كاثرين تيرنر
تشكل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا موقعاً لافتاً لبحوث العدالة الانتقالية. فهي تطرح سيناريوهات ومطالب كلاسيكية للعدالة الانتقالية، لكنها تتحدى في الوقت نفسه بعضاً من الأسس التي يبنى عليها هذا المجال. ومع ذلك، يجعل الصراع وعدم الاستقرار السياسي من الوصول إلى هذه المنطقة صعباً على الباحثين الأكاديميين من بلدان الشمال. والسؤال المطروح هو، كيف نجري بحوثاً حول منطقة الاتصال المباشر معها والتجارب فيها محدودان؟ كنت مهتمة بالعدالة الانتقالية في الشرق الأوسط لسنوات، وواجهت مشكلة مع كيفية فهْم مطالب العدالة الانتقالية حقاً من دون انخراط عميق في المنطقة ومع شعوبها. ولذلك سعدت بتلقي دعوة للمشاركة في ورشة عمل مركز بروكنغز الدوحة بعنوان “الإبداع في العدالة الانتقالية: تجارب من المنطقة العربية”، في قطر في آذار (مارس) 2020.
لقد عملت لسنوات مع نساء من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حول موضوع العدالة الانتقالية. وتطلب هذا العمل مساعدتهن على التفكير في طريقة استخدام اللغة الدولية المشتركة للدفاع عن مطالب العدالة الانتقالية الخاصة بهن بالقانون والسياسات. وانطلاقاً من هذه التفاعلات، تكون لدي فهم معقول لبعض الصعوبات التي تنشأ عند استخدام الأدوات المتاحة في “مجموعة أدوات” العدالة الانتقالية لمعالجة التحديات الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتبين النقاشات حول آليات العدالة الانتقالية في نهاية المطاف إحباطاً حول حدود هذه الآليات وعدم قدرتها على إبراز مطالب المجتمعات المتأثرة. وهكذا، بينما كنت أحضر لرحلتي إلى الدوحة للمشاركة في ورشة العمل، اطلعت على بعض المعلومات الخلفية حول التطورات الإقليمية في العدالة الانتقالية، وتأملت في ما اعتقدتها تحديات، لكن الأهم أنني حضرت نفسي للاستماع. وتهيأت لأن أطرح جانباً تصوراتي المسبقة حول الموضوع والاستماع لأولئك الأكثر تأثراً بالصراعات في المنطقة، الذين كانوا في الطليعة في طرح استجابات ترتكز على العدالة الانتقالية.
كانت توقعاتي لورشة العمل هذه عالية ولم تخب آمالي. جلست واستمعت وتعلمت. لكنني واجهت تجربة لم أكن جاهزة لها، وهي أنني شعرت بعدم ارتياح كبير أحياناً لوجودي في القاعة. وفي بعض النواحي، كان تفسير ذلك بسيطاً. فعدد المشاركين من خارج المنطقة من غير الناطقين بالعربية قليل. ومع ذلك، عندما تحدثنا أو شاركنا في النقاش، فقد تحدث كل الحاضرين بالإنجليزية. وكانت الترجمة الفورية من اللغة الإنجليزية إلى العربية متاحةً لتسهيل التواصل، لكن هذه الحوارات مرت لذلك عبر طبقات من الترجمة، وفي هذه العملية خطرٌ دائم لخسارة بعض التفاصيل والفوارق الدقيقة أو تغيرها.
بطرقٍ أخرى كان الشعور بعدم الارتياح أعمق. فبأي حق أشارك أنا في هذا النقاش؟ كيف خولتني مكانتي كأكاديمية من مؤسسةٍ نخبةٍ شماليةٍ الوصول إلى نقاش حول منطقة لم أعشْ فيها أي تجربة؟ إنني منظرة عن العدالة الانتقالية. ولست مرتاحة لفكرة “الخبرة” التي تعطي شرعية للباحثين الأجانب أكثر مما تعطي لأولئك الذين يتمتعون بفهم متأصل للصراع وتحديات تعريف العدالة. وفي بعض النواحي شعرت بأنني غريبة تشارك في حديث شخصي للغاية. وهكذا رحت أفكر في سبب وجودي هناك، وواجهني بوضوح أكبر موقعي وسط هذه التراتبية الإشكالية بين “الباحث” في بلدان الشمال و”موضوع البحث” في بلدان الجنوب. وكان ذلك موقعاً غير مريح لي.
من هذه العملية التأملية، برز عدد من الأسئلة في داخلي حول البحوث في هذا المجال.
أولاً، يبرز في الخطاب الشمالي افتراض بوجود عملية انتقالية، وبالتالي، وجود نظام سياسي مهتم (حتى بلعب دور فعال) في الوصول إلى العدالة. ولا تقول النماذج الحالية الكثير عن طريقة “تحقيق” لعدالة الانتقالية في سياق تكون فيه الدولة ومؤسساتها معادية علناً لمطالبَ من هذا النوع. في السياق الشمالي، يتم تحمل مطالب العدالة بالإجمال، حتى عندما لا تنخرط الدول بشكل فعال في الحوار أو لا تنشئ مؤسسات وآليات. وباستطاعة الباحثين والمناصرين التحدث بحرية. وهذا ليس امتيازاً يمكن الاستخفاف به. فللكثيرين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تتضمن مناصرة العدالة الاجتماعية خطراً جسدياً حقيقياً. وبالتالي تكون استراتيجيات التعامل مختلفة حكماً. وللذين يستخفون بالأمن الجسدي بيننا، فإن هذه إحدى نواحي مناصرة العدالة الانتقالية التي ينبغي علينا التنبه إليها ومعرفة المزيد عنها.
