شفان إبراهيم
تثير حدّية الأحداث والمشكلات المتراكمة المرافقة للأزمات على عمل الذاكرة، فتجعل منها ضعيفة هشة، تُنسى دوماً. ولم تمض فترة طويلة حين وعدت التيارات السياسية الرئيسية في شمال شرق سورية، وخصوصا “الإدارة الذاتية”، وبعض الأحزاب الأخرى، بشعاراتها في كل احتفال بذكراها السنوية، أو الانتخابات التي أجرتها، أو عبر ألسنتها وإعلامها الذي يتحدّث دائما عن “شعب”، المصطلح الذي أريقت دماءٌ كثيرة تحت يافطته، وفرضت سطوتها عبرها، ولكن من دون أن يجد هذا الشعب حلولا لمشكلاته التي كبرت وزادت.
تركّزت كل الشعارات على إقناع المجتمع المحلي بقدرات أصحابها، الخارقة والحارقة، وقوتهم التي تفوق حجم عقولنا، “نحن المشتغلين في الشأن العام”، الذين يُنظر إلينا مُجرد مُثيري المشكلات، وكأنهم يقولون: “الناس عم تصدق كذباتنا، لشو عم تفيقون”، ومحاولة منهم إزالة كل العوائق أمام تسويق أفكارهم لبناء “روج آفا قوية” أو “أمة شمال شرق سورية” المنيعة والعصية على المؤامرات، وهذه المؤامرات لم نعرف بعد مصدرها، الداخل أم الخارج. والواضح أن هذه القوة التي تتحدّث عنها “الإدارة الذاتية” ليست سوى التعويذات والدعاء.
تتجه المنطقة حالياً، بتركيبتها الاجتماعية واقتصادها وخزانها البشري، إلى أسفل القاع في السلم المعيشي، وبدأ الوهن والعجز يشكّلان السمة الأبرز. وتدريجياً أصبحت سورية خطراً على العيش الآمن، وتقترب رويداً من دائرة المناطق الفاشلة والآيلة للسقوط التي لا يُنصح العيش فيها، بعد أن تفككت جغرافيتها، وزهقت أرواح الأهالي فقراً وجوعاً وخوفاً. ووحدهم الزعماء السياسيون وتفرّعاتهم في شمال شرق سورية لم يشعروا بعد بالتغيرات التي عصفت بالأسر الفقيرة، فلا كثرة أحزابها حمتها من الانزلاق، ولا قوة عسكرية استطاعت أن تحميها وتحصّنها، ولا مؤسّسات مختلفة ومتنوعة، وبتسميات متعدّدة، تمكّنت من تقديم الحلول، عدا عن انسداد أفق المعونات الدولية والمساعدات الإنسانية؛ رُبما نتيجة للسياسات المتبعة داخلياً.
يدفع المجتمع المحلي ضريبة انخفاض سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار. وإذ لا مجال لتحميل “الإدارة الذاتية” مغبة هذا الهبوط السريع؛ فالقضية مرتبطة بالبنك المركزي في دمشق، والوضع الاقتصادي في لبنان، وتأثير العقوبات الاقتصادية على سورية، عدا عن تأثيرات قانون قيصر وتداعياته. ولكن تذبذب السعر وارتفاعه أكثر من 400% منذ آخر استقرار، حين كان سعر الدولار الواحد يساوي 500 ليرة سورية، ووصوله حالياً إلى قرابة 2800، رُبما تصبح هذه المناطق شبيهة بفنزويلا أو إيران أو السودان. ولكن الذنب كله يتوجه صوب “الإدارة الذاتية”، لجهة عدم تأمين البديل عن أسواق دمشق أو حلب التي يعتمد عليها التجار في تأمين المستلزمات المختلفة، عبر فتح المشاريع التي تؤمّن القوت اليومي، في منطقةٍ تتوفر فيها كل مقومات العمل الإنتاجي. ويعود ذلك كله إلى بؤس حالة الاقتصاد وغياب الإنتاج وندرة الخطط والمشاريع الإنمائية والتجارية التي توفر فرص العمل، وتؤمّن الحاجات المحلية.
حالياً، يتقاضى الموظف في الحكومة السورية قرابة 25 دولاراً شهرياً، ويحصل العامل في أي من مؤسسات الإدارة الذاتية على قرابة 85 دولاراً شهرياً. وفقاً لذلك، الراتب السنوي للموظف في أي من مؤسسات الحكومة السورية 600 دولار، والراتب السنوي لموظف الإدارة الذاتية قرابة الألف دولار. علماً أن الراتب السنوي يعتبر مؤشّر نجاح السياسات الاقتصادية أو فشلها، ويستخدم للمقارنة بين تلك الدولة (منطقة الحكم) مع جيرانها ودول المنطقة، والبلاد الأخرى أيضا. وهو ما يجعل مناطق الإدارة الذاتية متأخرة عن معظم دول المنطقة، باستثناء إيران، وموظفي الحكومة السورية.
وإلى هذا، تتبين ملامح مرحلة جديدة في أساليب عيش أبناء المنطقة، لم يألفوها حتى في أشد مراحل الأزمة السورية حدّية وضرراً، إلى درجة أن أصنافاً من الأطعمة وأنواعاً من المشتريات، والتي كانت موجودة دائماً في منازل الأهالي ستصبح من الماضي. هذا عدا نسيان تغيير الموبايل أو الإكسسوارات النسائية وعادات الزواج والمظاهر التي كانت جزءاً أهم من العلاقة الأسرية والاجتماعية نفسها. ولكن ثلاث قضايا تشكل عمق الوجود الاجتماعي والاقتصادي وجذره، لطالما شكلت العصب الرئيس في معيشة الأهالي، وخصوصا الطبقة الوسطى، وتمثل أساس تمسّك المجتمع المحلي بأرضه، نصف قرن منذ استلام حزب البعث السلطة، على الرغم من كل الممارسات التي طبقت ضده، خصوصا الكرد. بل يمكن القول إن تلك الأقانيم الثلاث شكلت المسار الأساسي في عملية الترقي الاجتماعي والبشري والمادي: الصحة، السكن، التعليم. لكنها اليوم تحوّلت من سلّم التطور البشري والاكتفاء الذاتي إلى سيطرة قطاعات ربحية وتدخلات منظمة ومخطط لها، كانت في النتيجة محق هذه الطبقة والتي تشكل عِماد المجتمعات في كل مكان.
