حسن فحص
في الخطاب الذي ألقاه المرشد الأعلى للنظام الإيراني علي خامنئي، بتاريخ 31 يوليو (تموز) 2020، بمناسبة عيد الأضحى، أعاد تحديد الإطار العام للمواجهة الدائرة بين بلاده والإدارة الأميركية، ومعها دول الجوار، عندما تحدث عن أن “هدف الأعداء طويل الأمد من وراء الحظر الجائر يتمثل في دفع البلاد والحكومة إلى حافة الإفلاس”، وأن “الأعداء يرمون لتحقيق هدف ثانوي من وراء الحظر أيضاً يتمثل بقطع علاقات إيران مع فصائل المقاومة في المنطقة. هذا لن يتحقق مطلقاً”، مضيفاً أن “أميركا تطالبنا بالتخلي عن الصناعة النووية، وخفض معداتنا الدفاعية إلى العُشر، أي التخلي عن السلاح الصاروخي الردعي وعدم الدفاع عن أنفسنا، وأن أحد مطالب الأعداء يتمثل بالتخلي عن الاقتدار في المنطقة”، موضحاً أن “إيران لديها عمق استراتيجي في المنطقة، حيث أن العديد من الشعوب والحكومات تدعمنا، وترتبط معنا بأواصر متينة، وعلى استعداد للعمل في صالح أهدافنا، لكن الأعداء يطالبوننا بالتخلي عنها، وهو ما لا يجعلهم يقفون عند هذا الحد، وفي حال تخفيض إمكاناتنا الدفاعية وهدم اقتدارنا الإقليمي وتخلينا عن صناعتنا النووية التي تُعد حيوية للبلاد فإن الأعداء لن يكفوا عن مطالبهم، بل سيضيفون أموراً أخرى”.
لم تتأخر الترجمة العملية لهذا الخطاب، وما وصفه خامنئي بأنه “صراع إرادات”، فجاء أول تعبيراتها في المناورات العسكرية التي ارتفعت وتيرتها منذ هذا الخطاب، إن كان من قبل حرس الثورة، أو الجيش، وما فيها من الكشف عن تقنيات جديدة ورسائل عسكرية وأمنية، خصوصاً في ظل التطور السياسي على خط العلاقة بين تل أبيب وأبو ظبي، وقد تزامنت هذه الخطوات مع لجوء الحليف اللبناني “حزب الله” إلى رفع مستوى التصعيد الكلامي والتهديد ضد القوات الإسرائيلية على المقلب الثاني من الحدود اللبنانية، بالتزامن مع رفع وتيرة العلميات العسكرية ضد القوات الأميركية في العراق ومحاولة التصعيد الأمني على جبهة اليمن، وهي رسائل تحمل إشارات من المحور الإيراني حول استعداده لأي معركة واسعة قد تشهدها المنطقة تتجاوز الاشتباكات المتنقلة والمحدودة التي حدثت في الأشهر الماضية.
الموقف الإيراني لم يغادر الدائرة الأولى التي رسمتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بعد انسحابها من الاتفاق النووي وفرض حزمات من العقوبات الخانقة وغير المسبوقة، وقد كان المرشد واضحاً في تحديد جوهر الأزمة بين النظام الإيراني والإدارة الأميركية، والتي تتعلق بالدعم الذي تقدمه إيران لأذرعها والفصائل المُوالية لها في الإقليم والشرق الأوسط، وأن العقوبات التي تتعرض لها إيران تعود لهذا الدعم، معيداً التأكيد أن النظام لن يتخلى عن هذا الدعم وعلى استعداد لتحمل كل التبعات الناتجة عن هذا الموقف.
والاشتباك الإيراني الأميركي لا يمكن حصره في بعد واحد هو دعم الفصائل المُوالية في الإقليم، ولم يحصره خامنئي على عادته في هذا الخطاب ككل خطاب، فذهب إلى تعديد الأوراق التي وضعتها واشنطن على طاولة أي تفاوض وفي إطار البنود الـ12 التي حددها وزير خارجيتها، مايك بومبيو، التي تتناول النفوذ الإقليمي والبرنامجين الصاروخي والنووي، إضافة إلى ما يؤدي له أي تنازل في هذه الملفات من تأثيرات سلبية على مصير النظام في الداخل التي تخدم مسار استراتيجية القضاء عليه وتغييره بمساعدة الأزمات والأوضاع الاقتصادية المعقدة نتيجة العقوبات الاقتصادية وتداعيات جائحة كورونا.
