مارتن هوغلوند
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
إذا كنا جادين في التعلم من فيروس كورونا، فيتعين علينا أن نفعل أكثر من مجرد الإشادة “بالعاملين الأساسيين” والتلويح لهم من نوافذنا أو تغيير أولوياتنا كأفراد. الآن، كنتيجة لهذا الوباء، أصبح الكثيرون منا يتساءلون عن أولوياتنا الاقتصادية ويتحدون فكرة الإنتاج من أجل الربح. ومع ذلك، فإن هذه الانتقادات ستظل مجرد شؤون تجريدية وأخلاقية ما لم تكن مرتبطة بالظروف الموضوعية لاقتصادنا السياسي. إن توليد الربح هو أولويتنا الجماعية -ليس بسبب ما يجب أن نفكر فيه، وإنما بسبب ما يتعين علينا القيام به في ظل الرأسمالية.
* *
البشر هم النوع الوحيد الحي على وجه الأرض الذي لا يعرفون كيف يُفترض أن يعيشوا. ولدى جميع الأنواع الأخرى بيئة طبيعية وطريقة طبيعية للحفاظ على شكل حياتها وإدامتها. وفي حين يتعين على بعض الحيوانات بناء الأشياء لجعل بيئتها كما ينبغي أن تكون (كما في حالة القنادس التي تبني السدود)، فليس هناك شك في ما يجب أن تبنيه وكيف يجب على الأنواع أن تكسب سبل عيشها. وكما هو الحال في جميع البيئات، يمكن أن تسوء الأمور: يمكن أن تتسبب صخور متساقطة بهدم السد، ويمكن أن يتسمم الماء، وقد ينتشر فيروس قاتل. ومع ذلك، عندما يحدث خطأ ما في حياة القنادس، فليس ذلك لأن لديهم فكرة خاطئة عن كيفية تنظيم حياتهم. في واقع الأمر، لا يمكن أن تكون لدى القنادس الفكرة الخاطئة عن الكيفية التي يجب أن تعيش بها، بما أنها محددة بطبيعتها.
وعلى النقيض من ذلك، يظل السؤال عن الكيفية التي يجب أن نحيا بها حياتنا دائمًا محل خلاف بالنسبة لنا كبشر، حتى لو حاولنا نسيان هذه الحقيقة. إننا نستطيع أن نكتشف الظروف المثالية للأنواع الأخرى من خلال دراسة طريقتها الطبيعية في الحياة. لكننا لا نستطيع اكتشاف أفضل طريقة للعيش عندما يتعلق الأمر بنا نحن من خلال دراسة مجتمعاتنا الحالية أو الماضية، ببساطة. إننا الحيوانات الوحيدة -من بين الأنواع المعروفة لدينا- التي ليس لها مكان معين ومُعطى في الطبيعة. علينا أن نصنع منزلاً لأنفسنا. وبالطريقة نفسها، نحن معرضون لأن نخلق ظروفاً معادية لازدهارنا. وبذلك، عندما تضربنا جائحة، فإننا لا نستطيع أن نتعامل معها على أنها مجرد حدث طبيعي مؤسف يصيب شكل حياتنا. إننا، مثل جميع الحيوانات، يمكن أن نصاب بالعدوى لأسباب طارئة، لكننا، على عكس الحيوانات الأخرى، مسؤولون عن الأسباب والعواقب الاجتماعية. وسوف يثير الوباء حتماً سؤال من نحن كنوع وكيف ننظم مجتمعاتنا.
إن قدرتنا على الانخراط في مسألة من نحن -ومن يجب أن نكون- هي في صميم ما أسماه كارل ماركس الشاب “جوهر الأنواع” Gattungswesen. وغالبًا ما يتم رفض فكرته وانتقادها باعتبار أنها التماس ساذج لجوهر إنساني مفترض، لكن مثل هذا النقد مضلل. إن “جوهر نوع” الجنس البشري هو بالتحديد أنه ليس لدينا جوهر معين. إننا بالتأكيد خاضعون للقيود والاشتراطات البيولوجية -ولا يمكننا، حتى من حيث المبدأ، أن نتجاوز كل هذه القيود- لكنّ لدينا دائماً سؤال حول الكيفية التي يفترض بنا أن نتعامل بها مع هذه القيود.
