تبيّن دراسة حالات اللجوء، في دول كثيرة في العالم، أن الرغبة في العودة إلى الموطن تتأثر بطول مدة اللجوء، فكلما طالت فترات اللجوء، ضعفت الرغبة في العودة، ويعود ذلك لأسباب عديدة، بعضها يعود للظروف القائمة في الوطن، وبعضها يعود إلى اندماج اللاجئ في الحياة العامة لبلد اللجوء، من حيث العمل ومصدر الدخل أو دخول الأطفال في المدارس أو الزواج، أو غير ذلك من أمور الحياة. ولا يبدو أن الحال مختلفة مع السوريين.
للتعرّف إلى اتجاهات السوريين في هذا الموضوع، وإلى مدى رغبتهم في العودة إلى سورية وشروطها، أعدّ مركز حرمون للدراسات المعاصرة دراسة حول مجتمع اللجوء السوري في تركيا، من خلال استطلاع نشرت نتائجه ضمن الدراسة، وذلك عبر استبانة تضمّنت مجموعة من الأسئلة المتعلقة بموضوع الرغبة في العودة إلى سورية، وقد بلغ الحجم الكلي للمشاركين في الاستبانة 1184 مفردة، توزعت على مختلف مناطق وجود السوريين في تركيا، وقد شملت الجنسين، من مختلف الأعمار فوق عمر 18 سنة. وكان تفاعل الذكور مع الاستجابة لملء الاستبانة أعلى من تفاعل الإناث، حيث بلغت نسبة الذكور 67.2 %، مقابل 32.8 % للإناث. وتوزعت العينة على مختلف الفئات العمرية، لكن النسبة الأكبر كانت لدى من كانت أعمارهم بين 18 و30 سنة، إذ وصلت إلى 56 %، ومن كانت أعمارهم بين 31 و40 كانت نسبتهم 25 %، وحلّت في المرتبة الثالثة الفئة العمرية بين 41 و50 سنة، بنسبة وصلت 12.2 %، فيما لم تتجاوز من كانت أعمارهم فوق الخمسين 7 %. ويعود سبب تركز أفراد العينة في الفئات العمرية الأقل إلى أن عملية جمع البيانات تمّت بطريقة إلكترونية، لصعوبة تنفيذها ميدانيًا، ومعروف أن الشباب هم الأكثر استخدامًا لوسائل الاتصالات الحديثة.
أجاب نحو ثلث أفراد العينة بأنهم لا يفكرون في العودة إلى سورية مطلقًا، وبلغت نسبتهم 33 % من أفراد العينة، في حين أن نسبة الذين يفكرون في العودة بلغت 67 %. وتبيّن أن الإناث أقل تفكيرًا في العودة إلى سورية، مقارنة بالذكور، إذ بلغت نسبة الإناث اللواتي يفكرن في العودة 57 %، مقابل 72 % للذكور. وقد أكدت نتائج الاستبانة وجود ترابط عكسي بين مستوى التعليم والتفكير في العودة إلى سورية؛ فكلما ارتفع مستوى التعليم، انخفضت نسبة التفكير في العودة إلى سورية. وأظهرت الاستبانة أن الفئتين العمريتين الأصغر سنًا (40 سنة فما دون) أقلّ رغبة وتفكيرًا في العودة، مقارنة بمن هم أكبر من 40 سنة، وأن المتزوجين هم الأكثر تفكيرًا في العودة، مقارنة بالعازبين، إذ بلغت النسب على التوالي (71 % – 64 %). ولعل ذلك يعود إلى أن أعباء الحياة على المتزوجين أكثر بكثير من أعباء الحياة على العازبين، أضف إلى ذلك أن وجود الأولاد يؤدي دورًا حاسمًا في الرغبة والتفكير في العودة إلى سورية. وكانت نسبة الراغبين في العودة إلى سورية، لدى ذوي الدخل المرتفع، منخفضة جدًا، مقارنة بذوي الدخل المتوسط والمنخفض؛ إذ بلغت هذه النسبة لدى ذوي الدخل المرتفع 44 % فقط، مقارنة بـ 69 % لدى ذوي الدخل الضعيف، و68 % لدى ذوي الدخل المتوسط. وبفرض تحسن الظروف المعيشية وتوفر فرص العمل، أجاب 53 % أنهم يعودون بشكل دائم إلى سورية، مقابل 47 % لا يعودون، وإن تحسنت ظروف العمل والمعيشة.
وفي حال تفكيك الأجهزة الأمنية التي تبعث الخوف في نفوس السوريين، أكد 47 % من أفراد العيّنة أنهم لا يوافقون على العودة الدائمة إلى سورية، وإن فُكّكت الأجهزة الأمنية، مقابل 53 % قالوا إنهم يوافقون على العودة في هذه الحالة، أما في حال بقاء الأجهزة الأمنية دون تفكيك، فقد ارتفعت نسبة الرافضين للعودة، حتى مع ضمان عدم الاعتقال، إلى 54 %، مقابل 46 % يعودون بشكل دائم في حال تحقق هذا الشرط.
