حسن النيفي
يؤكّد كثير من السوريين استمرارهم في مناهضة نظام الأسد على الرغم من واقعهم المأسوي الذي هم فيه، لإيمانهم المطلق بأن هذا النظام هو الجذر الحقيقي لمأساتهم التي لن تنتهي إلا بزوال أسبابها الجوهرية، علماً ان أصحاب هذه القناعة يدركون جيداً أن موازين القوى الراهنة لا تتيح لهم المجاهرة بأحلامهم، نظراً لتفوّق النظام العسكري والسياسي، وإخلاص حلفائه له بالدعم الكامل وعلى كافة المستويات، فضلاً عن قدرته على اختراق المعارضات السياسية والعسكرية وجعْلها تسير في الطريق الذي يريد. ولعلّ اللافت في الأمر، أن الكثير من هذه الشريحة السكانية التي ينتمي إليها أصحاب هذا الرأي هي في الأصل تعاني من مأساة مركّبة، ذلك أن مناهضتها لنظام الأسد لم تكن وليدة آذار 2011 فحسب، بل هي موجودة قبل ذلك بكثير، وقد دفعوا ثمنها بطرائق مختلفة، ثم إنهم فضلاً عن ذلك، هم النسبة الأكبر من الذين اقتلعتهم الحرب، فالتهمت قسماً من أبنائهم، ورمت قسماً آخر في المخيمات، فهم في كل الأحوال هائمون في حقول الشقاء، ومستمرون في معاناتهم، فضلاً عن أن معظمهم بعيد عن مراكز القرار وصدارة المشهد، سواء على مستوى التمثيل في الائتلاف أو هيئة التفاوض أو سوى ذلك، ولكن على الرغم من ذلك، نراهم الأكثر تشدّداً في قناعاتهم وآرائهم حيال أي تسوية مع النظام، وحين يتاح لهم التعبير عن آرائهم، سرعان ما نراهم يحملون أعلام الثورة ويعيدون سيرة هتافات الثورة في أشهرها الأولى، فهل يجسّد سلوكهم هذا ضرباً من الحنين إلى ماضٍ ذهبي من عمر الثورة، أم أنه ضربٌ من السذاجة وعدم القدرة على تقدير دقائق الأمور ، أم هو الجهل بمعطيات الواقع واستمراء الأحلام والرغبات، أم هي بالفعل قناعات حقيقية لها ما يبررها بالنسبة إليهم؟.
بمقابل ذلك، نجد رأياً آخر ينتمي أصحابه إلى شريحة من السوريين، ترى انها الأكثر نضجاً، وانها الأقدر على تفهّم واستيعاب سيرورة الصراع بين الشعب والسلطة، لذا فهي تحاول أن تؤسس رؤاها وتصوراتها على ما هو مُتاح في الواقع، وليس على ما هو مُتخيّل، كما تحاول الحصول على الممكن، وليس على ما هو دفين خلف الرغبات، وإنها إذ ترى أن موازين القوى لم تعد لصالح الثورة، بفعل العوامل الدولية والإقليمية،فإنها لا تتردّد في التسليم المطلق للإرادات الخارجية، ولسان حالها يقول: لمَ لا؟ أليس القبول بالدور الوظيفي حيال الصراع في سورية أكثر جدوى من إدارة الظهر كلّياً؟ وإن لم نقبل بهذا الدور الوظيفي، فلن يتوان آخرون من ملء الفراغ، وعندئذٍ سيتم تحييدنا بالمطلق، ثمّ أليس الحفاظ على ما تبقى خيراً من الاستمرار في المقتلة؟ وتجدر الإشارة إلى أن هذه الشريحة هي أقلّ بؤساً من حيث الجانب المعيشي والاقتصادي والامني من الشريحة الاولى ، فضلاً عن أن رموزها أو ممثليها هم الأقرب إلى مراكز القرار بحكم علاقاتهم مع الخارج الدولي والإقليمي، وكذلك بحكم أنها تحظى بإمساكها على مفاصل الكيانات الرسمية كالائتلاف وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية.
