لونا وطفة
بقبعة على رأسه وسترة زيتية فضفاضة، مع نظارة سوداء داكنة وكمامة على الوجه، دخل الشاهد قاعة المحكمة في “كوبلنز” مع محاميته وخطيبته (كما تم التعريف بها لاحقا) من الباب المخصص للشهود القريب من الجمهور الحاضر.
خلال الجلسة السادسة والأربعين، من محاكمة ضابط المخابرات “أنور رسلان”، لم تكن كل وسائل الحماية التي أحاط بها الشاهد نفسه، لتمنع شعورنا بقلقه الظاهر من خلال مشيته وتلفته يمنةً ويسرة، ولأول مرة يختار أحد القادمين مع الشهود من أقربائهم الجلوس بجانب الشاهد، كما فعلت خطيبته وليس البقاء ضمن الجمهور.
بدأت محامية الشاهد بإخبار المحكمة عن ضرورة إبقاء الشاهد مخفيا، وعن تسريبات وتهديدات ربما تستهدف أفراد عائلته في سوريا، ما لبث أن تدخل محامي المتهم أنور رسلان ليقول: “لا أجد مبررا لإبقائه مخفيا، من الطبيعي أن تخرج معلومات عن المحاكمة فهي محاكمة علنية، ومهما فعلنا فالوضع في سوريا هو كذلك، الناس هناك مطلوبون دائما للأمن، لن يغير ما نفعله هنا شيئا من الواقع هناك”.
ردت محامية الشاهد بأن الموضوع أكبر من ذلك، وبدأت بالحديث عن “فاكس” تم إرساله على وجه السرعة في اليوم السابق، أرسلته المحامية لقضاة المحكمة تخبرهم بعض ما جرى، دون أن تفصح عن معلومات أكثر أمام الحاضرين.
*إخلاء القاعة
في جلسات محاكمة المتهمين أنور رسلان وإياد الغريب، اعتدنا كجمهور حدوث مناقشات طويلة بين أطراف الدعوى، كل منهم يعزي طلبه بإخفاء الشاهد أو الكشف عنه إلى نص قانوني، وتنتهي مناقشاتهم بعد اقتناع هيئة القضاة بأحد الخيارين وإصدار قرار بهذا الشأن. أما اليوم فقد كان الأمر مختلفا تماما، فهناك حسب محامية الشاهد ما يشكل خطرا عليه، الأمر الذي جعل القاضية تتوجه إلى الحضور من صحافة وموثقين وتقول: “الرجاء من الحضور إخلاء القاعة فورا”.. كانت مفاجأة غير متوقعة، أن يُطلب من الموجودين الخروج من محاكمة علنية، يعني أن الأمر بات أكثر من جدي بالنسبة لهم، وكان لابد من إطلاع أطراف الدعوى فقط -دون الحاضرين من العموم- على حقيقة التهديد.
خمس دقائق كانت الفاصل بين إخراجنا كحضور واستدعائنا مرة أخرى للدخول، لكنها حملت الكثير من التساؤلات، بيننا نحن الذين اعتدنا حضور كل جلسات المحاكمة حتى الآن.. نتهامس خارج باب القاعة “128” (مكان المحاكمة) عمّا يحدث في الداخل، قبل أن يحسم تساؤلاتنا أحد المأمورين القضائيين وهو يفتح الباب ويخاطبنا: “الآن تستطيعون الدخول”.
في القاعة، كان القرار قد حسم لصالح إبقاء الشاهد مخفيا، يبدو أن ما أرتهم إياه محاميته لم يحتج الكثير من النقاش حوله.
جلس الشاهد وظهره للحضور، مقابلا هيئة القضاة، ومحاولا الاستفادة من الكمامة والنظارة السوداء لإخفاء معالم وجهه، جلست على يمينه كل من محاميته وخطيبته، وعلى يساره أحد مترجمي المحكمة.
خضع الشاهد لتجربتي اعتقال لصالح “فرع الخطيب” خلال 2011 و2012، وقد أخبر القضاة بالتفصيل عن هاتين التجربتين المريرتين؛ حيث تركت إحداهما ندبة دائمة على وجهه، تمكنتُ (أنا كاتبة التقرير) من رؤيتها بوضوح، عندما قابلته بعد تقديم شهادته.
