فايز سارة
عندما اندلعت ثورة السوريين ربيع العام 2011، ردّ نظام الأسد على الثورة بالاستخدام الواسع للقوة. وشملت الردود، إضافة إلى الملاحقة والاعتقال، إطلاق الرصاص على المتظاهرين من جانب عناصر المخابرات والجيش، ولم يقتصر السلاح على الأسلحة الفردية الخفيفة، بل شمل الآليات والمدرعات، ثم الطيران والمدفعية، ما أدى إلى قتل وجرح واعتقال السوريين وتشريدهم، ودفع أعداد متزايدة للتوجه إلى بلدان الجوار فراراً من استخدام القوة المفرطة، التي مارسها النظام.
ولم يكن استخدام القوة الشكل الوحيد الذي هدف النظام من خلاله إلى تهجير السوريين، بل أضاف إليه خلق بيئة طاردة وصعوبات حياتية، من شأنها دفع السوريين للهرب والبحث عن أماكن أفضل للعيش، وفي هذا النسق من إجراءات النظام، تمت عمليات حصار مدن وقرى وأحياء، منع الدخول إليها والخروج منها، وجرى تعطيل شبكات الخدمات العامة من مواصلات ونقل ومياه وكهرباء، ومنع التنقل الحر للأشخاص والسلع، ما دفع السكان للبحث عن بدائل، وفي أول الثورة، كان الانتقال إلى مناطق أخرى، أسهل وسيلة لمواجهة التطورات الأمنية، وهكذا ذهب السوريون من المناطق المستهدفة إلى مناطق سورية أخرى، أو نحو بلدان الجوار، التي أخذ يتزايد عدد الذاهبين إليها مع مرور الوقت، وأضاف النظام إلى إجراءاته في دفع السوريين نحو المغادرة، أمرين؛ أولهما انسحاب عناصره من غالبية المعابر الحدودية، وتسهيل سيطرة الجماعات المسلحة عليها، وشمل ذلك مواقع بعيدة، وأخرى قريبة مثل درعا وريف دمشق الغربي، والثاني، تشجيع ودفع المعارضين والناشطين في الثورة إلى مغادرة البلاد، بل الضغط عليهم، وأحياناً من بوابات النصح للمعتقلين، وبفعل هذا النهج وحده غادر البلاد نحو 100 ألف من المعارضين والناشطين إلى بلدان الجوار والأبعد منها في العام الأول من الثورة.
كانت محصلة ما تم من سياسات النظام وتطبيقاتها، تشريد وتهجير نحو مليون نسمة من السوريين في العام الأول، ثم أخذ يتضاعف العدد في السنوات التالية، وخاصة في بلدان الجوار الثلاثة؛ تركيا والأردن ولبنان، وأخذت أعداد المقيمين واللاجئين تتزايد في أغلب بلدان العالم، لتصل حالياً إلى نحو نصف سكان سوريا، يتمركز منهم في تركيا نحو 4 ملايين نسمة، فيما يقترب عددهم في البلدان العربية من نحو 4 ملايين، نصفهم تقريباً في لبنان والأردن، يضاف إلى ما تقدم نحو مليون ونصف مليون مقيم ولاجئ سوري في بلدان أوروبا.
وزاد نظام الأسد إلى سياسته في تهجير السوريين، إعلانات كرست تقسيم السوريين والتمييز ضد اللاجئين، بينها الفصل بين من بقي من السوريين تحت سلطة النظام ومن هو خارجها، بمن فيهم اللاجئون في الشتات، كان بينها إعلان رئيس النظام الخاص بـ«المجتمع المتجانس» الذي تم تحقيقه في مناطق سيطرته، بعد أن قتل من قتل، وشرد وهجر الملايين، ثم أضاف إعلاناً تالياً بالقول، إن الصفة السورية لا ترتبط بمن يحمل الجنسية، بل بمن يدافع عن سوريا التي تعني بداهة «سوريا الأسد»، سوريا الخاضعة لسلطته، ولا شيء غيرها، ما يعني إعلاناً غير مباشر بنزع الجنسية عن نحو نصف سكان سوريا، الذين صاروا مقيمين خارجها، وأغلبهم من اللاجئين.
