الياس خوري
لم يجد الرئيس الفرنسي، في زيارته الثانية للبنان خلال أقل من شهر واحد، سوى فيروز يلجأ إليها في زمن الكارثة والكآبة. ذهب إلى «هالة» كي يسألها كيف هزمت الملك، فروت له عن الكذبة التي ابتلعت الحقيقة.
قالت إن الملك هو الوجه الآخر لراجح، وإن الأغنية تستطيع أن تهزم الملك لكنها لا تستطيع أن تهزم تاريخاً مصنوعاً من الخداع.
خيار ماكرون في أن يبدأ زيارته لما تبقى من لبنان الكبير، بالذهاب إلى فيروز، ذكي لكنه «سكر زيادة» كما نقول في العامية. فوريث الجنرال غورو لم يجد أمامه سوى خيار واحد هو أن يخبئ الواقع في الرمز، ويبحث في الحنين الذي صنعته فيروز، عن لبنان الذي كان أغنية.
والأغنية الفيروزية الرحبانية مصنوعة من شعر عامي ساحر الإيقاعات، ومن صوت يجمع الحلاوة إلى الخفر ويتدرج في تلاوين المخمل. هذه الأغنية المسبوكة في شعر عامي مصفى ومرمّز، كشفت لنا الجماليات المخبأة في لغات العرب، كما أخذتنا إلى عالم حلمي فيروزي الألوان ومائي الإيقاع، أوحى ولا يزال يوحي بأن المنام أجمل من اليقظة، وبأن السحر بديل الواقع.
من «شادي» الذي لا يزال صغيراً إلى «يارا» التي تغطي بشعرها الأشقر الطويل تضاريس الحب ومنحنيات الشوق، ومن التمني في «يا ريت» إلى الأمنيات المحبوسة في القلوب، صارت فيروز امرأة الينابيع. فاستنبط لها الشاعر أنسي الحاج طقوس عبادة لا تليق إلا بآلهة كنعانية تحملها غيمة من الندى.
هذه الفيروز أشبه بقصيدة مزجت سيريالية جورج شحادة برمزية سعيد عقل وسلاسة ميشال طراد، ليصنع عاصي ومنصور الرحباني من هذا المزيج صورة تشبه أيقونة بيزنطية ناطقة.
مشى الحلم من جبل صنين إلى جبل حرمون، حاملاً معه دمشق والقدس، كأن صوتها وحّد بلاد الشام التي مزقها اتفاق سايكس بيكو، وازدرى الخريطة التي رسمها الجنرال غورو وهو يؤسس دولة لبنان الكبير ومعها أربع دويلات سورية ولدت ميتة.
الحلم الفيروزي الذي مزج الرومانسية بالرمزية صنع الكلمة التي توحي ولا تحكي، وأنشأ أسطورة لبنانية حديثة، لا تتعامل مع الواقع إلا بصفته احتمالاً، فصرنا أمام فيروزين: فيروز للحب وفيروز للحكاية. فيروز الحب هي أندلس الرغبة، وفيروز الحكاية هي الأسطورة. الأندلس حنين إلى التجربة وملامسة لها، أما الحكاية فهي بحث عن مستحيل لبنان في مستحيل القدرة على صهر التناقضات في خيال يلامس حدود الوهم.
ورغم محاولات الأخوين رحباني في مسرحياتهما المتأخرة طرح أسئلة التناقضات والشرخ الذي يفصل الناس عن الطبقة الحاكمة، فإن البناء الحلمي الريفي بقي سائداً.
وحين فاجأتنا الحرب، اكتشفنا كيف سقط قصر الأحلام الرحبانية من دون أن يتهاوى. فكانت أغنيات فيروز تحتل إذاعات القوى المتحاربة، كأن جسد الأغنية الفيروزية تمزق في الخنادق المتقابلة.
