سيلفان سيبل
يتولى جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة في 20 يناير/كانون الثاني 2021. ومن بين القضايا الساخنة في السياسة الخارجية، مسألة العلاقات مع طهران. هل تختار واشنطن العودة إلى الاتفاق النووي؟ هل ستتمكن من تجاوز المقاومات الإسرائيلية والسعودية؟ شيء واحد يبدو مؤكداً: لا شيء أساسياً سيتغير في الملف الفلسطيني، فاصطفاف البيت الأبيض مع تل أبيب يعد ثابتاً في السياسة الخارجية الأميركية.
تحدّث كاتب العمود في صحيفة “نيويورك تايمز”، توماس فريدمان، في أوائل ديسمبر/كانون الأول الماضي، عن المقابلة التي خصّه بها جو بايدن، الرئيس المنتخب للولايات المتحدة. تحدّث هذا الأخير كثيراً عن القضايا الداخلية بعد حالة الركود التي تركها دونالد ترامب كإرث. كما تناول القضايا الدولية، وأشار إلى أولويتين في هذا المجال؛ تتعلق الأولى بعلاقات بلاده مع الصين. باختصار، تعد ورشة ضخمة ويريد بايدن أن يمنح نفسه الوقت. وتعد الثانية في نظره أمراً مستعجلاً: يتعلق الأمر باستئناف الحوار مع إيران.
يعتزم بايدن العودة من دون مماطلة إلى أحكام ما يسمى “خطة العمل الشاملة المشتركة” التي تم التوقيع عليها بالأحرف الأولى مع إيران سنة 2015 من قبل الولايات المتحدة وخمس دول (فرنسا، ألمانيا، المملكة المتحدة، روسيا والصين) بشأن الحد والمراقبة الدولية للإنتاج الإيراني من المواد الانشطارية ذات الاستعمال العسكري؛ وهي اتفاقية تمنع إيران من تصنيع أسلحة ذرية خلال الـ15 سنة المقبلة، مقابل، بصفة أساسية، رفع تدريجي للعقوبات الاقتصادية الدولية التي تطاول الإيرانيين. وهي الاتفاقية التي أدانها دونالد ترامب، ما أثلج صدر قادة إسرائيل ودول الخليج العربي، قبل أن يصعّد بشكل غير مسبوق في حجم العقوبات المالية على إيران.
الأولوية، العودة إلى الاتفاق
أشار بايدن في البداية بشكل مبطن إلى فكرة العودة إلى هذه الاتفاقية، مع وضع عدد من الشروط المسبقة. وقد صرح، خلال الحملة الانتخابية في 16 سبتمبر/أيلول 2020، بأنه على طهران القيام بالخطوة الأولى و”العودة إلى الاحترام الصارم للاتفاق النووي”، كأن ليست الولايات المتحدة هي التي ولّت ظهرها لهذا الاتفاق. كان يريد بايدن، على الخصوص، التفاوض في الوقت نفسه على تمديد فترة الحظر المفروض على الإنتاج الإيراني لليورانيوم المخصب، وأيضاً على تحديد صارم للصواريخ البالستية المتوفرة لدى الإيرانيين. لكن بعد ستة أسابيع من ذلك، بدا أنه قلّل من نبرة كلامه. لا يتخلى بايدن عن حمل إيران على التفاوض بشأن قضية الصواريخ، لكن تبقى الأولوية القصوى هي استعادة الثقة، ثقة في الكلمة الأميركية التي يُعرف أنها ضعفت بشكل رهيب في إيران.
