محمود الوهب
العرب اليوم في قاع لا قاع تحتها.. ولم يعد من أمر أمام العرب غير خيارين فإما الموت أو النهوض.. وأستبعد الموت فهو أمر مخالف لقوانين الطبيعة ولكن النهوض هو الأكثر واقعية ومنطقية.. على الرغم من أنهم لم يجيدوا خلال عقود غير الإدانة والشجب والكلام النافل.. وهاهم أولاء اليوم يدينون ويشجبون إذ لم يبق أحد منهم (يستثنى أصحاب العلاقة وطبالوهم) إلا وأدان خطوات التطبيع الحاصلة بين دويلتي الإمارات والبحرين (ولا أقول: “دويلتي” تصغيراً لشأنهما، بل لأنهما وشبههما، ما هما في الأصل إلا شيوخ قبائل وعشائر جعل منهم الإنكليز أولاً، ثم الأمريكان ملوكاً وأمراء..). ويدور الحديث اليوم حول دويلات أخرى تقف على الدور منتظرة إشارة المعلم الأمريكي/الإسرائيلي لتوسيع حفرة هذا التردي الحاصل في دنيا العرب أجمعين..
إن الإدانة فن أتقنه العرب منذ سبعين سنة، ومازالوا من انحدار إلى انحدار، ومن حفرة إلى أخرى.. وما خطر ببال أحد أن يمعن إلى أسباب ذلك الانحدار وعمقه الممتد كل تلك السنين، ليقف، ولو لمرة واحدة، في مواجهة ذاته وليبدأ وغيره مساراً جديداً يعاكس اتجاه الرياح الإسرائيلية، نعم إن التطبيع بدأ منذ أن أعطى الإنكليز وعداً للصهاينة بإقامة دولة لهم في فلسطين.. ومنذ أخذت الشاحنات الأردنية عام 1948 تنقل الفلسطينيين من الأراضي المحتلة إلى الضفة الغربية واعدة إياهم بالعودة القريبة بعد أسبوع أو أسبوعين، وكذلك منذ الموافقة على الهدن المتتالية.. ثم منذ هزيمة 1967 وتحويلها إلى نصر إذ اكتشف حكام سورية أن غاية إسرائيل إسقاط الأنظمة الوطنية التقدمية لا احتلال الأراضي والمساومة عليها في قبول الدولة الصهيونية.. ثم كان التطبيع منذ أن منع حافظ الأسد الغطاء الجوي عن القوات السورية التي ذهبت دعماً لفصائل المقاومة الفلسطينية يوم أيلول الأسود، فارتكبت المجازر ضدهم أواخر أيلول من عام 1970 وقد مات في إثر ذلك جمال عبد الناصر الذي تدخل لمصالحة الطرفين، ثم ليتولى الأسد السلطة بعد أقل من خمسين يوماً فقط! وبدأ التطبيع منذ حرب 1973 (التحريكية) التي قادت نتائجها أنور السادات إلى إسرائيل واتفاقات كامب ديفيد، كما قادت حافظ الأسد (الذي حاول دائماً أن يظهر وطنية طافحة) إلى اتفاق فصل القوات فمنع بموجبه الجيش السوري من أن يطلق طلقة واحدة على محتلي هضبة الجولان.. وقد أتى التطبيع من خلال غرق الحكومات العربية كافة بفوائض أموال النفط التي سالت أنهاراً خلال حرب “التحريك” وبعدها فملأت خزائن الدول البترولية لتساهم في شراء الذمم، ونشر الفساد، ووضع العصي في عجلات التنمية.. وأتى التطبيع بعد ذلك لدى دخول الجيش السوري إلى لبنان، ووقوفه ضد الحركة الوطنية اللبنانية وضد منظمة التحرير الفلسطينية التي أخرجت من مجالها الحيوي، ثم لتذهب المنظمة بعدئذ مكرهة إلى اتفاق أوسلو اعتقاداً منها بأنها ستجد شبراً من الأرض تستطيع الوقوف عليه دون أن يقتلعها أحد.. وجاء التطبيع أيضاً حين سلِّم الملف الفلسطيني إلى إيران التي دمرت ثورتها الإسلامية شركاءها من القوى المناضلة ضد الاستبداد، ومن أجل الديمقراطية، ولتنّصب نفسها وصية على القضية الفلسطينية، وعلى مفاتيح القدس، وعلى ذلك فقد بدأت بالتمدد داخل لبنان والعراق وسورية وحتى داخل بعض دول الخليج.. وأخيراً إن التطبيع حاصل تحت الطاولة وفي الكواليس.. وأكثر ما برزت قوة من يقوده في الثورة المضادة التي بدأت فور انطلاقة ثورات الربيع العربي التي كانت حلماً، وجاءت بعد أن طفح كيل الهزائم وإذلال الحكام لشعوبهم، وبعد أن خرج جيل جديد من الشباب مكتشفاً أن ثمة حياة غير الحياة التي يعيشونها، حياة ملؤها الحرية.. حياة مفتوحة على العمل والنشاط والإبداع وشعور الإنسان بذاته الفاعلة، ووجوده الحر! ولا شك في أنَّ ثورات الربيع العربي قد هددت الأنظمة التي تمثل عهود الإقطاعية البالية، وتدير شؤونها شيوخ قبائل وزعماء عشائر، بعضهم شدَّ وثاقه إلى أمريكا ودوائرها الاستخباراتية.. إذ أدركت بحسها المشدود إلى كرسي العرش أن دورها قادم بعد إسقاط الحكومات العسكرية والطائفية التي قادت بلدانها إلى الدمار والعجز الكلي في كل من ليبيا والعراق وسورية ولبنان واليمن.. ولذلك عملت بكل ما لديها من قوة لوأد الربيع العربي أو احتوائه! فإذا كانت هذه الثورات قد أسقطت أو سوف تسقط أنظمة استبدادية تستند إلى جيوش وأجهزة أمنية فإن أنظمتها رغم البراقع الخارجية من أبنية شاهقة فيها ألوان الراحة وما يجلب متعاً لـ”أكابر القوم” إلا أن العث يأكل أساليب قيادتها من الداخل وتحتاج إلى نفض لإدخالها في عالم الحضارة والتمدن الفعليين، ويرفع عن كاهل شعبها مظالم العبودية..
اليوم وقد وصل العرب إلى قاع لا قاع بعدها إلا الموت.. نعم فلا شيء أمام العرب اليوم غير خيارين فإما الموت أو النهوض.. وأستبعد الموت فهو أمر مخالف لقوانين الطبيعة وإن وجد بين الحكام، لكن النهوض في أذهان الشباب وآمالهم وأحلامهم هو المرئي وهو الأكثر واقعية ومنطقية وتباشيره نلمحها في العراق وفي لبنان وفي بلدان عربية أخرى.. وملامح أفكاره تتبلور في أذهان الشباب دولاً ديمقراطية وحريات فردية تفسح في المجال لقواهم في التفتح والعطاء..
المصدر: نينار