ورغم القفزة الكبرى التي صنعتها كلمات زياد الرحباني وموسيقاه ومقتربه المديني في كسر رتابة الحلم، لكن الحلم ظل مستيقظاً، ففيروز عصية على الامتزاج بوحل التاريخ، إنها هناك، في ذاكرتنا، كأنها طفولة مسروقة يجتاحنا الحنين إليها كلما ازدادت انكساراتنا الداخلية.
الرئيس الفرنسي يحتفل بمئوية لبنان الكبير ملتجئاً إلى الرمز الفيروزي.
لكن الصوت الفيروزي الذي اتسع لكل تداعيات الحنان والحنين لم يكن يوماً غطاء تستطيع سياسات السياسيين التدثر به.
قد تكون الزيارة رسالة سياسية لآلة الحكم اللبنانية العفنة التي استولى عليها «هاولو» لكن الرسالة ستبقى ملتبسة، فإيمانويل ماكرون سوف يذهب في اليوم التالي للتفاوض مع «هاولو» في قصور الرئاسات وفي قصر الصنوبر. هل صدّق الرئيس الفرنسي الأخوين رحباني اللذين وجدا الحل في ندم «هاولو» وتوبته، من أجل إنقاذ القنديل من يد المجرم؟ كما في مسرحية «الليل والقنديل».
ربما نسي الرئيس الفرنسي أنه آت من موروث استعماري، وأن الجنرال غورو تلبّس صورة المقاتل الصليبي، وأرسل مساعده الجنرال غوييه قائد الحملة الفرنسية على سوريا كي يقف أمام قبر صلاح الدين في دمشق ليقول لمحرر القدس: «ها قد عدنا». وأن التركيبة التي صاغها الفرنسيون للبنان جعلت من البلد الصغير أسيراً للطوائف ومستعبداً للخارج؟
يستطيع المستعمِر أن ينسى، لكن كاتباً كرئيف خوري، الذي كتب عن أثر الثورة الفرنسية في الفكر العربي، لا يستطيع أن ينسى كيف مرغت الكولونيالية الفرنسية قيم الثورة بدماء الشعوب المستعمَرة، من فيتنام إلى سوريا والجزائر.
هل تستطيع فيروز أن تذيب ذاكرة الهول الاستعماري كما أذابت ذاكرة «هاولو» اللبناني في الحكاية؟
الذاكرة التي ذابت في الحكاية حطمتها الحرب، ولبنان الذي صنعه الأخوان رحباني حطمه المسرح اللبناني الطليعي قبل أن يعيد زياد صوغ الحطام في مسرحياته النقدية الساخرة.
إيمانويل ماكرون، بصرف النظر عن سياساته الداخلية النيوليبرالية التي جعلت من السترات الصفراء عنواناً للاحتجاج في شوارع باريس، يعرف -على عكس السياسيين اللبنانيين- أن الرمز الثقافي قد يكون ملجأ في لحظة الأزمة الكبرى. بحث الرجل عن رمز لبناني جامع، رمز لا طائفي ولا ديني في زمن الحقد والتبعية والتفكك، فقرر أن يلجأ إلى السيدة التي صنعت من صوتها وطناً للبنانيين الذين ضاق بهم الوطن.
لكن المصالحة بين راجح والقرية، كما في مسرحية «بياع الخواتم» لم تعد ممكنة عبر التسامح مع اللصوص. فلص الواقع تمادى بحيث حطم الحكاية وجعلها مستحيلة.
الحكاية انكسرت، لكن صوت فيروز يأخذنا إلى أسراره. الحكاية وهم والصوت حلم، نستطيع أن ننتمي إلى الصوت ونجعله مسكناً لأروحنا، أما وهم الحكاية فنتركه لسياسيي هذه اللحظة المنقلبة.
الرئيس الفرنسي جاء كي يرمم وهم الحكاية، ومن يذهب إلى وهم الحكاية لا يستطيع أن ينتمي إلى الحلم الذي يختزنه الصوت الفيروزي.
المصدر: القدس العربي