فاطمة شريح
في حدود مكان امتد صعودا، بنيت بيوت حفرت بصخر وكد، نهضت مشرئبة للشمس، متحديةً اللجوء والوهن. غُرست الأشجار في كل دار في استدعاء مهيب لزخم الماضي، وصور عالقة بالأذهان كانت تحقّب أيامهم. في غرفهم تتدلى خريطة فلسطين على الحيطان، وحولها صور القدس ولوحة جبل المحامل.
ولدت هناك في ثمانينيات القرن الماضي، في رقعةٍ صغيرة تفترش المدخل الشمالي لمدينة حلب. اسمها المخيم، الذي انحفرت بيوته بالصخر، وشيدته زنود الآباء والأجداد من ضحايا جيل النكبة، ليكون في معماره على شكل بيوت قراهم التي هُجّروا منها عام ١٩٤٨. كبرت فيه بين مجتمعٍ يتكور على سردية التحدي، ويواجه شقاء الحياة بأحلام العودة. وكنت من الجيل الذي تفتحت أعينه على قساوة العيش في مخيمٍ، يفتقد الكثير من مقومات الحياة المعيشية. بدءً برحلة الحصول على قليلٍ من الماء، بعد معاناة الوقوف الطويل لتعبئة كالون ماء من صنبورٍ مشترك.
ولأن حارتنا استحدثت بالصف الأخير قبل امتداد الجبل، كان الطين هوية شتائنا القارص، مما استدعى بعض الأشقياء أن يطلقوا عليها “حارة الجزمات” لاضطرارنا لبس جزمة بلاستيكية طويلة الساق، وكلما تتالت السنين، كانت تتحسن الامور وتسير نحو صعوباتٍ أقل. عشت بعضاً من تحولات المخيم ووصول الخدمات التي كنا نفتقدها إليه، حين تم اغلاق المجاري المفتوحه، وتزفيت شوارعه بالإسفلت. وشهدت احتفال الأهالي بوضع أعمدة اسمنتية لإنارة شوارع وحارات المخيم، ومع مرور الزمن تم تركيب هواتف أرضية لبعض المسجلين، بعد انتظارهم لسنوات عديدة. كانت أسرتي ممن حظيت بواحد منها. حتى إن رن جرس هاتفنا كنت أعلم أن مهمة الرد ستوكل اليّ، لمناداة أحد من جيراننا، المخصوصين بالرد على تلك المكالمة. فتمرر الحكايات والأسرار على مسمعي وإن كنت أمنع نفسي من ذلك، لا أنهم جميعا كانوا يتكلموا بصوت مرتفع، ولأن بيوتنا تقع ضمن ارتفاعات متتالية كانت عتبة باب دارنا التي تتهدل عليها العسلية، مكاناً لتأملي الفسيح، أرى منها غرفة ابن الجيران، الطالب الجامعي المثقف ومكتبته تحت مرأى نظري، بكتبها المصفوفة بأناقة وترتيب، وصور وإيقونات معلقة يحار عقلي الصغير عن فهمها، وعلى بعد بضع أمتار كانت غرفة ابن عمه على السطح المقابل، حيث كانت تتميز بديكور غريب ولافت، وتتراص فيها صور فنانين ولاعبي كرة قدم، وعلب سجائر فارغة كان يشكل منها مجسمات فنية عجيبة تحدث فرقا في المكان، الذي تصدح منه بين الفينة والأخرى، أغاني عبد الحليم حافظ، يبثها مسجل كبير، يضيء كلما خرج منه صوت عبد الحليم، حتى خُيّل لي أنه المطرب الوحيد وقتها في العالم. ما أن أميل رأسي يسارا حتى يكون ابن الجيران المتدين الورع بين كتبه الدينية وجمع من أصدقائه للذكر والصلاة.
كانت المساحات شاسعة للعب ركضا وقفزا وتزحلقا في المنحدرات الترابية، حتى يكاد لايخلو جسد طفل في المخيم من ندبة أو علامة نتيجة لحوادث السقوط اوقرص بعض الحشرات، ولأن نشاط المنظمات الفلسطينية بدأ يزوي في مخيمنا منذ منتصف التسعينيات، وكأنها تعلن انكفاءها مع بدء تخلي القيادات الفلسطينية عن اللاجئين إثر اتفاق أوسلو، بقيّ بناء قديم لأحد الفصائل، تسور جدرانه صورالشهداء، ويستخدمه بعض الشبان الآمل، كمقر لأنشطة فنية،بإمكانيات ذاتية محدودة، نتدرب فيها على حفظ الأغاني الثورية والشعر المقاوم. تدب فينا الحماسة كلما تمايلنا في دبكة رسمت خطواتها بتأنٍ تارة وأخرى بانعتاق، كما انهكتنا التحضيرات لمسرحيةٍ شاركت بها، وتوازعت أدوارها مع أخريات وآخرين، كنا نمثل فيها حكايا أسرى وفدائيين وشهداء، وفي كل مرة نُعيد عرضها، تنهال علينا في نهاية العرض الزغاريد والتصفيرات وتصفيق لا ينتهي.