إن التدقيق في مواقف وتصريحات أركان نظام الأسد حول الموقف من اللاجئين، يكشف سجلاً من الحقد والكراهية والتنمر حيال اللاجئين الذين جرى إعلانهم بمثابة عدو، بوصفهم «إرهابيين»، أو «أهالي الإرهابيين»، وجرى تحذيرهم من العودة إلى سوريا على نحو ما كرر مراراً الجزار الميت العميد عصام زهر الدين، وقد تجاوز الأمر حدود التصريحات إلى سلوكيات وممارسات اضطهادية وكيدية ضد اللاجئين في بلدان لجوئهم من جانب السفارات والقنصليات السورية لدى مراجعتهم لها، ولو من أجل إتمام معاملات شخصية أو عائلية مثل جوازات السفر، وتسجيل المواليد والوكالات القانونية، وقد تحول إتمام هذه المعاملات إلى مناسبات لسرقة وإذلال اللاجئين من قِبل موظفي النظام وسماسرته، ويكفي القول إن النظام يفرض دفع 80 ضعفاً لجواز سفر يعطى لأحد اللاجئين مقابل سعره في سوريا.
وسط تلك البيئة في تهجير السوريين وتخوينهم وإذلالهم ونهبهم، اضطر نظام الأسد للاستجابة إلى المساعي الروسية في توظيف موضوع اللاجئين لخدمة استراتيجية موسكو في القضية السورية، وخاصة لجهة إعادة إعمار سوريا، بما يعنيه من موارد تحقق منافع لحلف النظام مع الروس والإيرانيين، سواء لاستعادة بعض أموال، صرفوها لصالح النظام في سوريا، أو للحصول على عقود مميزة في إعادة البناء المرتقبة.
ولا يحتاج إلى تأكيد، أن موضوع عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم وتنظيم المؤتمر الدولي بهذا الخصوص في دمشق، ينحصر في المصالح المباشرة لنظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين، ولا يتصل أبداً باللاجئين السوريين في دول اللجوء، وخاصة في لبنان والأردن وتركيا، التي يعيش في ثلاثتها نحو 5 ملايين سوري، يعاني أغلبهم من ظروف صعبة وغير إنسانية.
إن دلالات عدم اهتمام النظام وحلفائه بعودة اللاجئين، تبدو واضحة في عدم القيام بأي خطوات سياسية أو أمنية أو إجرائية، من شأنها تأكيد أن العودة ممكنة. فمن الناحية السياسية ما زال النظام وحلفاؤه، يعيقون البدء في حل سياسي للصراع السوري، والأمر في هذا لا يتصل بمسار الحل وفق المنطوق الأممي، على أساس بيان جنيف 2012 والقرارات الدولية ذات الصلة، التي تمت على أساسها لقاءات جنيف، بل يشمل عدم جدية الروس في السير نحو حل سياسي وفق تصوراتهم، التي رسموها في مسار آستانة، وتحولهم نحو مسار تضييع الوقت في جولات غير مجدية من اجتماعات اللجنة الدستورية، والأمر في كل الأحوال عدم وجود سند سياسي أو أي التزام من جانب النظام وحلفائه في موضوع عودة اللاجئين، كما أنه لم يتم أي تغيير في السياسة الأمنية للنظام نحو كل السوريين واللاجئين بشكل خاص؛ حيث تتطلب عودة كل واحد منهم إلى موافقات أمنية مسبقة، وأن يلتزم بالمكان الذي يحددونه، لا أن يعود إلى المنطقة التي كان يعيش فيها، وأن يستعيد ممتلكاته، بل إن النظام ما زال يضع أسماء نحو مليون ونصف المليون على قوائم المطلوبين، وأغلب هؤلاء من اللاجئين أو مقيمين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
إن النظام بمؤسساته المختلفة من بلديات ومؤسسات الخدمات العامة، لم يقم بأي خطوة من شأنها أن تؤشر إلى عودة اللاجئين الذين لا شك أنهم يحتاجون إلى سكن وغذاء وعمل ومدارس ومياه شرب وكهرباء وغيرها، مما ينوء النظام بتوفيره للمقيمين حالياً في مناطق سيطرته، ولا سيما العاصمة دمشق، بعد أن أوقعهم بتداعيات أزمات اقتصادية واجتماعية ومعيشية غير مسبوقة في التاريخ السوري.
خلاصة الأمر، أن نظام الأسد وحلفاءه الذين هجّروا السوريين أو تسببوا في هجرتهم، إنما يطرحون موضوع عودة اللاجئين لأهداف لا تتعلق بالموضوع نفسه، بل باعتباره وسيلة لفتح أبواب مشروع إعادة الإعمار الذي قالت فيه دول العالم، إنه لا يمكن أن يبدأ قبل أن يبدأ سير النظام في طريق الحل السياسي، وعليه فإن كل ما يقال أو يتم القيام من خطوات في موضوع عودة اللاجئين لا معنى له، بما في ذلك الحملة الديماغوجية التي قام بها وفد النظام في اجتماعات اللجنة الدستورية حول عودة اللاجئين.
المصدر: الشرق الأوسط