هو لا يقول ذلك صراحة، لكنه يعلم أنه حتى وإن كانت هناك مقاربات غير معلنة مع طهران جارية بالفعل، فلن تفتح أي مفاوضات جادة من دون أن تظهر الولايات المتحدة أولاً بأن عودتها إلى اتفاق 2015 ليست لفظية فحسب. يجب أن يُتبع ذلك بأفعال، بدءاً من رفع العقوبات بشكل فعلي. في جوابه لفريدمان، الذي حثّه على أن يكون أكثر صرامة مع طهران، ردّ بايدن بصراحة: “انظر، يقال الكثير عن الصواريخ البالستية، خصوصاً عن سلسلة كاملة من الأشياء (التي يقوم بها الإيرانيون) التي تزعزع استقرار المنطقة. لكن أفضل طريقة لتحقيق نوع من الاستقرار في هذه المنطقة، هو التفاوض حول القضية النووية أولا”. لأنه إذا حصلت إيران على القنبلة الذرية – وسيكون كذلك الحال إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، كما يعتقد – فإن إمكانية الانتشار النووي ستصبح خطيرة بشكل مروع. “وآخر شيء لعين نحتاجه في هذا الجزء من العالم هو توسيع القدرة النووية”، أضاف بايدن.
فضلاً عن ذلك، يرى الرئيس المنتخب أنه يجب التصرف بسرعة. لا شيء يضاهي بضع إجراءات قوية لإقناع طهران بالنوايا الحسنة للإدارة الجديدة. يعقّب فريدمان بقلق: أليست هذه مخاطرة؟ يجيبه بايدن بأن العقوبات التي ترفع يمكن أن يعاد فرضها إذا لزم الأمر. بعبارة أخرى، لنبدأ برفعها. إذا سارت المفاوضات بشكل سيئ، فسيكون هناك دائماً الوقت للعودة إليها. وهو ينوي المضي قدماً حتى وإن “سيكون ذلك صعباً”.
سيكتشف بايدن قريباً بالتفصيل الحالة التي ترك فيها ترامب الملف الإيراني. قبل أسبوع من مقابلته، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني، قام كوماندوس، يفترض أنه إسرائيلي، بقتل محسن فخري زادة، الذي قُدِّم على أنه المشرف الرئيسي للبحث النووي العسكري الإيراني. لم يتطرق بايدن في حواره إلى هذا الحدث. لكنه يعلم أنه قبل خمسة أيام من جريمة القتل، التقى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في السعودية، إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وقد تم الكشف على الفور عن هذا اللقاء “السري”.
بتنفيذه هذا الاغتيال، يكون نتنياهو إما قد أراد أن يُظهر لبايدن أنه يظل مصمماً على تقويض أي مفاوضات مع إيران، وإما أن إسرائيل تصرفت بناءً على طلب صريح من ترامب. وفي الحالتين، فالقصد من هذا الفعل ليس فقط إظهار للإيرانيين بأن إسرائيل قادرة على ضرب قادتها الأكثر حماية، بل تتمثل الغاية أكثر في إحداث فوضى بهدف تخريب السياسة الإيرانية التي يرغب في تطويرها الرئيس الأميركي الجديد. وإذا بقي بايدن صامتاً بشأن جريمة القتل هذه، فإن العديد من مقربيه كانوا جد قاسين بخصوصها. غرّد بن رودس، نائب المستشار الأمني السابق لباراك أوباما، بأنه يرى في ذلك “عملاً شائناً يهدف إلى تقويض دبلوماسية الإدارة الأميركية المقبلة تجاه إيران”. ووصفها مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق، جون برينان، بأنها “عمل من أعمال إرهاب الدولة”.
مناورات دونالد ترامب
هل ما زال في إمكان ترامب والمتواطئين معه من الإسرائيليين إحباط طموح بايدن الإيراني قبل تنصيبه في غضون أسبوعين؟ يبدو ذلك غير محتمل. فكما قال مارك فيتزباتريك، المسؤول السابق عن منع الانتشار النووي في وزارة الخارجية الأميركية، “لم يكن سبب اغتيال فخري زادة إعاقة القدرة النووية الإيرانية، بل كان إعاقة دبلوماسية الإدارة المقبلة”. لكن روبرت مالي، رئيس مجموعة الأزمات الدولية، لا يؤمن بفعالية هذه الطريقة. ورأى أن ترامب ونتنياهو لن يتمكنا من “قتل الدبلوماسية”. وبالفعل، لم تردّ إيران حتى الآن بعدوانية على مقتل عالمها.
