علي الكردي
لماذا يحظى شخص ما لحظة موته بإجماع طيف واسع، بحيث يغطي على تناقضات، أو خلافات كثيرة بين هؤلاء المجمعين؟!
سؤالٌ من الصعب الإجابة عليه. ربما يعود الأمر إلى ما كان يتمتع به ذلك الشخص من مناقبية، وحس أخلاقي، أو صفات وممارسات أخرى جعلته دون أن يتقصد موضع إجماع أشخاص هم في الأحوال العادية متناقضون.
واقعة الموت في موسم الموت السوري المعمّم. باتت حدثاً عادياً, وجاءت الكورونا لتزيد الطين بلّةً. لكن لا نعرف لماذا تصبح مثل تلك الواقعة المتكررة فجأةً حدثاً كبيراً يثير الحزن والأسى ويذكرنا بوقائع فيها الكثير من الشجن في حياتنا ؟!
ينطبق التوصيف السابق على حادثة وفاة الفنان الجميل حاتم علي, ووفاة السيدة والأم الفاضلة نجلاء مخلوف والدة الصديق ياسر مخلوف, الذي غُيّب خمسة عشر عاماً في زنازين الأسد ـ الأب رغم أن والدته أبنة خالة أنيسة, ووالده من العائلة أيضاً. على الرغم من ذلك لم تشفع له تلك القرابة في أن ينجو من أقبية الأسد, لسبب بسيط هو رفضه المساومة على مبادئه.
قضيت معظم وقتي بالأمس وأنا أقرأ سيل نعوات الفقيدين, والتعليقات عليها, بما تحمله من حزن عميق على فداحة خسران الفنان حاتم علي الذي ما زال لديه الكثير كي يقوله , فهو أكثر المؤهلين لتوثيق التغريبة السورية, بعد أن نجح في توثيق التغريبة الفلسطينية بما عُرف عنه من صدق وشفافية وقدرة على التقاط لحظات حساسة جداً تحفر عميقاً في الوجدان الجمعي.
في الوقت ذاته لم تتوقف نعوات إم ياسر عن ذكر سجايا هذه الإنسانة التي أصبحت أم كل المعتقلين, بما تحمله من ألوان الوفاء والشكر على لسان رفاق ابنها المعتقلين الذين غمرتهم بحبها وكرمها, وكانت كلمة ( أم جميع المعتقلين) هي الكلمة المفتاحية التي تكررت على ألسنة كل الذين أجمعوا على كرم وشجاعة وتفاني تلك الأم التي لم تميّز في يوم من الأيام بين ابنها وأي من المعتقلين الأخرين. كانت تدرك حجم الظلم والقهر الذي مارسه نظام الأسد على هؤلاء المعتقلين, ولم يكن بيدها حيلةً كي تخفّف من معاناتهم سوى استغلال ذلك الامتياز الذي تحظى به,(كونها قريبة آل الأسد) إلى أقصى حد ممكن, لذلك صارت في كل زيارة لإبنها تأتي محمّلة بكم كبير من الأطعمة والألبسة والحاجات الأساسية, التي تغطي حاجات عشرات المعتقلين إن لم نقل أكثر من ذلك. كانت تلك الأم الطيبة تبيع بين فترة وأخرى قطعة أرض من أملاك أسرتها كي تغطي نفقات زيارة المعتقل, بينما كان آل الأسد ومخلو ف يراكمون ثرواتهم غير المشروعة.
لطالما اختلط الواقع بالمتخيّل, ولطالما استعدنا معاناة الواقع على شكل كوابيس, أو أحلام مخيفة ترتعد لها فرائصنا… في الأدب والفن نمزج أيضاً الواقع بالمتخيّل لكن أحياناً يفاجئنا الواقع بما كنا نظن واهمين أنه محض خيال أو كابوس, أو حدث افتراضي .
تذكرني حادثة رحيل حاتم وام ياسر في نفس اليوم, وحيازتهما على هذا الإجماع بمسلسل العرّاب الذي أخرجه ولعب فيه دور الإبن أمام الفنانة الكبيرة منى واصف . إذ يمكن مع هذه المقاربة مزج الواقع بالمتخيل. الإبن صحفي نزيه يعيش مع والدته الطيبة المحبة.. الشجاعة في حيّ مهمش يذكرنا بالدويلعة, أو الحجر الأسود, حيث يعاني من اعتداء وتنمّر عناصر تافهة من جيرانهم يستقوون عليهم بالسلطة بسبب علاقتهم مع الأمن, ويسببون لهم الأذى دون أي وازع أخلاقي. كم مرّ في حياتنا مثل هؤلاء المتنمرين الذين خلفوا شروخاً عميقة في دواخلنا. طبعاُ لا أستعرض هنا كل أحداث المسلسل و من ثم لجوء ابنة عائلة المافيا المريضة إلى بيت الصحفي الذي ساعدها دون أن يعرف أصولها الخ …..بيد أني أتأمل فقط تلك الخلطة بين الحقيقة والواقع الافتراضي أو المتخيل. فقط أتأمل صورة تلك السيدة الطيبة ( أم المعتقلين ) من آل مخلوف التي انحاز ابنها إلى جانب القيم الأخلاقية النبيلة وهي دعمته بكل طاقة الأمومة والحب الذي تختزنه مع العلم أنه كان من السهل عليه أن يكون جزءاً من المافيا التي سرقت البلاد والعباد. من جهة أخرى أتأمل صورة حاتم علي وابتسامته الشفافة والحزن الذي يغلف ملامحه. استعيد مواقف من معرفتي به. اتذكر مسيرته الإبداعية. أتذكر هدوئه وعدم مساومته على مبادئه وقيمه الأخلاقية النبيلة رغم أنه كعادته لم يرفع صوته عالياً لكنه كان بالتأكيد أكثر صلابةً ووفاء لتلك القيم من أصحاب النبرات العالية.
يختلط الواقع بالخيال بين صورتين وحدثين وشخصيتين جمع بينهما الإجماع على نبالة سيرتهما العطرة النبيلة. لروحهما السلام والسكينة.