أنه غير قادر على التحكم بمجريات الأمور، إلى أن أتاه الحلف الرباعي الذي خاض على أساسه الانتخابات النيابية متحالفاً مع من كانوا ضده في 14 آذار 2005، لحظة اجتمع فيها غالبية من اللبنانيين لإخراج جيش النظام السوري، تحت شعار “حرية، سيادة، استقلال”، ومطالبين بمحكمة دولية تقتص من المجرمين.
في انتخابات عام 2005، أدرك حزب الله أن لا مجال للتراجع ولا للتعفف عن الدخول إلى المؤسسات، والأهم من كل هذا، حتمية الدخول في الحكومات بعد أن منعه النظام السوري من ذلك في السابق.
التراجع الاضطراري الذي فرضه الاغتيال والانسحاب السوري، كان فرصة للحزب كي يخطط بروية لعودته. وبعد أن ضمن مكانة وازنة له في البرلمان وتمثّل للمرة الأولى في الحكومة التي شكلها فؤاد السنيورة بوزيرين، كانت حرب تموز عام 2006 بعد أن خطف جنديين إسرائيليين وردت إسرائيل بحرب استمرت 33 يوماً ولم تنته إلا بقرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي شرع دخول الجيش اللبناني إلى الجنوب، وهو ما كان يرفضه الحزب ومن خلفه منذ الانسحاب الإسرائيلي في مايو 2000.
استغل الحزب الحرب، ليشنّ من بعدها حملة على كُل من يعارضه في الداخل اللبناني. كان حينذاك فؤاد السنيورة رئيساً للحكومة، وبالرغم من أن بري حليف حزب الله قد أشاد به وبدوره في “حرب تموز” ووصفه برئيس حكومة المقاومة السياسية إلا أن هذا لم يدم طويلاً، لأن الفرصة صارت سانحة أمام الحزب وحلفائه كي ينقضوا على معارضيهم ويُنهوا مفاعيل اغتيال الحريري توازياً مع حملة اغتيالات سياسية طالت رموز معارضة لهم.
بعد أن انتهت حرب تموز، سأل جنبلاط أمين عام حزب الله “لمن سيهدي الانتصار؟”، وكان السؤال هو شغل شاغل اللبنانيين الذين رأوا أن الحدث هو فرصة لتحويل “الانتصار” كما أسماه حزب الله إلى لحظة وطنية جامعة وتسخيره لصالح الدولة اللبنانية وليس لصالح حزب بعينه. الرد على هذا الطلب أتى في 30 أكتوبر من العام 2006 حيث قام الحزب وحلفاؤه بنصب أكثر من 600 خيمة حول مقر رئاسة الحكومة في وسط بيروت للمطالبة برحيل السنيورة الذي وصفوه بأبشع الأوصاف واتهموه بأنه عميل.
وقد أدى الاعتصام إلى شلل تام في وسط بيروت ولاسيما منطقة الاعتصام والشوارع المحيطة ما أدى إلى إقفال عشرات المؤسسات التجارية وصرف موظفيها. وقدر مسؤولون وخبراء اقتصاديون، إجمالي الخسائر التي تكبدها قطاع التجارة في لبنان بسبب الاعتصام الذي استمر لأكثر من 18 شهراً، بنحو 10 ملايين دولار يومياً. وتوازياً مع الاعتصام، أغلق بري مجلس النواب بعد انتهاء ولاية أميل لحود ومنع النواب من الاجتماع وانتخاب بديل له.
راحة الحزب في التعطيل والقدرة على مواجهة غالبية من اللبنانيين آنذاك، أمّنها بشكل كبير تحالفه مع التيار الوطني الحر بزعامة الرئيس اللبناني الحالي ميشال عون، وتوقيعه للتفاهم الشهير في الذي عُرف بـ”تفاهم مار مخايل” في 6 فبراير عام 2006، إذ صار بإمكان حزب الله أن يقول ومن تردد إن سياسته يؤمنها ويدعمها غالبية المسيحيين الذين اقترعوا بالعام 2005 بكثافة لصالح لوائح عون.
“7 أيار” ونهاية السياسة
في 7 مايو من العام 2008، وتحت ذريعة قرارات حكومية “تشكل خطراً على المقاومة” لها علاقة بشبكة اتصالات موازية للدولة، احتل حزب الله وحلفاؤه بقوة السلاح بيروت وحاولوا أن يتمددوا إلى جبل لبنان وتحديداً مناطق نفوذ جنبلاط، لتتدخل دول عدة وينتهي “7 مايو” إلى اتفاق في العاصمة القطرية الدوحة، كرّس هيمنة الحزب على السياسة اللبنانية.