لا يزال القطاع الخاص في الصحة الأكثر رغبة بالنسبة للمرضى والأهالي، نتيجة فقدان البديل. ورُبما يُمكن القول إن نسبة 75% منهم لا تزال ترتاد المشافي الخاصة، قياساً على حجم الاستقبال وعددها في مدينة صغيرة كالقامشلي التي تحتوي على سبعة مشاف خاصة، وأسعارها جنونية، وبل إن بعض أنواع الأدوية تُباع حصراً في صيدليات المشافي، ولا تتوفّر في باقي الصيدليات، للتحكّم بالسعر، عدا عن مزاجية الأسعار، وخصوصا في أثناء استقبال حالات الإسعاف ليلاً. وعلى الرغم من افتتاح “الإدارة الذاتية” بعض المستوصفات، ومشفى “العيون والقلب” ومشاف في باقي المناطق، فإن الفشل يكمن في عدم توفير مراكز استقبال باقي الأمراض والتخصصات. ووفقاً للغلاء المعيشي هذا، ما عاد في مقدور غالبية الأهالي الحصول على عناية صحية شاملة، وسيعانون من تأمين أدويتهم. وهذا يعني أيضاً احتمالية استغناء القطاع الطبي الخاص عن عدد من كوادره، وإقفال بعض الأقسام وهجرة مزيد من الأطباء والعمال الصحيين.
وفي مجال السكن، يقول الناس في تجمعاتهم وحواراتهم “مناطق نائية وأسعار جنونية”. حيث طفرة أسعار العقارات، البيع والشراء، ومع ندرة فئة الإيجار أو الرهنية، يواجه الفقراء والمحتاجون، وحتى أبناء الطبقة الوسطى، الأزمة الأكثر شراسةً في معيشتهم، وتأزم العلاقة بشكل مستمر بين المستأجرين وأصحاب المأجور الذين تفتحت أعينهم على إجراء العقد بالدولار، نتيجة وجود شركات ومنظمات دولية في المنطقة. والمتوقع أن تنفجر قضية السكن قريباً مع تفاقم الفقر، وتلاشي قدرة المستأجرين على الدفع بالدولار، أو ما يعادله بالعملة السورية، فشقة سكنية في حيٍّ شعبي فقير، وغير مخدوم بشكل مقبول، قفز سعر إيجارها من بضعة آلاف إلى عشر أضعافه. هذا عدا عن استغلال المحليين النازحين وفرض أسعار خيالية عليهم، كما فعل قسم من الأهالي في الحسكة والقامشلي مع أقرانهم النازحين من رأس العين.
وفي القطاع التربوي والتعليمي: تدفع غالبية الأسر قرابة مائة دولار شهرياً ثمناً لرسوم الدورات في المعاهد الخاصة، عدا عن قرابة ألف دولار سنوياً رسوم الدورات الخاصة في المنازل لطلبة الصف الثالث الثانوي العلمي. عدا عن كتلة المصاريف الخاصة للطلاب. ومعلوم أن اكتظاظ صفوف مدارس الحكومة السورية بما يقترب من حاجز 80 طالبا، نتيجة للصراع بين “الإدارة الذاتية” والنظام السوري على قضية التربية والمدارس، وعدم التزام أعداد كبيرة بمناهج “الإدارة الذاتية” ومدارسها، فإن العبء الأكبر تعليمياً تدفعه الأسر من مدّخراتها، وحتى قضية المدارس الخاصة، فإن ضعف التزام الطلاب بمتابعة المناهج مرتبط بالصورة النمطية عن التربية والتعليم، بعد انهيار العملية التربوية بسبب ظروف الحرب. إضافة إلى أن إغلاق المدارس الخاصة، بسبب تدريسها مناهج الدولة السورية، وهي تقع خارج سيطرة القوات السورية سيعني المزيد من البطالة وفقدان فرص العمل العديدة.
لا رحمة في هذه البلاد، تدمّرت مدّخرات المواطنين، وتفسّخت البنى الاجتماعية، وانهارت منظومة القيم، وتدمّرت الطبقة الوسطى. وأنهكت البلاد، ما رافقه أستذة في النهب المنظم، وارتفعت درجة الفئات التي كانت مسحوقة اجتماعيا وماليا، وحتى نفسياً، لتحل محل الطبقة الوسطى التي امتازت بهدوئها ونضوجها الاجتماعي والفكري، ومرورها بأنساق التطور الوظيفي والفكري. ولكم أن تتخيّلوا شكل الحياة، إنْ تحكم بها من كان في أسفل السلّم الاجتماعي عقوداً، لأسباب عديدة تعليمية ثقافية سياسية اجتماعية، ثم تصدّر المشهد العام، هكذا بقفزة بهلوانية، من دون أن يعي أن مكانة هذه الطبقة على السلم الطبقي والفرز بمختلف مسمّياته، لا بد له من مشوارٍ واضح في الكدِ والبناء الشخصي والنفسي الداخلي، والواجهة الاجتماعية المطلوبة.
المصدر: العربي الجديد