سمير صالحة
تنتظر عواصم أوروبية عديدة تسلّم الرئيس الأميركي، جو بايدن، مهامه، لينتقم لها من تركيا وضرباتها الإقليمية الموجعة في شرق المتوسط وليبيا وجنوب القوقاز، فهو وعد، في أثناء حملاته الانتخابية، بدعم المعارضة التركية لإسقاط حزب العدالة والتنمية الحاكم، وإزاحة الرئيس أردوغان عن كرسي الرئاسة. وقد فقدت أوروبا كثيرا من الثقل والدور في ملفات إقليمية حسّاسة، لصالح روسيا والصين وتركيا وإيران، وهي تراهن على بايدن للعودة إلى التحالف القديم، بعدما تلقى مشروع الوحدة وهدف تشكيل قوة استراتيجية عالمية ثالثة تواجه النفوذين، الأميركي والروسي، أكثر من ضربة.
ما زال بعض المتفائلين في تركيا يراهن على اجتراح بايدن معجزات، ويعوّل عليه لفك ألغاز العقد في العلاقات التركية الأميركية، على الرغم من أنها شفافة وواضحة ومعروفة. ولكن تصرفات القيادة السياسية التركية وقراراتها تدلّ على أن أنقرة تناقش السيناريوهات السوداوية في حوارها مع الرئيس الأميركي الجديد. ولذلك هي تواصل مشاريع (وخطط) الانفتاح على الشريكين الجديدين، الروسي والصيني، وتعزيز علاقاتها بدول إقليمية فاعلة، مثل إيران والهند وباكستان.
قرّرت الولايات المتحدة تفعيل خمس مواد من أصل 12 مادة في قانون “كاتسا”، بهدف إرسال إشارات التصعيد التدريجي، إذا لم تتراجع أنقرة عن قرار التمسّك بصواريخ إس 400 الروسية. تقول واشنطن إن الخيارات التركية محدودة، إما إعادة الصواريخ أو نقلها إلى المستودعات والعنابر. وتقول أنقرة إنها لم تشتر الصواريخ لتخزنها، وإنها لن تقبل الحل اليوناني، أي استخدام الصواريخ مرة في العام خلال العروض العسكرية، وإن على واشنطن قبول امتلاك تركيا منظومة إس 400 أو خسارة حليف استراتيجي إقليمي بوزن تركيا.
تتقدّم العلاقات التركية الغربية نحو الخصومة، بعدما عانت طويلا من الشراكة الملزمة. دول أوروبية وإقليمية تنتظر من بايدن خبطة العداوة بامتياز، لإسقاط تركيا بالضربة القاضية، وهي فرصتها المتبقية، فهل يعطيها ما تريد؟ تريد أميركا أن تنقل الأزمة نحو مرحلةٍ أصعب مع أنقرة: الخيار بين حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو روسيا. .. وعواصم كثيرة بدأت تعرض خدماتها لملء الفراغ التركي، طالما أن الهدف هو تلقين حكومة العدالة والتنمية الدرس.
المسألة بالنسبة لأنقرة لم تعد مجرد صفقة صواريخ روسية، حتى ولو تعهد بايدن بالتهدئة والمصالحة وإعادة تركيا إلى برنامج المقاتلة إف 35، وقرّر التساهل باتجاه إعطائها ما تريده في عروض الباتريوت، فهو لن يعوّض الأضرار الأخرى التي قد تحدُث في علاقاتها مع روسيا التي تريد، خلال هذه الفترة، واجتراح المعجزات الإقليمية التي ترضي أنقرة، وتجلبها أكثر نحوها في سورية وليبيا وشرق المتوسط والقوقاز. وواشنطن لم تتحرّك سوى عندما قررت أنقرة امتلاك المنظومة الصاروخية الروسية، فيما حوالي 20 دولة بمثابة حليف أو شريك لأميركا، منها اليونان وبلغاريا وجمهوريات البلطيق وتشيكيا ورومانيا، اشترت هذه الصواريخ، وتستعد لتسلمها، فأين ردة الفعل الاميركية؟ الهند أيضا تستعد لتسلم منظومة إس 400، فكيف ستتعامل واشنطن مع هذا الحليف؟
تنسى واشنطن أن تركيا هي أحد شركاء برنامج المقاتلة إف 35، والتي شاركت بمبلغ مليار ونصف المليار لتمويل الخطة. وتنتج تركيا أيضا 139 قطعة للبرنامج، وما زالت تلتزم بتقديمها حسب الاتفاقيات، وقد تسلمت ثلاث مقاتلات في إطار حصتها الأولى من المشروع، لكن واشنطن تحتجزها داخل أراضيها. وقد تنقل ملفات تأزم عقودها واتفاقياتها مع واشنطن إلى التحكيم الدولي، لكن هناك ملفات تأزم سياسي وأمني لا بد من حسمها بطريقة أخرى. والتصعيد مع بايدن سيكون مكلفا بالنسبة لأنقرة، وقرار التهدئة والتراجع سيكون أكثر كلفة على مسار العلاقات التركية الروسية، والسيناريو الأكثر إيلاما سيكون احتمال حدوث التفاهمات الأميركية الروسية على حساب تهميش النفوذ والدور التركي الإقليمي.