وحول العودة إلى الشمال السوري، في حال استقرار الوضع الأمنيبشكل نهائي في الشمال السوري، كانت نسبة رفض العودة الدائمة إلى هناك الأكبر، إذ بلغت النسبة 74 % من مجموع أفراد العيّنة، وقد تعود نسبة من وافقوا على هذا الخيار إلى أنهم من أبناء تلك المناطق أو المناطق التي تتشابه ثقافتها مع ثقافة وعادات الشمال السوري. ومن المعروف أن نسبة كبيرة من الموجودين في تركيا هم من أبناء دمشق وريفها، وحلب وريفها كذلك، وهو ما يمكن أن يفسر رغبة أولئك في العودة إلى مدنهم، لا إلى الشمال السوري، حيث يختلف نمط حياتهم وعاداتهم وقيمهم عن الحياة في الشمال السوري. ومن ناحية أخرى، ترشدنا تلك النسبة إلى ارتفاع روح “المناطقية”، بين اللاجئين السوريين في تركيا، وهو ما يعني ضيق الهويات والانتماء لدى السوريين هنا، وضعف مفهوم “سورية الوطن”. ويمكن أن يعود ذلك أيضًا إلى أن العامل الحاسم الثاني لموضوع العودة إلى الشمال السوري، إلى جانب استقرار الوضع الأمني، هو تحسن الوضع المعيشي، فأهالي هذه المناطق يعيشون وضعًا مأسويًا، فهناك كثير من المشردين والنازحين الذين توافدوا على هذه المناطق، طوال سنوات الثورة السورية.
يبدو أن السوريين، مع طول فترة اللجوء التي يعيشونها، بدؤوا يؤسسون شيئًا فشيئًا لحياة جديدة بعيدة عن سورية، من حيث التعليم والحياة الاجتماعية والاقتصادية. وربما يُفسّر هذا الأمر سببَ رفض 37 % من السوريين للعودة الدائمة إلى سورية، مقابل 63 % يفضلون العودة، في حال رحيل رأس النظام السوري بشار الأسد. أضف إلى ذلك عوامل تتعلق بسورية، فكثير من السوريين فقدوا كل ما يمتلكونه في سورية، وتعدّ العودة إلى سورية وتأسيس حياة جديدة من الصفر، بالنسبة إليهم، أصعب من البقاء في تركيا وتأسيس حياة فيها لهم ولأولادهم، إضافة إلى أن كثيرًا من السوريين هربوا من سورية مع ذويهم من الأقارب من الدرجة الأولى، وبذلك ضعفت درجة ارتباطهم بسورية. وقد أظهرت نتائج بحث قام به مركز (حرمون) لمّا يُنشر بعد، حول (الهوية السورية والتغيرات التي طرأت عليها) أن الانتماء إلى الهوية السورية ضعف، أو كاد يختفي، لدى من ليس له صلات بسورية، سواء من حيث وجود أقارب أو من حيث وجود ممتلكات، فقد دمرت قوات النظام كل شيء يربطهم بالعودة إلى سورية.
وعلى الرغم من وجود عوامل تُضعف رغبة السوريين في العودة، نشير إلى حقيقة أن غياب فكرة “العودة إلى سورية”، عند ثُلث أفراد العينة، ما هو إلا نتيجة نافلة لعلاقة السوري بمفهوم الوطن والهوية والانتماء. وهو ما اشتغل عليه النظام السوري طويلًا، حيث جعل الهوية السورية ملتصقة بالسلطة الحاكمة، ومن ثم غاب مفهوم سورية كهوية مستقلة عن السلطة. وهو ما أثر في اتجاهات السوريين في تركيا نحو وطنهم.
من خلال محاكمة منطقية؛ يمكن الاستنتاج أن نتائج استبانات أخرى في هذا الموضوع، في أماكن أخرى، ستعطي نتائج متباينة، ويتوقع أن تكون رغبة اللاجئين السوريين في بلدان أوروبا الغربية وكندا وأميركا وأستراليا، في العودة الدائمة إلى سورية، أقلّ بكثير من اللاجئين السوريين في تركيا، بينما يتوقع أن تكون رغبة اللاجئين السوريين في كل من لبنان والأردن أكبر بكثير؛ حيث إن الرغبة في العودة تتعلق بمدى توفر شروط العيش الكريم ومصادر الدخل وتأمين التعليم والضمان الصحي والسكن، في بلدان لجوئهم.
لمزيد من التفاصيل، يمكن الرجوع إلى تقرير الاستبانة في ملاحق هذه الدراسة التي ستنشر قريبًا على موقع المركز.
المصدر: مركز حرمون