ثانياً، تتم طريقة قراءة الخبراء في بلدان الشمال وفهمهم للأحداث التي تخلق الحاجة إلى العدالة الانتقالية من خلال عدسة المفاهيم والتجارب الشمالية لماهية العدالة وكيفية تحقيقها. ويظهر ذلك من الانتقادات التي طالت التدخلات الدولية في مصر وتونس؛ إذ اعتبرتها سياسات بشأن العدالة الانتقالية مصممةً بناء على افتراضات شمالية حول ما هو المطلوب وليس بناء على المطالب المحلية. وفي ورشة العمل، كان من اللافت الاستماع إلى الحوار بين المشاركين حول مدى تناسب آليات العدالة الانتقالية المدعومة دولياً مع السياق المحلي. وبينت هذه الحوارات الطريقة التي تعتمد فيها السياسات بشأن العدالة الانتقالية على أن إمكانية وجود مفاهيم مشتركة عن العدالة غير متاحة دائماً. لا شك في وجود بعض المجالات من التجربة والتحديات المتقاسمة التي قد تكون فيها التبصرات عن واحدة من الحالات نافعةً لحالة أخرى. بيد أن هذا التبادل مهيكل حالياً بشكل تراتبي، والذي تعطى فيه الأفضلية لـ”المعرفة” المستوردة من الخبراء على حساب الخبرة التجريبية للخبراء من المنطقة. وإذا أردنا نموذجاً عادلاً، فلا بد من أن يكون نموذجاً يتعاطى مع هذا التبادل بتواضع أكبر وبتقدير للتجربة والتعلم المشتركَين وليس للخبرة.
أخيراً، تبرز مسألة اللغة. إن المعاهدات الشمالية هي التي تحدد حالياً نطاق إشكاليات البحوث التي يمكن طرحها واللغة التي ينبغي نشر الرسائل بها. وعلى غرار تجربتي في ورشة العمل، تتم هذه الدينامية على مستويَين؛ علني وضمني. والشرط الضمني بأنه ينبغي على بلدان الجنوب مخاطبتنا بلغة نفهمها للوصول إلى مجالات النفوذ يولد عائقاً قوياً أمام نشر أعمال الناشطين/ الباحثين المحليين دولياً. ويؤدي هذا بدوره إلى الاتكال على شراكات غير متساوية لسرد القصص ويقوي الأصوات التي تقع خارج المنطقة. لكن المشكلة تتخطى مجرد مسألة التحدث أو النشر بالإنكليزية. ففي عملية الترجمة، تسقط التفاصيل والفروقات الدقيقة. ويمكن أن يرتبط ذلك باللغة أو بتقنيات التواصل المختلفة التي يعتمدها الباحثون والناشطون أو بعنصر “الترجمة” الثقافية التي بسببها يغير مَن هم من خارج المنطقة الرسائل لتتناسب مع المستمع. مثلاً، غالباً ما يفهم من مصطلح “العدالة” في الخطاب الدولي أنه يضم عناصر من المصالحة. ومع ذلك، لم يتشاطر المشاركون من سورية هذا الفهم ذاته للمصطلح. ولذلك، ينبغي أن تنقل ترجمة العدالة معنى الكلمة بدقة أكبر لمَن يتلقاها، ولا ينبغي تعديلها لتناسب شكلاً يعرفه الذين في الشمال. وليست مشكلة المصطلحات المشتركة التي تحتمل تفسيرات مختلفة واحدة يسهل تخطيها، وإنما ينبغي الإقرار بها.
تحدد تراتبيات المعرفة الطريقة التي يتم فيها تأطير مطالب العدالة. فللوصول إلى الدعم والتمويل الدوليين، ينبغي تصميم البحوث وعمليات المناصرة لتتناسب مع مجموعة محددة من التوقعات حيال شكل العدالة الانتقالية ووظيفتها. وهو ما يسمح للممولين والمدققين الدوليين، بإدراكها. ولا تقبل هذه العملية بطرق بديلة للتعريف بالمشكلة، ولا توسع المجال أمام تطوير طرق جديدة لمعالجتها. وتبرز هذه الدينامية بوضوح في التمييز بين الباحث والناشط الذي يرتكز عليه الكثير من شروط التمويل. ففيما قد يبرز فصل واضح بين الباحث والناشط في الشمال، لا يسري هذا التمييز في معظم المناطق الأخرى.
بحسب خبرتي، فإن الشروط التي تفرض على الباحثين من بلدان الجنوب الامتثال إلى الأنماط والأساليب ذاتها التي تعتمدها بلدان الشمال هي إقصائية بشكل متأصل وتحول دون التعاون المجدي والمتساوي. وفي سياق العدالة الانتقالية، وبينما يخضع جوهر هذا المجال لحراسة شديدة من حاجبيه الدوليين، فإن إمكانية الإبداع في العالم العربي تظل ضئيلة، شأنها شأن قدرة المنطقة على رسم معالم خطاب العدالة الانتقالية بحد ذاته بشكل مجدٍ. ويتم تقييم نجاح العدالة الانتقالية أو إخفاقها بناء على معايير قائمة، عوضاً عن ابتكار وجهات جديدة لتقييم معنى العدالة وقيمتها للمجتمعات المتأثرة.
*أستاذة مشاركة في القانون -جامعة دورهام، المملكة المتحدة.
المصدر: معهد بروكينغز) /الغد الأردنية