ولئن كان الخلاف في وجهات النظر والتصورات أمراً طبيعياً في أوساط الثورات الشعبية وحركات التحرر عبر التاريخ، طالما ينمو ويتفاعل في ظل قيادة مركزية للثورة، تستوعب الخلافات وتتمكن من ضبط إيقاعها، بل ربما تجعل منها عامل قوّة لا ضعف، وبالتالي تستطيع التحكّم بتوجيه بوصلة الخلاف إلى حيث المصلحة الوطنية، إلّا أن هذه الحالة لم تكن كذلك في حراك الثورة السورية، بل إن الجدران القائمة بين الشريحتين المشار إليهما آنفاً بدأت تعلو شيئاً فشيئاً منذ انطلاقة مسار أستانا في مطلع العام 2017 ، وتشظي العملية التفاوضية إلى مسارين ( أستانا وجنيف)، إلى أن التقى المساران في سوتشي 30 كانون ثاني 2018 ، وكان لقاؤهماً تجسيداً واضحاً لإرادة بوتين الذي تمكّن من الالتفاف على القرارات الدولية واختزال العملية السياسية بسلّة الدستور.
ومع مرور ثلاث لقاءات للجنة الدستورية في جنيف دون تحقيق أي فحوى حقيقي، تزداد حدّة المناكفة بين الشريحتين المعارضتين، بل تصل إلى درجة القطيعة التي لا يتخللها سوى تبادل الاتهامات، فلئن قالت الأولى : إن مسعاكم في الامتثال للإرادة الروسية هو تفريط بالقرارات الأممية ( 2118 – 2254 )، وهو تفريط بجوهر العملية السياسية ( الانتقال السياسي)، تردّ الثانية قائلة: وما قيمة القرارات الدولية في ظل انعدام أوراق القوة على الأرض، لقد خسرنا الحرب، وبالتالي علينا السعي للحفاظ على ما تبقى من دماء، وتقول الأولى: إن كل ما تم التنازل عنه لم يسهم أبدا في حقن قطرة دم واحدة، ولم يسهم كذلك في الإفراج عن المعتقلين، ولم يكن حائلاً دون نزوح أكثر من مليون مواطن سوري منذ شباط الماضي وحتى الآن، فما الذي لم يفعله النظام وحلفاؤه بعد؟ ثم إن استمراركم في التعاطي مع لجنة الدستور ليس سوى مضْيعة للوقت، فتردّ الثانية : بل إن لقاءات اللجنة الدستورية كانت ذا مردود إيجابي، وها هو النظام يضطر إلى إرسال وفده للمشاركة، ويناقشنا في موضوعات هامة على الرغم من عموميتها، فتردّ الأولى: إن نقاشكم مع وفد النظام في العموميات ، ما هو في حقيقة الأمر، سوى التفاصيل التي وعد وليد المعلم بإغراقكم بها، ألا تتذكرون وعيده؟
وهكذا يبدو أن المضيّ في تبادل الاتهامات هو البديل عن الحوار المسؤول والمكاشفات العميقة والمقاربات النقدية الجريئة والموضوعية التي يفتقدها السوريون على مدى تسع سنوات، وذلك بفعل القطيعة التي أقامها الائتلاف – بصفته الكيان السياسي والسيادي الممثل للسوريين – بينه وبين شتى أشكال الحراك الوطني سواء في الداخل السوري أو في بلدان اللجوء، واليوم إذ تبادر القيادة الجديدة للائتلاف تجاه ما تدعوه ( إصلاحاً ) من خلال ظهور إعلامي هنا وهناك، وتشكيل بعض اللجان الجديدة التي سرعان ما تتثاءب وتنام بعد تشكيلها بأيام ، أو من خلال اللقاءات المتناثرة مع بعض الأحزاب والقوى التي – هي في الأصل- كانت وما تزال مشاركة في خراب الائتلاف واستمرار حالة العطب في أوصاله، ولعلّ العملية برمّتها – وفقاً لما هو منظور – لا تتجاوز ترقيع المُرقَّع.، فضلاً عن قناعة بدأت تتعزّز لدى الكثيرين بأن أي محاولة جدّية للإصلاح إنما تعني الإطاحة بمصالح العديد ممّن تبادلوا، وما يزالون يتبادلون الأدوار داخل الرقعة ذاتها، ولهذا فهم يحاولون توجيه أي طرح حول هذا الموضوع، صوب وجهات أخرى بعيداً عن المساس بمصالحهم وأدوارهم الوظيفية التي ركنوا إليها.
ما من شك في أن الوجه الناصع للثورة لم يعد قائماً إلّا في الحيّز الأخلاقي لأبنائها المخلصين، وتحويل القيمة الخلقية إلى فعل حقيقي مشروط – جوهرياً – بدرجة عالية من الإحساس بالمسؤولية والقدرة على التخلي عن المصالح الشخصية لصالح القضية الأم، وهذا وحده هو المدخل السليم الذي من شانه تقزيم الجدران بين الشريحتين، وجعْل أيّ حوار بينهما سبيلاً إلى التكامل، وليس التنافر.
المصدر: تلفزيون سوريا