على عكس الأنواع الأخرى حيث يكرر كل جيل دورة الحياة نفسها، فإن لجنسنا البشري تاريخ يعكس طرقًا مختلفة لإعادة إنتاج شكل حياتنا: لقد كنا أسيادًا وعبيدًا، وأمراء وأقنانًا، ورأسماليين وعمالًا بأجر. وعلاوة على ذلك، يُرتب علينا جوهر وجودنا كنوع أن نتخذ موقفًا من الخير أو الشر في الطريقة التي نعيش بها. وكما يؤكد ماركس في كتاب “رأس المال”، فإننا الحيوان الوحيد الذي يمكنه تخيُّل عالَم أفضل من العالم الذي نعيش فيه، وتغيير ظروف وجودنا في ضوء التزامات بدلاً من مجرد الغرائز.
ومع ذلك، لا يمكن أن يحدث التغيير الثوري من خلال الخيال والأفكار فقط. إنه يتطلب تحولًا ماديًا في الكيفية التي نديم بها حياتنا من خلال الإنتاج والاستهلاك. لا يمكن فصل الأسئلة الوجودية في حياتنا -ما نقدّره- عن التنظيم الاقتصادي لمجتمعنا. ربما ندعي أننا نقدِّر حيواتنا، وحيوات الأنواع الأخرى التي تعيش على هذا الكوكب، كغايات في حد ذاتها. لكننا نعيش في ظل نظام اقتصادي حيث لا يمكننا في الممارسة معاملة بعضنا البعض كغايات في حد ذاتنا. بدلاً من ذلك، يتطلب اقتصادنا أن نتعامل مع بعضنا البعض كوسائل (“رأس مال بشري”) من أجل غاية هي تحقيق الربح. إن ما يهم في الاقتصاد الرأسمالي هو أننا نقوم بإنتاج السلع واستهلاكها، بدلاً من أن نزدهر كبشر. وليس لرفاهيتنا، أو لسلامة النظام البيئي الذي نحن جزء منه، أي “قيمة” اقتصادية في حد ذاتهما، وإنما فقط بقدر ما نربح منهما فحسب.
كي نفهم مسؤوليتنا عن الأزمة البيئية، وتكون لدينا أي فرصة لتشكيل عالم قادم أفضل، سيكون تحليل ماركس لمشكلة القيمة عنصراً لا غنى عنه. والآن، كنتيجة لهذا الوباء، أصبح الكثيرون يتساءلون عن أولوياتنا الاقتصادية ويتحدون فكرة الإنتاج من أجل الربح. ومع ذلك، فإن هذه الانتقادات ستظل مجرد شؤون تجريدية وأخلاقية ما لم تكن مرتبطة بالظروف الموضوعية لاقتصادنا السياسي. إن توليد الربح هو أولويتنا الجماعية -ليس بسبب ما يجب أن نفكر فيه، وإنما بسبب ما يتعين علينا القيام به في ظل الرأسمالية. إن كل واحد منا يعتمد في بقائه على الأرباح المتراكمة في شكل رأس المال والموزعة في شكل ثروة. ومن دون مثل هذا “النمو” في الاقتصاد، لن تكون لدينا أجور أو إيرادات أو رفاهية اجتماعية أو منافع عامة، لأن الدولة نفسها تموَّل من الضرائب على الثروة الرأسمالية.
نتيجة لذلك، تم بالفعل بناء إنتاج وتسليم السلع الحيوية على التضحية بحياة العمال الفقراء المُعدمين، حتى قبل أن يجعل الوباء هذه الحقيقة واضحة للعيان بشكل مؤلم. لطالما اعتمد توليد الثروة الرأسمالية -وسوف يعتمد دائمًا- على أولئك الذين ليس لديهم خيار سوى أن يخضعوا للاستغلال كعمالة رخيصة، سواء كان ذلك محليًا أو في البلدان الأفقر التي يتم نقل الإنتاج إليها. وإذا كنا جادين في التعلم من تجربتنا التاريخية، فسوف يتعين علينا أن نفعل أكثر من مجرد امتداح “العاملين الأساسيين” من نوافذنا أو أن نقوم بتغيير أولوياتنا كأفراد. لا شيء سوى التغلب على الرأسمالية من خلال العمل الجماعي المنظم يمكن أن يفي بالالتزام بعالم مستدام ومزدهر. سوف يقال لنا إن هذا مستحيل، لكن المخاطر لا يمكن أن تكون أكبر. إن وجود جنسنا البشري نفسه يعتمد على ذلك.
*مؤلف كتاب “هذه الحياة: لماذا يجعلنا عدم الخلود أحراراً”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The world to come: What should we value?
المصدر: (ذا نيوستيتسمان) / الغد الأردنية