يقول أبي سمرا: “اتفاق الدوحة كان عملياً تكريس لقوة حزب الله فهو كان من عام 2005 إلى اليوم الأساس بتحقيق إرادة حزب الله بتحطيم تركة رفيق الحريري كلها، بالمعنى السياسي والاجتماعي”، ويضيف: “مرحلة استيلاء حزب الله على بيروت، استيلاء سياسي اجتماعي عسكري وإشعار الأطراف الأخرى أنها ضعيفة لا تستطيع فعل أي شيء. فائض القوة الذي شعروا به وكأنهم يقولون إنهم أصبحوا الوحيدين الذين لديهم منظمة مسلحة وقادرين على تهديد الآخرين بها متى أرادوا وكل ذلك تحت غطاء مسيحي أمنه ميشال عون”.
لم ينته التعطيل خلال المرحلة الماضية. كُل ما يريده حزب الله يحصل عليه. عُرف الديمقراطية التوافقية ساهمت بإلغاء التنوع السياسي. أيضاً، الثلث المعطل الذي صار أولوية في كل حكومة فعل فعله أيضاً. على سبيل المثال، عُطلت البلاد منذ مايو 2014 حتى أكتوبر 2016 فقط لفرض انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية.
يعتبر شرارة أن “ما أخذه حزب الله بعد 7 أيار ومن خلال اتفاق الدوحة، هو أمر فيه القليل من الحياء ولكنه بالحقيقة فعل فاحش، أي أن تضع مصير وزارات في يد طرف وأن تأخذ هذا الشكل الكاريكاتوري، فصار تشكيل الوزارات بناء على التشريع السوري العملي، الحكومة هي برلمان مصغر في برلمان ليس فيه من معارضة بشكل قد تستمر مثلاً 7 أشهر من أجل تشكيل حكومة فقط كي تدخل وزيراً محسوباً على طلال أرسلان الذي هو نائب في عاليه، نجح لأن وليد جنبلاط ترك له مقعداً شاغراً”. برأيه، “مُسحت الحياة السياسية كما حصل في سوريا في السبعينيات”.
من جهته، يقول أبي سمرا: “إذا كان الوجود الفلسطيني في لبنان قدّ دمّر البلد خلال 15 سنة، فشيعية حزب الله من عام 1990 إلى اليوم أوصلتنا إلى كارثة أخرى ودمّرت البلد على كافّة المستويات، اجتماعياً، سياسياً واقتصاديّاً. الديون والإفلاس كانا طبعا جزءاً مهماً أيضاً ولكن السبب الأساسي هو توقيف البلد بهذا الشكل، عزله، تدميره، تحويله لمستنقع لحزب الله”.
ويتحكم حزب الله اليوم بكل شيء. لبنان عام 2020 صار جزيرة معزولة عن المحيط والعالم. انتفاء معارضة فاعلة وحقيقية جعل أيضاً السياسة الخارجية للبنان هي سياسة الحزب نفسها، مع ما يعنيه ذلك من عداء تراكم منذ سنوات مع المجتمع العربي قبل الغربي، وهو ما يدفع ثمنه لبنان اليوم، بشكل مضاعف عن فاتورة فساد الطبقة السياسية التي حكمته منذ ما بعد الطائف، والتي كان الحزب ومعه حركة أمل ركناً أساسياً فيها.
والحزب الذي صار مُتحكماً بالسياسة اللبنانية كلّها، يُشارك عسكرياً منذ العام 2011 في الحرب الدائرة في سوريا داعماً لنظام الأسد في حربه على شعبه، فضلاً عن دوره في حرب اليمن وفي أزمة العراق وتدخلاته في الدول العربية والخليجية على وجه التحديد.
يقول أبي سمرا: “الشيعيّة السياسيّة هي مشروع تدميري، نهايته ستكون وخيمة يوماً ما. لا أعلم متى لكنها لن تستمر، ستتآكل، لا أعلم كيف. ملامح هذا التآكل قد بدأت اليوم مع تفجير المرفأ. إنّه عمل شيطاني يأكل نفسه بنفسه”.
المصدر: الحرة. نت