د- عبد الناصر سكرية
منذ أن أعلن رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، وبشكل مفاجئ، عن اتفاق لبدء مفاوضات حول ترسيم الحدود بين السلطة اللبنانية والكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين وأراض عربية أخرى، انطلقت مناقشات حامية حول هذا الإعلان وما حمله من معان مبطنة وأخرى محتملة أو متوقعة تولى الإعلان تحضير الأجواء لظهورها رسميا…
فما دلالات وخلفيات ذلك الإعلان المفاجئ؟؟
١ – الإعلان يتضمن اعترافا علنيا ورسميا واضحا بدولة العدو الصهيوني ” إسرائيل ” ..
حيث جاء فيه أنه اتفاق إطار لبدء مفاوضات بين ” لبنان وإسرائيل ” ..
فهل أن ” الرئيس نبيه بري ” يملك وحده صلاحيات هذا الاعتراف أم أنه تولى الإعلان عن رغبة مشتركة لأطراف السلطة اللبنانية ومعرفتهم المسبقة بالاعتراف المشين والمهين؟؟
٢ – أعلن بري أنه يتولى متابعة هذا الملف منذ عشر سنوات، مع الجهات المعنية جميعا. بما يعني أنه كان يتواصل مع الطرف الإسرائيلي وبطبيعة الحال مع الطرف الأميركي الراعي الرسمي للمفاوضات..
٣ – كل هذا يفتح ملف ما يسمى في لبنان ” الثنائي الشيعي ” الذي يجمع في إلتحام مصيري وتوافق إستراتيجي شامل بين حركة أمل وحزب ” الله ” ؛ أي طرفي الثنائي إياه..
بلغت العلاقة بينهما في السنوات الأخيرة حدا من التطابق جعل رئيس حزب ” الله ” ومسؤوله الأول يصرح في أكثر من مناسبة أن الحزب يوكل ” الرئيس ” بري للتقرير والإختيار في الأمور المحلية المصيرية..
وأنه يمثل ضمانة للحزب، أي بري، ولا نقبل المساس به أو التقليل من شأنه.. انطلاقا من هذا الواقع المعروف والمعلن؛ صار لزاما طرح موقف حزب ” الله ” الذي يسوق ذاته على أنه حزب المقاومة وينادي رئيسه باعتباره ” سيد المقاومة ” ، مما أعلنه حليفه الإستراتيجي وخياره الأمثل أي رئيس مجلس النواب اللبناني الأستاذ نبيه بري..
٤ – هل يعلم الحزب ما أعلنه الرئيس بري عن مفاوضات بين لبنان و ” إسرائيل” تتضمن اعترافا صريحا وواضحا وقطعيا ووجوديا ؟؟
إن شكل العلاقة التي لا إنفصام فيها بين طرفي الثنائي الشيعي وطبيعة تحالفهما الإستراتيجي يجعل من الطبيعي والمنطقي والموضوعي التأكيد بأن الحزب يعرف خيارات حليفه وصديقه الحريص عليه جدا المدافع عنه جدا والذي يتبناه بل ينيبه عنه في كل الشؤون المطروحة الهامة ولا سيما التحالفات والمواقف السياسية والخيارات الإستراتيجية والمصيرية..
وهذا يعني ببساطة أن حزب إيران في لبنان على معرفة بتواصل الرئيس بري مع ” إسرائيل” وامريكا منذ عشر سنوات تحت مسمى ترسيم الحدود..
وحينما يعلن بري ولا يعترض الحزب فهذا يعني ببساطة ووضوح ايضا موافقة الحزب على الإعلان ومضمونه..
والحقيقة أن المتابعين الموضوعيين لمسيرة حزب ” الله ” في لبنان لم يكونوا بحاجة لإعلان الرئيس بري حول الترسيم ليعرفوا طبيعة الدور الذي تؤديه أذرع إيران في المنطقة وتحديدا فهمها لشعار المقاومة وإستخدامه من قبلها ستارا لتحقيق أهداف إستراتيجية متصلة بالمشروع الإيراني وتطلعاته ورؤيته لمستقبل ومصير المنطقة العربية ، وليست متصلة بأهداف عربية لرد العدوان الصهيوني على البلاد العربية..
فمنذ إتفاق مار مخايل الذي ربط حزب ” الله ” بالتيار العوني ، بدأت تتكشف خيوط تحالفات إستراتيجية ترسم للبنان ليست متصلة بالمصالح العربية بل منبثقة عن أهداف المشروع الإيراني..
