عبد الباسط سيدا
أعلن وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، أخيراً، انتهاء مرحلة المواجهات العسكرية في سورية، وذلك بعد خمسة أعوام من التدخل العسكري الروسي العلني المكشوف الذي بدأ في 30 سبتمبر/ أيلول 2015، وكان نتيجة التفاهمات والتوافقات مع الجانبين، الأميركي والإسرائيلي، من جهة، ومع الجانب الإيراني من جهة أخرى، وذلك بناءً على حسابات كل طرف، وهي حسابات تقاطعت جميعها حول الإبقاء على النظام، وإنْ من مواقع مختلفة. فالروس استخدموا ورقة النظام لإضفاء المشروعية على تدخلهم السافر في سورية، هذا التدخل الذي وفّر لهم فرصة الظهور على المسرح الدولي مرة أخرى، كقوة عظمى، بعد الإخفاق الذي تعرّضوا له في أوكرانيا التي خرجت، إلى إشعار آخر، من نطاق دائرة نفوذهم وتأثيرهم؛ إذ لم يتمكّنوا عبر إجراءاتهم الانتقامية من تحسين موقعهم، واستعادة هيبتهم، بل على العكس تعرّضوا للعقوبات الاقتصادية الصارمة من الأوروبيين والأميركان. لذلك، حاولوا تعويض خسارتهم عبر استخدام ورقة سورية لابتزاز الأوروبيين، وتطوير العلاقات مع دول الخليج، واتخاذ سورية ساحةً لتجريب الأسلحة التي تعدّ من أهم المصادر التي تضمن لروسيا العملة الصعبة، وتستوعب قطاعاً واسعاً من الأيدي العاملة في بلدٍ يعاني من التخلف في معظم الميادين الإنتاجية، وذلك وفق المعايير الدولية التي تعتمد أساساً لدى مقارنة مستوى التقدّم الاقتصادي الروسي بالمستويات الموجودة في كل من أوروبا وأميركا واليابان والصين.
أما الأميركان، فقد أعلنوا أكثر من مرة أنهم قد أعادوا النظر في مواقفهم بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولم يعد موضوع إخراج بشار الأسد من المشهد من أولوياتهم. والحجة التي اعتمدوها أنه لم يمثل خطراً على المصالح الأميركية. في حين أن إسرائيل وجدت أن من الأفضل، بالنسبة إليها، الإبقاء على نظامٍ التزم معها عقوداً كلَّ العهود التي قطعها على نفسه. لذلك، وجدت أن مصلحتها الأساسية تكمن في الإبقاء على وجوده، لكن شرط الحد من النفوذ الإيراني. وهذا ما تكفّلت به روسيا التي أدّت دور المعادل العام في تعاملها مع مختلف الأطراف المتصارعة على سورية، وضمن المساحة السورية نفسها.
أما النظام الإيراني، فقد أيقن، بعد سنواتٍ من تدخله العسكري المباشر، سواء بقواته أو بأذرعه العضوية، مثل حزب الله والمليشيات المذهبية العراقية والأفغانية والباكستانية، أن النظام الذي استثمر فيه عقوداً في طريقه إلى السقوط، ولن ينقذه سوى تدخل روسي قوي، يمكّنه من استعادة السيطرة على الأرض التي كان قد فقد السيطرة على نحو ثلاثة أرباعها، وفقد أيضاً السيطرة على كل المعابر الحدودية، بل باتت دمشق نفسها في مرمى الفصائل العسكرية المناهضة، وهي الفصائل التي كانت تنتظر قراراً من القوى الداعمة. هذا في حين أن المعارضة السورية كانت في طريقها إلى التحول إلى مجرد واجهة تستخدمها الأطراف الدولية والإقليمية.