الضرب الوحشي أثناء الاعتقال، مع ما يتبعه من تعذيب ريثما يصل المعتقل إلى الفرع الأمني وتبدأ “حفلة الاستقبال”، التي قد تسبب الوفاة الفورية، كما قال الشاهد، ومن قبله شهود سابقون.. هي تفاصيل اعتاد أطراف الدعوى سماعها من الضحايا الشهود، لكن هذا الشاهد كان قد ناله الكثير من التعذيب لدرجة إصابته في إحدى عينيه، وكسر أسنانه، وتهشيم ضلعين في صدره، ما استدعى نقله إلى مشفى المجتهد قبل البدء بالتحقيق معه خلال اعتقاله الأول.
“قيدوني بكرسي متحرك وأدخلوني قسم الإسعاف، أحاط بي 5 عناصر أمن مسلحين بالكامل وبدؤوا يصيحون في المشفى وينعتوني بأني إرهابي وقناص، ما أدى لحالة ذعر بين الحاضرين الذين سارعوا لقذفي بوابل من الشتائم والإهانات. بعدها، جاءني طبيب يسأل عن اسمي، وقبل أن أجيبه بادره أحد العناصر بحدة: سجله رقم ثلاثة. هكذا بكل بساطة تحولت إلى الرقم ثلاثة، اعتقد أنهم أرادوا طمس هويتي في حال مِتُّ في المشفى”.
حتى الأطباء وقسم الإسعاف تعاملوا معه بقسوة كما أخبر القضاة، ففي مشفى المجتهد قال له طبيب العينية بعد فحصه إنه لن يرى مرة أخرى بعينه المصابة، وعند هذه اللحظة لم يكن أحد منّا (نحن الحاضرين) بحاجة لرؤية معالم وجهه المخفية، ليدرك حجم الألم المتسرب من بين كلماته.
بعد إخراجه من المشفى محملا بأدوية ووصفات طبية، قام عناصر الأمن برميها جميعا وتمزيق الوصفات، وهم يقولون: “يجب أن تموتوا، لا أن تعالجوا”.
في اليوم الثاني من وجوده في فرع الخطيب، تم استدعاؤه للتحقيق، ومن تحت “الطماشة” استطاع رؤية المكتب الفخم الذي كان فيه محقق واحد ميَّز شكله بنظرة خاطفة. سأله المحقق عن أحد أقاربه، وعندما أجاب الشاهد جوابا لم يعجب المحقق، اقترب منه وصفعه على وجهه مرتين، ومن ثم ضربه بركبته على بطنه.
*زاوية في الجحيم
“بعد أن رأيت صورته على الانترنت، عقب إلقاء القبض عليه في ألمانيا.. عرفته، لقد كان هو من ضربني، لقد كان أنور رسلان وأستطيع أن أؤكد ذلك بنسبة 90%”، قال الشاهد للقضاة. طلبوا منه النظر مرة أخرى للمتهم، والإشارة إليه شخصيا من بين المحامين والمترجمين الجالسين معه، نظر الشاهد إلى “رسلان” وبإشارة من يده، أكد أنه هو. هذه النظرة والإشارة كان لها حكاية أخرى، رواها الشاهد لـ”زمان الوصل.”
رغم اهتزاز نبرة صوته أحيانا وإنهاك ذاكرته بتفاصيل الاعتقال التي كان يجب أن يستحضرها ليخبر القضاة بها بعد مضي كل تلك السنوات، لم يطلب الشاهد استراحة على مدى 6 ساعات سوى مرتين، لم تتجاوز الواحدة منهما ربع ساعة. لم ينسَ الشاهد أن يخبر القضاة عن حالات الوفاة التي رآها في المعتقل، وعن شاب قُلعت أظافره وعُذب بشدة، وعن آخر فقد عقله نتيجة عدم النوم والجلوس لأربعة أيام متواصلة، حيث بدأ يتبول في ثيابه ويتحدث مع نفسه.