ومع ذلك، تبقى العودة إلى علاقة أكثر هدوءاً بين الولايات المتحدة وإيران غير مؤكدة. لم يتخل الإسرائيليون والسعوديون وأنصار ترامب في الولايات المتحدة عن السعي لإحباط أي انفتاح من واشنطن تجاه طهران. فهم يعلمون أنه، حتى في إيران، أصبح الرئيس حسن روحاني، الذي دعا خلال أربع سنوات إلى ضبط النفس في مواجهة “مجنون” واشنطن، في حالة ضعف اليوم. وأن بايدن، سيواجه صعوبات مع رأيه العام بخصوص الرهان الإيراني. وإذا احتفظ الجمهوريون بسيطرتهم على مجلس الشيوخ، سيكون بايدن في مواجهة كونغرس معاد للعودة إلى المحادثات مع طهران.
أما بالنسبة لإيران، فمن المقرر إجراء انتخابات رئاسية في 18 يونيو/حزيران 2021. إذا انتخب صاحب السلطة الرئيسية، مرشد الثورة علي خامنئي، مرشحاً معادياً للمفاوضات، فإن محاولات جو بايدن لتحقيق اتفاق موسع مع طهران قد تسقط بسرعة. لكن هذا ليس رأي سید حسین موسویان. كان هذا الدبلوماسي الإيراني الكبير سابقاً، المقرب من الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني (1989-1997)، المتحدث باسم الوفد الإيراني في المفاوضات الأولى مع الغرب من 2003 إلى 2005، وهو اليوم أستاذ في جامعة برينستون. موسویان مقتنع بعودة محافظ إلى الرئاسة في إيران في غضون أشهر قليلة، لكن هذا لن يضع حداً لرغبة خامنئي، مهما كانت مخاوفه، في العودة إلى طاولة المفاوضات.
ويصل موسويان إلى تحديد ملامح محادثات واسعة النطاق قد ترضي جو بايدن… والإيرانيين. كتب في موقع “ميدل إيست آي” أنه يجب أن ترى طهران، ابتداءً من الأشهر الأولى للبيت الأبيض الجديد، عودة حقيقية لشروط اتفاقية عام 2015، وبالتالي إلى رفع العقوبات. وبعد تحقيق هذه النقطة، يمكن أن تركز بقية المفاوضات على الطلبات الأميركية لتوسيع نطاق الاتفاقية. في هذه الحالة، وفقاً للأخذ والعطاء، سيكون من اللياقة أن تقوم واشنطن أيضاً ببادرة. قد يمثل شطب “الحرس الثوري” من قائمة التنظيمات الإرهابية إحداها. وتوقيف العقوبات الاسمية ضد القادة الإيرانيين مبادرة أخرى.
ثم ستأتي، عاجلاً أم آجلاً، مسألة الصواريخ البالستية. يريد الغربيون من طهران أن تكف عن تجميعها. يقول موسويان إنه بالنسبة لإيران يتعين حل المشكلة من خلال “مقاربة متعددة الأطراف”. ويذكر أن السعودية تتوفر على العديد من الصواريخ الصينية التي يصل مداها إلى أكثر من خمسة آلاف كيلومتر، وأن إسرائيل تمتلك مئات الرؤوس النووية ولديها خمسة آلاف صاروخ “أريحا” لحملها. وبالتالي ستتم دعوة هذين البلدين وغيرهما إلى مفاوضات متعددة الأطراف. باختصار، نقطة انطلاق الموقف الإيراني بسيطة. إذا تخلت إسرائيل والسعودية والقوى الإقليمية الأخرى أو حدّت من عدد صواريخها، فستقوم طهران بعمل مماثل. وإذا رفضت، فلماذا تذعن إيران لذلك؟ مساحة الغربيين للتفاوض ليست منعدمة، ولكنها ضعيفة. ولكن الحال كان مماثلا عند بداية المفاوضات النووية (التي استمرت قرابة 15 عاماً).