لهجة التصعيد التي تسيطر على خطابات المسؤولين الإيرانيين وتحديد مناطق الاشتباك مع الإدارة الأميركية، والعودة لتأكيد عدم جدوى أي مفاوضات مع هذه الإدارة التي تريد إسقاط النظام من الداخل وإخراجه من الإقليم والحد من نفوذه، قد تحمل على الاعتقاد أن قنوات التواصل غير المباشرة التي تنشط بين طهران وواشنطن، قد وصلت إلى مراحل دقيقة من النقاشات والشروط، والشروط المقابلة، وأن هذه القنوات لا ترتبط بحكومة الرئيس حسن روحاني وإدارته التي نالت نصيبها من الانتقادات على خلفية عجزها عن معالجة الأزمات الداخلية في ظل نجاحات جزئية في ملفات أخرى، فضلاً عن إصرارها على خيار التفاوض مدعومة من بعض القوى السياسية الداخلية التي ترفع شعار التفاوض لإخراج إيران من أزماتها الداخلية بالحد الأدنى على حساب المصالح الاستراتيجية.
تصرفات الفرد وأسلوبه في إدارة أموره تعبر إلى حد ما عن الوسط الاجتماعي والثقافي الذي يأتي منه، وقد يؤثر ذلك في آلية تفكير السلطة في هذا المجتمع وكيفية معالجتها للتحديات وإدارتها، وقد تكون انعكاساً لهذا النمط من التفكير والتصرف.
وقد يكون المجتمع الإيراني أبرز تعبير عن هذا النمط، فقد قال لي صديق إيراني ميسور إن الإيراني لا يقرر شراء سيارة على سبيل المثال، ما لم يمتلك رصيداً مالياً يتجاوز الأضعاف الخمسة التي يبلغها سعر وقيمة السيارة التي ينوي شراءها، إضافة إلى أن هذا العرف القائم على مر العصور على المستوى الاجتماعي أن العائلة الإيرانية ومن الأشهر الأولى لولادة طفلة أنثى لها يبدأ الوالدان (الأم والأب) باجتزاء قسم من دخلهما المالي لشراء أدوات منزلية أساسية لتكون جزءاً من جهازها المنزلي في اليوم الذي تقرر فيه الزواج، لأن هذا العرف يحمل عائلة البنت عبء ومسؤولية تجهيز منزل الزوجية لابنتهم، مقابل فرض “صداق” كبير على الزوج الذي لا يتحمل سوى مسؤولية تأمين المنزل.
هذا النمط من التفكير في إدارة الأمور اليومية قد لا يختلف كثيراً عن النمط الذي يعتمده النظام الإيراني في إدارة ملفاته الداخلية والخارجية، ومبعث هذه المقارنة يأتي من تأكيد المرشد الأبعاد الخمسة التي تكرس قوة النظام في المعادلات الدولية والإقليمية وفي مواجهة الضغوط التي يتعرض لها.
فما تملكه إيران من أوراق وملفات داخلية وإقليمية، عسكرية وسياسية، تشكل “الجهاز” التي أعدته ليوم الاستحقاق، وأنها لن تفرط بما حققته عند أول تحدٍّ تواجهه، وهي على استعداد لتحمل كل التبعات والأثمان التي قد تفرض عليها بانتظار اللحظة المناسبة لاستثمارها بالشكل الذي يخدم مصالحها الاستراتيجية في منطقة غرب آسيا، وعلى الجهة التي تطلب منها التخلي أو تقديم هذه المنجزات والأوراق على طاولة المفاوضات أن تقدم بالمقابل أثماناً أكبر من الثمن الذي ستقدمه هي، وإلا “فالزواج قسمة ونصيب”، حتى ولو كان ثمن ذلك “العنوسة” أو العزلة، وإن إصرارها على التمسك بملفاتها وأوراقها يأتي معززاً هذه المرة برسائل عسكرية، واستعداداً لخوض مواجهة مفتوحة قد تفضل ألا تحدث.
المصدر: اندبندنت عربية