كما أخبرهم عن أطفال لم يتجاوزوا الخامسة عشر من العمر، عُذبوا بطريقة وحشية ووضعوا نتيجة سوء حالتهم الصحية في زاوية بـ”المهجع الكبير” بفرع الخطيب، “زاوية” تم تخصيصها للحالات “الميؤوس منها”.. أخبرهم عن تفكيره بالانتحار أثناء اعتقاله الثاني في فرع الأربعين (الذي كان يرأسه حافظ مخلوف) بعد أن تم إيقافه بجانب درج الطوارئ في البناء، وهناك قرر للحظة أن يرمي نفسه نتيجة التعذيب الشديد ويأسه من البقاء حياً، غير أن الأسئلة الأولى من القضاة (بعد تحدثه عن اعتقاله الخاص وقبل سرد كل هذه التفاصيل)، كانت بعيدة عما قاله كشاهد، قريبة منه كإنسان:
-القاضي: “كيف حالك اليوم؟ بعد كل ما مررت به؟ هل تستطيع أن ترى بعينك المصابة؟”.
-الشاهد: “بعد خروجي من المعتقل، أول مرة خضعت لعلاج لمدة 6 أشهر واستطعت الرؤيا بعد ذلك، لقد كان تقييم طبيب مشفى المجتهد خاطئا، قمت بمداواة أسناني… أما حالتي النفسية (صمت برهة وأكمل) فأنا لا أملك جرأة الذهاب لطبيب نفسي لأخبره بما حدث معي، أنا أرسم وهذا الشيء يساعدني، أما الانتحار فكان مجرد فكرة راودتني للحظة، سرعان ما تراجعت عنها”.
-القاضي: هل أكملت دراستك؟ هل تعمل الآن؟
-الشاهد: أكملت دراستي وتخرجت، ودائما ما رافقني التوتر أثناء ذلك. أعمل الآن من منزلي.
دخل القضاة بعد ذلك في تفاصيل أعمق حول ما عاناه الشاهد وما عاينه بنفسه، أخبرهم أنه تعرض للتعذيب عدة مرات في كلا الاعتقالين أثناء التحقيقات وقبلها، ووصف بكل دقة ما شاهده من آثار تعذيب على معتقلين آخرين، كان يروي هنا وكأن الحدث “طازج” وقع البارحة أو قبلها، وكأن تفاصيله لم تبرح ذهنه ولو برهة.
“في زاوية صغيرة من المهجع الكبير كان هناك رجل مصاب في بطنه، لون الدم كان مائلا للبرتقالي، والالتهاب منتشر في قدميه، حتى أنني رأيت الدود يمشي عليهما. لم يكن قادراً على الحركة فكان يقضي حاجته في ملابسه، لاحقا نادى أحد المعتقلين السجان وأخبره أنه مات، فأمرهم بإلقائه خارج المهجع”.
-القاضي: “كيف تأكدت أنه مات؟”.
-الشاهد: “ليس لدي جواب طبي دقيق ولكن المعتقلين الآخرين قالوا أنه مات، وعندما حملوه لم يكن يتحرك، لم أستطع رؤيته عن قرب لأن المهجع مكتظ جدا”.
-القاضي: “هل كان هناك مكان للنوم في المهجع؟”.
-الشاهد: “لا، وإن حاول أحدهم الاستلقاء سيأتي آخر ويستلقي فوقه، ويأتي آخر أيضا وربما يصل الأمر إلى أربعة أجساد مكدسة فوق بعضها، لذلك لم يكن يجرؤ أحد على الاستلقاء، هذا إن وجد مكانا، لأنه يعلم أنه سيختنق بعد أقل من نصف ساعة”.
وتابع: “كانت الالتهابات حالة شائعة جدا بين المعتقلين بسبب شدة الحرارة (لأن السقف حديدي والأعداد كبيرة داخل المهجع)، ومهما كان الجرح بسيطا كان يتحول لالتهاب سيء خلال يومين. في إحدى المرات قمنا بعملية جراحية لأحد المعتقلين، في محاولة بدائية لمعالجة إصبع قدمه، حيث تخثر الدم الفاسد ووصل الالتهاب لدرجة سيئة جدا.. بقطعة دهان يابس أخذناها من الحائط وحولناها إلى مشرط فتحنا الجلد، وقمنا باللازم، لم يكن هناك أدوية ولا نستطيع طلبها بكل الأحوال… الزاوية التي وضع فيها الأشخاص المصابون كانت الأسوأ على الإطلاق، لأنها كانت نهايتهم، باختصار كان المكان جحيما”.
لم تسعف أطراف الدعوى ساعات الجلسة الست لطرح كل ما بجعبتهم من أسئلة، فقرروا استكمال الاستماع إلى الشاهد في اليوم التالي (بتاريخ 26 تشرين الثاني/ نوفمبر)، وبجلسة دامت نحو ساعة ونصف، أنهتها القاضية بكلمة “شكرا”، قالتها للشاهد باللغة العربية لا بالألمانية، معلنة بذلك نهاية الاستماع إليه.