إن ما أعلنه زعيم ورمز الثنائي الشيعي من اتفاق مع ” إسرائيل ” لترسيم الحدود ، يطلق رصاصة الرحمة على إدعاءات المقاومة والممانعة ، وتكشف ، بإضافتها إلى ما سبقها من مواقف وإتفاقيات وممارسات محلية وعربية ، أنها ليست إلا إستهلاكا للفكرة الجميلة وتفريغها من مضمونها الحقيقي الشريف لإتخاذها مجرد غطاء لأهداف فئوية أو حزبية أو إقليمية غير ذات صلة لا بفلسطين ولا بقضيتها المركزية التي تستوجب لحمة وطنية لا مذهبية بل عربية جامعة..
ويذهب كثير من المراقبين والمحللين إلى القول بأن صفقة إيصال العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية والتي تمت برعاية أمريكبة مباشرة وأخرجها للعلن وأطلق قطار تنفيذها النائب سعد الحريري ، تضمنت تعهد حزب ” الله ” بإتفاق الترسيم وتأمين الحدود مقابل آطلاق يده في الساحة اللبنانية في مجالات محددة لا سيما الأمنية والسياسية ، على أن يتم تحضير وإعداد النائب جبران باسيل صهر الرئيس عون ليكون رئيس الجمهورية المقبل..ليكون رئيسا شابا متوافقا مع ما يجري الإعداد له في المنطقة بأن تكون ” إسرائيل ” هي المدير العام التنفيذي للمنطقة..
٥ – بالعودة إلى مسيرة الرئيس بري يمكن معرفة بعض الحقائق اللازمة لفهم أوضح للصورة الواقعية..
إثر إغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري في ١٤ شباط / فبراير عام ٢٠٠٥ ؛ صدرت أوامر أمريكية علنية لإنسحاب قوات الجيش السوري من لبنان وهو ما تم بسرعة خاطفة ..وراحت أجهزة الإعلام الموالية المحلية تشن حربا شعواء على كل من كانت له علاقة بالنظام السوري بإستثناء رئيس مجلس النواب نبيه بري والذي كان بمثابة مفتاح النفوذ الرسمي السوري في لبنان وطليعته ونبراسه..حتى أن الرئيس رفيق الحريري كان يلجأ إليه لحل أية إشكالات تحدث بينه وبين أحد من الأجهزة السورية والثمن مدفوع مسبقا..
وإنقسمت السياسة في لبنان آنذاك إنقساما رأسيا حادا بين ما سمي قوى ١٤ آذار وقوى ٨ آذار..وكانت حربا متبادلة وإتهامات كبرى بين الفريقين ..في حين أن الرئيس بري بقي مصانا من الجميع لم يقترب أحد من توجيه أي لوم أو نقد أو إتهام إليه حتى من قبل أشد أعداء النفوذ السوري السابق..
أكثر من هذا أنه أعيد إنتخابه بالإجماع رئيسا لمجلس النواب اللبناني وهو ما فسره كثيرون بأنه أمر اليوم من قوى النفوذ الأجنبي التي تظلل الجميع..
وقد بلغ الأمر من التضليل والإستغراق في أحضان النفوذ الأجنبي أن جعل رئيس المؤتمر الشعبي اللبناني ، اي كمال شاتيلا ، وهو الذي كان يعتبر من الشخصيات العروبية في لبنان ؛ يعلن مرارا ولاء ظاهرا لظاهرة نبيه بري المميزة كمفتاح لكلمة السر لقوى النفوذ الأجنبية.. ثم وصفه ب ضمان السلم الأهلي في لبنان ورمز الوجود الوطني ومفتاح الإستقرار..
هذا السيد بري الذي لم تعترض عليه يوما قوى النفوذ الأجنبي المتحكمة والحاكم الفعلي للبنان منذ عدة عقزد..؛ هو الذي يعلن إتفاق لبنان و ” إسرائبل ” لترسيم الحدود..وإعترافه بها عمليا..
هو ذاته ، للتذكير ، شريك حزب ” الله ” المقاوم وحليفه الإستراتيجي..