“إعادة تقييم” العلاقة مع الرياض؟
من المؤكد أن الرد السعودي والإسرائيلي على مثل هذا الطلب سيكون رفضاً غاضباً. لكن من خلال القيام بذلك، فإن الإيرانيين سوف يحدِثون ثغرة إضافية بين إدارة بايدن وحليفيها الإقليميين. وفي هذا الصدد، بدأت فجوة تظهر بمجرد فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية. فوز استقبله نتنياهو ومحمد بن سلمان بقليل من الحماس والدفء. منذ ذلك الحين، كما كتب عاموس هاريل، المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس”، يتعمد نتنياهو “تسخين الأجواء مع اقتراب دخول بايدن إلى البيت الأبيض”. قامت إسرائيل، بموافقة من القاهرة، بإرسال غواصة عبر قناة السويس باتجاه الخليج العربي. وأكد نتنياهو أمام طلاب مدرسة الطيران العسكرية أن إسرائيل ستمنع في كل الظروف إيران من امتلاك أسلحة نووية.
أما بايدن فهو ليس من المعجبين بالتحالف الذي أقامه ترامب في الشرق الأوسط، والذي من خلاله انضمت مملكات الخليج (وكذلك مصر) إلى المحور الأميركي-الإسرائيلي في جبهة معلنة مناهضة لإيران. وقد لمّح إلى أنه بمجرد وصوله إلى البيت الأبيض قد يطلب “إعادة تقييم” علاقته بالرياض. وبأنه سيطالب على الخصوص الكونغرس بإنهاء الدعم المالي للتدخل السعودي في حرب اليمن. أما بخصوص علاقته بإسرائيل، ووراء مظاهر الصداقة الراسخة، فإن بايدن الذي شاهد كيف أهان نتنياهو باراك أوباما بنجاح، يدرك أنه إذا روّج لاتفاقٍ جديد مع إيران، سيتعين عليه مواجهة عداء إسرائيلي ربما يكون أكبر من الذي واجهه أوباما. الإسرائيليون، بدءاً من الغالبية العظمى من طبقتهم السياسية، هم أيتام دونالد ترامب. وأظهرت استطلاعات الرأي التي أجريت قبل الانتخابات الأميركية أن اليهود الإسرائيليين يؤيدون ترامب بنسبة 77 في المائة (مقابل 22 في المائة فقط فضّلوا بايدن). بعد انتخاب بايدن، صرّح نتنياهو بأنه “لا يمكن أن تكون أي عودة إلى الاتفاق النووي السابق” مع إيران. الفجوة صارخة من الوهلة الاولى.
إذا كان جو بايدن مصمماً على العودة إلى الاتفاق مع طهران، يتعين عليه مواجهة الإسرائيليين. هل هو مستعد لذلك؟ ماذا سيقدّم لهم، إذا اقتضى الأمر، لجعلهم يرضخون؟ يسجل بايدن نفسه ضمن تقليد كان فيه حزبه، الديمقراطي، تاريخياً الأكثر تفضيلاً لإسرائيل في الولايات المتحدة، وذلك قبل تشكيل تحالف شبه انصهاري بين اليمين الجمهوري الأميركي والراديكالي، سواء أكانوا من الإنجيليين أو القوميين، واليمين الإسرائيلي الاستعماري المتطرف، وكلاهما يعرف نمواً قوياً في بلديهما. حاول سلفا ترامب الديمقراطيان، بيل كلينتون وباراك أوباما، حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، لكن من دون جدوى، ولا يعود ذلك لقلة الجهد. في كلتا الحالتين، منعت إسرائيل أي اتفاق، برفضها قبول وجود دولة فلسطينية في جميع الأراضي التي احتلتها منذ حرب يونيو/حزيران 1967. وقد اختار الرئيسان الديمقراطيان، في كل مرة، عدم مواجهة الإسرائيليين. هل يستطيع بايدن أن يفهم أنه بعد كل هذه الإخفاقات، وبالنظر إلى استمرار سياسة الاستحواذ وتفكيك الأراضي الفلسطينية التي يقودها الإسرائيليون بشكل ممنهج، بأن “مفاوضات” بين شريكين غير متكافئين على جميع المستويات بشكل غير عادي، تؤدي إلى وجود دولتين “تعيشان بسلام جنباً إلى جنب”، أصبحت سراباً وهمياً؟ مجرد تعويذة (مانترا) ليس لها من مضمون سوى ضمان استمرار الوضع القائم، وبالتالي استمرار الاحتلال العسكري والاستعمار.