*حضرت لأتخلص من الرعب
أمام الباب الرئيس وبعد أن انصرف الجميع، قابلت الشاهد وجها لوجه للمرة الأولى، لم يكن يدخن بشراهة أو يلتفت بكثرة كما اليوم السابق، لا تزال نبرته تحمل بعضا من القلق.
“وصلتني رسالة قبل يومين من شهادتي من إحدى وسائل الإعلام تفيد عن معرفتها بقدومي إلى المحكمة رغم اتفاقي المسبق مع هيئة القضاة على إبقاء اسمي وصورتي وكل ما من شأنه الكشف عن هويتي سرياً، فكيف وصل للصحافة؟!، كان ذلك سببا كافيا لأفكر بعدم الحضور إلى الجلسة، لقد شعرت بتهديد حقيقي، لم يكن من المفترض حدوث ذلك”.. هذا ما أخبرني به الشاهد أمام باب المحكمة، محاولا توضيح ما تداوله أطراف الدعوى عندما أخرجونا من القاعة.
رأيت علامة ظاهرة فوق عينه، سألته: أهي علامة التعذيب التي تحدثت عنها؟ فأجاب: “نعم لاتزال ظاهرة حتى الآن”. تابعنا المسير سويا برفقة خطيبته.
-هل كنتَ خائفا؟
-لا بالمطلق، توترت بالبداية قليلا بسبب الترجمة وأردت فقط أن يصل كل ما أقوله بوضوح، وأثار فضولي العدد الكبير للقضاة والمحامين الذين رأيتهم في القاعة.
أخبرني أنه كان مخيرا بين الحضور وعدمه، لأنه يقيم خارج ألمانيا، ولكنه برغم ما حدث أراد القدوم.
-لماذا؟ ماهو دافعك لذلك، رغم ما حدث من تسريب هويتك؟
-لقد شعرت أولا أنه انتصار شخصي لي أمام ضابط قام بضربي في يوم من الأيام. عندما طلب مني القضاة النظر إليه نظرت بتحدٍ وقوة، هو أيضا نظر لي بذات الطريقة، أردت أن أقول له حينها: هل تظن أنك لاتزال تملك السلطة؟ أو أنك لاتزال الأقوى؟ لقد شعرت بنظرته أنه لا يزال ذلك الضابط، أنا واثق أنه لو أُعطيَ السلطة مرة أخرى فلن يكون سلوكه مختلفا عما سبق، لقد رأيت الشر في عينيه، لم يكن خجلا أبدا ولا نادما، لقد سردت تفاصيل مؤلمة جدا في شهادتي ومع ذلك كان يبدو لا مباليا. هؤلاء الذين أخبرت المحكمة عنهم (ضحايا التعذيب)، كانوا دافعي الثاني لآتي هنا، لقد شعرت بأنني مسؤول عن رواية قصصهم، أشخاص لم أعرف أسمائهم ولكني سمعت صرخاتهم تحت التعذيب، ورأيت ما حلَّ بهم. من جهة أخرى شعرت أنني تخلصت من الرعب، رعب الاعتقال والضابط الذي لازمني مدة طويلة.
يواصل: بعد دخولي قاعة المحكمة شعرت أني في موضع قوة وعدل، قلت لنفسي: هنا لن يستطيع إيذائي. تتدخل خطيبته هنا وتكمل: لكنك بعد أن أدرت وجهك عنه اختنقت حتى ظننتك كدت تبكي. فيجيبها: صحيح لأنني بعد أن نظرت إليه وأشرت له بإصبعي شعرت أنني أشير إلى أحد مصادر ألمنا جميعا، شعرت بذلك الألم دفعة واحدة ورأيته أمامي بوضوح، في سوريا كنا دائما “مطمشين” لا نرى ولا نعرف شيئاً، نُهدَّد ونُضرَّب دون أن نعلم من يفعل ذلك بنا، فجأة استطعت رؤيته أمامي والإشارة إليه، لقد أنزلت القناع عن وجهي حينها، لم أشعر بالخوف أن يراني،كنتُ على يقين أنني في هذه اللحظة بالذات أقوى منه.
المصدر: زمان الوصل