في العلن هي خلافات تركية أميركية بشأن ثلاثة ملفات أساسية: قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في سورية، جماعات الكيان الموازي وفتح الله غولن في بنسلفانيا، وصفقة صواريخ إس 400 الروسية. قد يكون خيار استرداد أوروبا وتحصين القلاع مع إسرائيل ومصر والخليج، وإعطائهم ما يريدون في شرق المتوسط وشمال أفريقيا وشرق سورية على حساب تركيا ومصالحها هو الخيار الأسهل بالنسبة للإدارة الأميركية التي ستواجه دائما الرفض والتعنت والمساومة التركية المعقدة. وقد يختار بايدن الطريق الأسهل، وهو ترك الأمور على حالها مع أنقرة تذهب نحو الانسداد التدريجي في العلاقة مع الغرب، بدل الغوص في ملفات تسوية، ومحاولة بناء توازنات جديدة لن ترضي الجميع في النهاية.
ولكن ما يغضب واشنطن بعيدا عن الأضواء هو تحريك أنقرة حوالي 700 مشروع صناعي دفاعي تركي دفعة واحدة، للتحرّر من القيود والسلاسل الغربية. ما يقلق بايدن، ويدفعه أيضا نحو بناء اصطفاف إقليمي جديد، من دون مراعاة الحصة التركية، هو ما تردّده أنقرة يوميا عن التمسّك بسياساتها في التسلح وتطوير الصناعات الدفاعية، والمضي في المشاريع الاستراتيجية الاقتصادية والإنمائية العملاقة مع روسيا والصين. وقد كشف الإعلام التركي، قبل أيام، عن خطط تصنيع حربي وطني جديد برعاية أهم المؤسسات الناشطة في هذا المجال، “أسيلسان” و”روكيتسان” مع منظومة صواريخ “هصار” القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى التي ستأخذ مكانها في المخزون الدفاعي خلال السنوات الخمس المقبلة. وتبقى مشكلة أنقرة المقاتلات الحديثة، وهنا يجيب وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، على سؤال في هذا الشأن بأن كل الاحتمالات والسيناريوهات قائمة، وبينها التعويض عن خسارة إف 35 بشراء مقاتلة سوخوي 57 الروسية. وقد ظلت أنقرة تفاوض موسكو أكثر من أربع سنوات على صفقة الصواريخ الروسية، حتى تتوصلا إلى اتفاق مقبول. وتفاوض أنقرة موسكو اليوم على أبعد من ذلك في ملفّات إقليمية حسّاسة، ستغضب واشنطن وأوروبا، وتقلق دولا كثيرة في المنطقة. كما أن تركيا تواصل تعزيز مكانتها، عبر تفعيل خطوط السكك الحديدية وشبكة الطرقات والجسور فوق البوسفور، وإنجاز مشروع خط سكة حديد باكو – تبليسي – قرص، وتفعيل خط طهران وباكستان وأنقرة بغداد، وصولا إلى القوقاز وقلب آسيا، بتكلفة عشرات المليارات، ولا يمكن فصل هذا كله عن أسباب الغضب الأوروبي والانفعال الأميركي.
تقول أنقرة إنها تعلمت الدرس، فهي منذ عقود تعاني من العقوبات أو التلويح بأن يستخدمها الحليف الأميركي. وقد يستعين بايدن بعبارة أردوغان “لا يظن أحد أنه خسارة لن تعوّض”، ولكن أنقرة جاهزة للرد أن “على من يخسر أصابعه وهو يصافح واشنطن أن يحمي ذراعه بعد ذلك”. وفي الأثناء، تتزايد التحليلات في الإعلام العربي المحسوب على الإمارات التي تقول إن حدود أمن الإمارات في شرق المتوسط، طالما أن أمن تركيا وصل إلى الخليج “مسافة السكّة”، وتصل القوات الإماراتية التي شاركت في مناورات حربية مع اليونان وقبرص اليونانية وفرنسا ومصر، للدفاع عن أمن أثينا ونيقوسيا وسيادتهما في مواجهة البحرية التركية.
إذا لم يقرأ فريق بايدن مسار التقارب التركي الروسي، والتركي الصيني، جيدا، فهو عرضة لدفع ثمن أكبر عند محاولة إقناع تركيا بالعودة إلى البيت الغربي. وإصغاؤه للاعبين إقليميين يهمهم إضعاف تركيا يتعارض تماما مع الواقع الذي يقول إن ما تعرضه وتملكه تركيا من ثقل استراتيجي في العالم السني يحتاجه بايدن تماما، كما احتاج إليها الرئيس السابق، أوباما، قبل سنوات. مواقف حزب “العدالة والتنمية” وسياساته، والثقل السني التركي، قد يزعجان الرياض مثلا، لكنها ستكون أول المعترضين على مشروع إضعاف دولة سنّية بحجم تركيا وموقعها، في منظومة غريبة عجيبة، واصطفاف إقليمي بشراكة مصرية إماراتية إسرائيلية غربية بذريعة مواجهة النفوذ التركي.
قد يكون تجميد عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي ورقة مناورة أميركية يلعبها بايدن، لكن الرد التركي على ذلك ينبغي أن يُحتسب جيدا. يقول مثل تركي “الجار السيئ في المبنى يجعل من جاره صاحب منزل مستقل”.
المصدر: العربي الجديد