٦ – الإعلان يتحدث عن ترسيم حدود بين لبنان وجارته الجنوبية ما يعني بوضوح تسليما كاملا ورسميا بحقها في الوجود وبعلاقة الجيرة الطيبة بعد تنظيمها وضبطها ؛ فما معنى المقاومة التي يتحدث عنها الشريك الثاني وماذا تعني في فهمه ومنطلقاته ؟ هل هي مقاومة الشعب السوري وتطلعاته للعيش الحر الكريم ؟؟
هل هي مشاركة الآحتلال الأمريكي في تدمير العراق ونهبه وتقسيمه وتهجير أهله وإفقارهم ؟؟
أليس صراع العرب ضد الكيان الصهيوني ، صراع وجود أم أن بعض تجميل الحدود يكفي لحل مشكلة العدوان الصهيوني على فلسطين والعرب ؟؟
٧ – وعلى غرار ما حدث في كل من العراق وسورية حيث ثم آطلاق بعض المجرمين من السجون وتحريكهم لتشكيل عصابات إرهابية تتخذ غطاء للتدمير والتهجير ؛ فقد تم آطلاق بعض السجناء ليتبوؤا فورا مقاعدهم في عداد عصابات وخلايا إرهابية ثم تحريكها للقيام ببعض العمليات الإجرامية بهدف صرف الأنظار عن مصير الوطن والشعب الذي يتقرر في مكان آخر حيث العدو الصهيوني هو الطرف الأساس المحرك والمسير… فكانت عملية كفتون في الكورة وما تلاها من حوادث إرهابية متفرقة نسبت إلى داعش وخلاياها النائمة في الشمال اللبناني وعاصمته طرابلس وفي عكار ، إمعانا في إستحمار الرأي العام بهدف التغطية على التطبيع المباشر مع العدو الصهيوني وإعادة تعويم أطراف الثنائي الشيعي ولا سيما حزب ” الله ” بعد كثير من الكلام الإتهامي الذي وجهه اللبنانيون إليه إثر تدمير مرفأ بيروت..
وإذا كانت لعبة داعش قد إنكشفت تماما في سورية والعراق إلا أن أجهزة الأمن الأجنبية الفاعلة تستخدمها بذات الطريقة والنهج في لبنان للمساعدة في إلهاء الناس وصرف إهتمامهم عن مصيرهم الوطني ومقدرات بلادهم التي تتلاعب بها قوى السلطة الطائفية ومن يحميها ويرعاها من القوى الخارجية الأجنبية..
٨ – إن نظرة سريعة على تداعيات الأحداث في السنوات الأخيرة في لبنان تحمل معها تفسيرا متكاملا منطقيا واقعيا وصل الى ذروته في الإعلان عن ترسيم الحدود..
وكأن كل ما جرى أريد به تحضير لبنان إلى هذا اليوم الموعود حيث يكون فاقدا كل مقومات الحياة وكل مقدرة على الفعل ليصبح خيار التسليم للتطبيع هو الخيار الوحيد المتاح أمامه وإلا الموت السريري المحتم..
فبدءا من الهندسات المالية البائسة ، وقانون الإنتخابات المشوه المعاق مرورا بنهب الوطن والمواطنين وسرقة مدخراتهم ومصادرة مستقبلهم ، وصفقات بيع البحر ورهن النفط والغاز مقدما ، إلى إفساد كل مؤسسات الدولة وتخريبها وتعجيزها وصولا إلى إفلاس عام وإنهيار إقتصادي وعجز مالي كامل ؛ يتضح أن الهدف كان إنهيار الدولة لبيع الوطن خردة لمؤسسات النهب الدولية المالية ، وتركبع المواطن بضغط الواقع المعيشي المنهار فلا يعود أمام الوطن ولا أمام المواطن إلا خيار القبول بالتطبيع بل الإستسلام للحل الصهيوني – الشعوبي للمأزق الوطني اللبناني..
وعلى ضوء هذا ندرك حجم كارثة تفجير مرفأ بيروت وخلفياته وتداعياته الإقتصادية والنفسية. وندرك لماذا التخلي عن لبنان واهداف التدخلات الدولية وتكامل أنماطها وأدوارها لإيصاله إلى المحطة المنشودة ..
على ضوء هذا ندرك معنى إصرار كل أطراف السلطة على إغتصابها التام لكل حقوق لبنان واللبنانيين وإستخفافها بكل معاناتهم وإصرارها على المضي بما رسم لها في عواصم صنع القرار وتقرير المصير..
والحال هكذا، ليس أمام اللبنانيين مفر من استكمال انتفاضتهم الحرة ضد تلك السلطة الفاسدة المأجورة ، وضد ما يرسم لمستقبل لبنان ومصيره… بعد تنظيمها وبلورتها مشروعا وطنيا متكاملا..
إن أي ثمن سيدفعه الشعب اللبناني بتصعيد وتكثيف الانتفاضة سيكون بلا شك أرحم وأخف وطأة وضيرا وضررا وتضحية من مشروع الحل الدولي الراعي الرسمي للتطبيع والصهينة والإرتهان لمؤسسات النقد الدولية
المصدر: كل العرب