إنهاء احتلال فلسطين
هل يمكن لبايدن أن يفهم أن ما هو على المحك الآن ليس “السلام” بل إنهاء احتلال الفلسطينيين؟ أن يفهم أنه ليس لديهم سلاح آخر غير مجرد وجودهم، في حين أن الإسرائيليين، بسبب الإفلات المتراكم من العقاب، عالقون في عقلية استعمارية تمنعهم من التصور بأنفسهم أفقا آخَر غير استمرار هيمنة أبدية على شعب آخر؟ باختصار، هل بمقدور بايدن فهم أنه لا يوجد سبب يدعو الإسرائيليين إلى الانخراط بمفردهم في عملية توازن بين فكرة التسوية والمساواة في الحقوق والكرامة مع أولئك الذين يضطهدونهم؟ لكي يتم جعلهم يتقبلون ذلك، يتعين إجبارهم. ما عدا ذلك، فلن يتحركوا، مواصلين تخريب كل اتفاق ممكن، من خلال الادعاء بأن الفلسطينيين لا يريدون السلام، مع الاستمرار يومياً في جز القليل مما تبقى لديهم من تقرير المصير. هل بايدن مدرك لهذا الواقع؟ هل هو مستعد لتغييره؟ يبدو ذلك غير محتمل جداً. لم تتوقف حاشيته، خلال حملته الانتخابية، عن تكرار أنه لن يمس، تحت أي ظرف، الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل (3.8 مليارات دولار سنويا – أو 3.1 مليارات يورو – من إمدادات مجانية بالأسلحة مرفوقة بإلغاء الديون). كتب بيتر بينارت، الأخصائي في العلوم السياسية ومدير مجلة يهودية تقدمية: “إذا كان الأمر كذلك، فإن ذلك لا يعطي (لنتنياهو) سبباً يُذكر لإعادة النظر في سلوكه الحالي. إنه أمر مقلق. مخيف حتى”.
الإشارات التي أرسلها بايدن حتى الآن ليست مطمئنة كثيراً. صحيح أنه قال إنه سيعيد فتح التمثيل الأميركي لدى الفلسطينيين وتمثيل منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وكلاهما أغلقهما ترامب؛ كما أعلن أنه سيعيد مساهمة الولايات المتحدة إلى “الأونروا”، وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة. لكنه رافع أيضاً بالاحتفاظ بالسفارة الأميركية في القدس. وفوق كل شيء، لم يكن يتحدث كثيراً عن الموضوع الإسرائيلي-الفلسطيني. لا بد من القول إن هذه المسألة تراجعت خلال عقد من الزمن بعدة درجات في أولويات السياسة الدولية الأميركية.
اختيار غير جريء لوزارة الخارجية
أخيراً، بتعيينه أنطوني بلينكن في وزارة الخارجية، كان من الصعب على بايدن أن يكون أكثر لطفاً مع الإسرائيليين. صرحت تسيبي ليفني، وزيرة الخارجية السابقة لأرييل شارون، وهي من اليمين الوسط، بأنه الخيار “الأفضل” لإسرائيل. وقال دوري غولد، وهو منظّر من اليمين الاستعماري المقرب جداً من نتنياهو، إنه “مطمئن”. بعد بيل كلينتون الذي رفضه اليمين الإسرائيلي، وباراك أوباما الذي كانوا يكرهونه، ها هو جو بايدن، من خلال تسمية بلينكن، يبدو لهم أكثر تفهماً. بلينكن لم يثن على نقل ترامب للسفارة الأميركية إلى القدس فحسب، بل قال أيضا إنه مؤيد “للحفاظ على اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل ودول الخليج (…) لدفع هذه الدول لتكون فاعلة مثمرة في جهود السلام الإسرائيلية الفلسطينية”. هذا “التطبيع” بين إسرائيل والأنظمة الملكية في المنطقة بُني، من بين أمور أخرى، على الفكرة الإسرائيلية جداً المتعلقة بـ”السلام الاقتصادي” مع الفلسطينيين، والذي يفترض أنه يقنعهم بالتخلي نهائياً عن أي مطالب سياسية.