بالإضافة إلى ما تقدّم، وجدت تركيا نفسها أمام وضعيةٍ لا تمنحها مساحةً مريحةً للمناورة، فقد تأكّدت من حصول توافق روسي – أميركي حول سورية. كذلك فإنها التقطت معنى الصمت الإسرائيلي والعربي أمام التدخل الروسي. لذلك قرّرت، بموجب مصالحها وتطلعاتها الإقليمية، وتفاعلات أوضاعها الداخلية، إعادة فتح الخطوط بينها وبين الإسرائيليين والروس صيف عام 2016، بل أصبحت طرفاً في المشروع الروسي البديل لمقاربة القضية السورية، وما نعنيه بذلك تجاوز بيان جنيف 1 عام 2012، ومشروع هيئة الحكم الانتقالي، عبر مسار أستانة الذي بدأ في بداية عام 2017، وكان يهدف، في الأساس، إلى تجاوز استحقاقات مسار جنيف الذي كان يستند إلى بيان جنيف 1 عام 2012.
وقد تمكّن الروس، بعد تفاهماتهم مع الجانب الأميركي والأطراف الإقليمية المعنية بالشأن السوري، من إدخال قوةٍ ضاربةٍ تمثلت بعشرات الطائرات، ومئات، وربما آلاف، الآليات المدرّعة، وعشرات الآلاف من القوات العسكرية (الروس اعترفوا بـ 63 ألفاً، ولكن يعتقد أن العدد أكبر، ولا سيما إذا أضفنا المحسوبين على الشركات الأمنية الخاصة)، وقد استطاعوا، بفعل هذه القوة، تغيير الموازين على الأرض بعد تراجع، إن لم نقل، توقف الدعم للقوى المعارضة للنظام. كذلك استطاعوا، في الوقت نفسه، شدّ الفصائل العسكرية المعارضة لنظام بشار إلى دائرة تأثيرها، حيث مارست عليها سياسة الترهيب والترغيب. كذلك حرصت روسيا، في الوقت ذاته، على تغطية جهودها بمشهد سوري بائس، سواء من النظام أو المعارضة، وذلك للادّعاء أن ما يجري مفاوضات بين السوريين، ترمي إلى البحث عن الحل، والوصول إلى مخرج مقبول بالتعاون بين أطراف أستانا. هذا في حين أن اللوحة كانت واضحة منذ البداية، والأهداف كانت مكشوفة.
وعلى الرغم من جهود التمويه والتضليل الكثيرة التي بُذلت لتمرير التدخل الروسي في سورية، ومنها أنه محدودٌ من جهة نطاق الاتساع، والمدة الزمنية، وأن الهدف مساعدة السوريين للتوافق على مشروع حلٍّ يكون في مصلحة الجميع، كان من الواضح أن الروس قد تعاملوا مع مشروعهم في سورية بعقلية المتعهّد الذي أوكلت إليه مهمة تصفية الفصائل العسكرية، ما عدا جبهة النصرة، بطبيعة الحال، لأسباب كثيرة ما زالت فاعلة.
وقد تمكّن الروس بالفعل من إعادة النظام، ولو بصورة رمزية شكلية، إلى كل المناطق السورية، ما عدا الشمالية الغربية التي تسيطر عليها القوات التركية بالتعاون مع الفصائل العسكرية السورية التي تعمل بأمرها. بينما تهيمن قوات أميركية على المنطقة الشمالية الشرقية، وهي المنطقة التي باتت تعرف بمنطقة شرق الفرات، وبمساعدة حيوية من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تستفيد من التغطية الجوية التي توفرها لها قوات التحالف الدولي بقيادة أميركية، كما تعتمد، بصورة أساسية، على التسليح والتمويل من الولايات المتحدة وحلفائها الدوليين والإقليميين.
وعلى الرغم مما حققته روسيا من فوائد مباشرة، تتجسّد في الحصول على قاعدة حميميم، وعلى ميناء طرطوس، هذا بالإضافة إلى عشرات العقود التي تضمن التغلغل الروسي في مفاصل الاقتصاد السوري، هذا إلى القدرة على التحكّم في عديد من وحدات الجيش والأجهزة الأمنية لضمان استمرارية النفوذ في الدولة السورية العميقة مستقبلاً. وعلى الرغم من استعجال الروس في السعي من أجل فرض حل سياسي للوضع السوري وفق حساباتهم، عبر محاولة فرض دستور روسي شبه ناجز للبلد في بدايات مسار أستانا، وهي الخطوة التي تمكّنوا لاحقاً من تسويقها في جنيف، حتى باتت اللجنة الدستورية البديل من كل الخطوات الأخرى التي كانت مقترحة للحل، وفي مقدمتها خطوة تشكيل هيئة الحكم الانتقالي بكامل الصلاحيات.