كبرت في هذا المجتمع المصغر حيث يفترق الاولاد عن البنات بتباعدٍ حذر تمليه أعرافنا الشرقية، ويأخذ كل جنس فريقه، وتبقى قصص الحب في دائرة الاقاويل والاشاعات والكثير من حسد العزال، ومن يعزم على الزواج يكون جاهزا عندما تخصص له غرفة ومنافعها تقطتع من بيت أهله، فتبحث أمه عن شريكة تؤانسه صروف الحياة وهمومها، وتبدأ معه بناء غرفة بعد غرفه، وأكثرهنّ يبعنّ ذهبهن القليل، ويضعنّ معاشهنّ وأكثرهنّ معلمات على معاش أزواجهنّ، كي يؤمنوا حياة أولادهم في بيوت لائقة وحياة مستقرة.
كانت أعراسنا استثنائية حيث أن العريس سيعزم للحمام عند أحد الاصدقاء ويحلق له رأسه وذقنه علناً، أمام أهالي المخيم مع إيقاع الطبل والطبلة والاغاني التراثية، وكانت أشهرها ” احلق ياحلاق بالماوس الذهبية”، وسيرتدي طقمه المعطر المزين بالورد الذي يوضع بطبق كبير حملته أمه على رأسها، وهي ترقص به، ومن بعدها سيُزف مع الحضور لحفلة العرس، متجولاً بين الأزقة والحارات ليتلقى التحايا والتبريكات ويرش فوقه الرز تيمننا له بالخير. فتخال طقوس الزواج حفلاً وطنيا لما فيه من أحياء للتراث والاغاني الوطنية.
كما كانت تروق لنا فكرة زواج الفلسطينين من بعضهم ليس تعصباً أو تزمتاً، بقدر ما كانت اللبنة الحقيقيه لاستمرار العادات واللهجات والأكلات ودوام التدفق في الدماء الذي كان يغلي مع كل خبر عن البلاد ، وخاصةً مع أحداث الانتفاضة الأولى والثانية في الداخل الفلسطيني التي كانت تهزنا من أعماقنا، وتحيلنا إلى قنابل موقوتة تتوعد انفجارها ولا تستطع. مع الزمن
تهدن ثورات دواخلنا، إلا ان شيئا فينا لا يهدأ ولا ينطفىء. أتذكر كيف خرجنا غير واعين عندما انفجر البرجين في امريكا عام ٢٠٠١، في مظاهرة كبيرة جمعتنا بشكل عفوي نُعبّر فيها عن نشوة انتصار لغبننا وغلبنا، مع أن الأيام كانت تفتح بصائرنا على أفخاخ تفيض عن وعينا البريء.
تمر بضع سنوات وتكون حرب العراق ويهرع بعض الشبان للتطوع في صفوف المدافعين عن هذا البلد العربي، ويفقد من يفقد من شباب المخيم المتطوعين، ويعود من يعود مثقلا بجراحه وذاكراته، فيما ننتظر جثمان شهيدنا المحبوب دون أن يأتي، إلا كخبر بصحيفة، فتجيش مشاعرنا، وتضج أرواحنا، ليصبح الفقد والترقب سيد أوقاتنا وأحزاننا.
توالت التوسيعات في المخيم بمشاريع تابعة الوكاله الغوث على كتف الجبل، بأبنية اشبه بالمستوطنات تضم مزيداً من اللاجئين القادمين من مخيم النيرب، وتغدو المقبرة المتطرفة قبل اتساع المخيم، في وسط الطريق الدالف إلى حاراته، وتتزايد الدكاكين والمحال، وبجانب بيتنا يبنون صالة أفراح، تتغير معها معالم العرس الفلسطيني، بعدما كانت جلّ اعراسنا تقام على أسطحة البيوت بعد لفها ببطانيات ملونه تتصل ببعضها بواسطة أعمدة خشبية واسلاك. تتزامن تلك الوقائع المستحدثة، مع إنشاء مدرسة ثانوية لم تكن متاحة لنا، لأننا كنا ندرس في المخيم المرحلتين الإبتدائية والاعدادية الوحيدتين للإناث والذكور، وتتبعان وكالة الأونروا ذات المستوى الأفضل في التعليم وفي سقاية ماء الانتماء.
نضطر لقطع سكة الحديد بعد مرور قطار السابعة صباحا، وارتياد حافلة تقلنا الى الثانويات في مدينة حلب، وهي تجربة، مغايرة لحيوات الاخرين، تميزنا بإصرارنا وخصوصية هويتنا. كان التعليم هو الطريق الحتمي لنا، لأننا ببساطة لم نكن نملك رفاهية التملك والتوريث، فكان هذا الطريق هو مسرى الأحلام والأمنيات، وتعاقبت على المخيم موجات سياسية وأخرى دينية بهدف تحريك الساكن من المعتقدات وبعض الأفكار، إلا انني اظنها تغيرات شكلية في اللباس، والحد من بعض جلسات النساء أمام باب الدار اللواتي كنّا يتسامرن فيها يومياً.
جاءت الأحداث الأخيرة في سوريا ودُمِر مخيم عين التل “حندرات” وتفرّق الأهل والأبناء، وبدأ الشتات الجديد بمواسمه الكالحة.
كي لا ننسى المخيم الذي صنع حيواتنا وأحلامنا القصية، وكي نقاوم ذاكرة اقتلاعه سنحمله في أرواحنا أينما حطت رحالنا في نكبتنا الثانية..