على عكس جزء من الحزب الديمقراطي الذي أصبح يتحرر بشكل متزايد من “العلاقة الثابتة” مع إسرائيل، يجسد بلينكن موقفه التقليدي من القضية الإسرائيلية الفلسطينية. وهذا الموقف كان دائماً مفيداً لأنصار الاستعمار ويضمن لهم الاستفادة من الإفلات من العقاب. في هذا الصدد، ما انفك بلينكن، طوال الحملة الانتخابية لبايدن، يؤكد مراراً وتكراراً في المنتديات اليهودية الأميركية “التزامه الراسخ تجاه إسرائيل”. وأضاف أنه في حالة حدوث خلافات مع القادة الإسرائيليين، فإن بايدن “يؤمن بشدة بضرورة إبقاء الخلافات بين الأصدقاء خلف الأبواب المغلقة”. ليس بلينكن هو الذي سيعامل إسرائيل كما عامل دولة أخرى هي أيضاً “صديقة” للولايات المتحدة: المملكة العربية السعودية. ففي الوقت نفسه، أعلن بلينكن أيضاً: “سنراجع علاقتنا مع الحكومة السعودية التي منحها الرئيس ترامب صكاً على بياض لسياساتها الكارثية، بما في ذلك الحرب في اليمن، وكذلك في قضية مقتل جمال خاشقجي وقمع المنشقين في بلادها”.
خمسة أشهر لاتخاذ قرار
باختصار، بلينكن الذي لعب دوراً رائداً في المرحلة النهائية لإعداد الاتفاقية النووية مع إيران في عام 2015، يعتقد أو يريد الإقناع بأنه سيكون من الممكن بالنسبة له التوفيق بين إعادة الارتباط مع إيران والحفاظ على المصالح الإسرائيلية كما يراها الإسرائيليون، وضبط بن سلمان. بعبارة أخرى، فهو ينوي أولاً طمأنة الكونغرس الأميركي (الداعم بلا شروط لإسرائيل والمعادي جداً لطهران، ولكن أيضاً للرياض). قد يتيح ذلك القيام بسياسة اتصال، ولكن ليس بدبلوماسية متماسكة.
الصعوبة الرئيسية التي تواجهها إدارة بايدن، هي أن التحالف الذي أقامه ترامب في الشرق الأوسط بين كل أولئك الذين يفكرون مثله، أي “بلدي أولاً”، يبدو قائماً على مصالح مشتركة قوية نسبياً. تحالف يجمع دولة إسرائيل، التي لديها الكثير مما تقدمه لأصدقائها الجدد، بدءا من فتح العديد من الأبواب في واشنطن، إلى توريد معدات متخصصة للغاية للمراقبة الإلكترونية للمواطنين، وأنظمة أظهر “الربيع العربي” الأخير كم هي تخشى انتفاضة شعوبها. يبدو هذا التحالف أيضاً أكثر تماسكاً وأسهل للتجسيد من مشروع إعادة توازن القوى بين الأطراف في الشرق الأوسط.
ومع ذلك، يرى تريتا بارسي، محلل إيراني يعيش في الولايات المتحدة (وهو رئيس سابق للمجلس الوطني الإيراني-الأميركي)، أن أمام بايدن خمسة أشهر فقط، إلى غاية الانتخابات في إيران، لتطهير العلاقة الأميركية الإيرانية من الإرث الذي خلفه ترامب. فإذا تخلى عن ذلك، أو إذا تعثرت المحادثات، كما يقول، فإن هذه العلاقة “ستعرف تدهورا خطيرا مما يزيد بشكل كبير في احتمال نشوب حرب”.
المصدر: العربي الجديد