وفي الوقت ذاته، سعى الروس إعلامياً إلى تسويق موضوع إمكانية عودة اللاجئين، حتى إنهم حدّدوا البوابات والإجراءات، وذلك تمهيداً لمشروع إعادة الإعمار الذي كانوا يعوّلون عليه اقتصادياً، ويعملون على اعتماده نموذجاً لمقدرتهم على التدخل، وإصلاح الأوضاع، وتأمين الاستقرار المتوازن، وذلك على النقيض من التجارب الأميركية التي كانت في دول عديدة في المنطقة، خصوصاً في كل من أفغانستان والعراق، إذ لم تتمكّن الولايات المتحدة من تقديم نموذجٍ جذّاب بعد مرحلة إسقاط النظامين، الأفغاني والعراقي.
لكن الجهود الروسية لم تعط نتيجة ملموسة. وهناك تسريباتٌ عن عدم ارتياح الروس لمدى وطبيعة تجاوب نظام بشار مع المقترحات والأفكار الروسية الخاصة بإمكانية الوصول إلى حل. ويبدو أن زيارة الوفد الروسي الموسع، برئاسة نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف، وعضوية وزير الخارجية، أخيراً لدمشق، لم تؤدّ إلى إحداث اختراقاتٍ كبرى في موقف النظام الذي يعطي الاعتبار لالتزاماته الإيرانية، أو بكلام آخر ربما أدقّ، لا يستطيع التحرّر من تلك الالتزامات، ولذلك يحاول كسب الوقت، عبر محاولة التوفيق بين توجهات الطرفين، وذلك انتظاراً لما قد تسفر عنه نتائج الانتخابات الأميركية المقبلة، فضلاً عن نتائج جهود ما بعد التطبيع مع إسرائيل في المنطقة، فأي سياسة ستتبعها أميركا في المنطقة، خصوصاً مع إيران، وانعكاسات ذلك على الأوضاع في كل من سورية والعراق، خصوصاً في العراق، حيث يلاحظ وجود إصرار إيراني على تحدي التوجهات الأميركية، وهو أمر يتجسّد في الهجمات الصاروخية المتكرّرة على المواقع الأميركية، بما فيها السفارة في بغداد، وحتى على المصالح الأميركية في أربيل. وهذا ما يطرح سورياً التساؤل بشأن موضوع مصير منطقة شرق الفرات؛ هل سينحسب الأميركيون من هناك بناءً على تفاهمات مع الروس، أوحى بها المبعوث الأميركي الخاص بسورية، جيمس جيفري، حين صرّح بأن الجميع سينسحب من سورية، في نهاية المطاف، ما عدا الروس؟ أم ستظل المنطقة المعنية، لتكون ورقة ضغط أميركية على الخصوم المنافسين، والحلفاء “المزعجين”؛ ريثما يجري التوصل إلى تفاهم بشأن مختلف القضايا.
ما تعانيه سورية، والمنطقة بصورة عامة، سببه اختلال التوازن في النظام العالمي القائم، الذي يحتضر عملياً، فالأمم المتحدة مشلولة في الواقع، والاتحادات والمنظمات الإقليمية مشغولة بمشكلاتها وخلافاتها. وحتى حلف شمال الأطلسي (الناتو) العسكري الذي كان يعرف بانضباطه وقدرته على حسم المواقف، واتخاذ أصعب القرارات، بات هو الآخر يعاني من تبايناتٍ، بل من مخاطر المواجهة بين أعضائه، تركيا واليونان مثلاً. وذلك كله يضع سورية والمنطقة في عين العاصفة، ودوامة تعارض المصالح الإقليمية والدولية. وما يزيد من تعقيد الوضع هو هشاشة، إن لم نقل غياب، العامل الذاتي السوري، وتحوّل السوريين، نظاماً ومعارضة رسمية، مجرّد أدوات وواجهات لتمرير توافقات الآخرين وتغطيتها على حساب شعبهم ومصير وطنهم، ومستقبل أجيالهم المقبلة.
المصدر: العربي الجديد