جاد الكريم الجباعي
عنون ياسين الحافظ أحد كتبه المهمة بعنوان “اللاعقلانية في السياسة”، وموضوعه نقد السياسات العربية في المرحلة ما بعد الناصرية. وأول ما يلفت نظر القارئ في هذا الكتاب هو النهج النقدي الذي انتهجه كاتبه، حتى لنكاد نخلص منه إلى نتيجة مؤداها أن العقلانية على الصعيد المعرفي هي النقد، نقد الذات ونقد الموضوع الذي هو أيضاً ذات وحياة. وهو ما كان يسميه الياس مرقص “جهاد النفس وجهاد المعرفة”. والنقد هو أبرز خصائص العقل / الفكر الذي لا يني يثبت وينفي إلى ما لا نهاية، الإثبات يحدد مجالاً هو مجال العلم الوضعي الإيجابي، والنفي يحدد مجالاً آخر هو مجال الفكر النظري الذي يتجاوز حدوده باستمرار مستفيداً من معطيات العلم الوضعي الإيجابي وما يوفره من مقدمات موضوعية، وكلاهما، المعطيات والمقدمات نتاجات العمل البشري الواعي والهادف.
العقلانية في الفكر مسعى من أجل الحقيقة، بوصفها مطابقة الفكر لموضوعه واتساق حركته مع حركة الواقع الذي يعيش به وفيه، مسعى من أجل وحدة الفكر والواقع، وإعادة بناء صورته في الذهن، في ضوء التقدم الحاصل، وإنتاج أسس معرفية جديدة للعمل البشري والإنتاج الاجتماعي . والعقلانية في السياسة أيضاً مسعى من أجل مطابقة مفهوم الفرد الاجتماعي ومفهوم المواطن، بوصفه عضواً في المجتمع المدني وعضواً في الدولة بالتلازم الضروري، مسعى من أجل صيرورة الفرد الاجتماعي مواطناً، أي عضواً في المجتمع المدني والدولة في الوقت ذاته. ومن هذا الواقع التجريبي، من هذه الصيرورة ذاتها يتحدد معنى السياسة بكونها الشيء العام المشترك بين جميع الأفراد في مجتمع معين ودولة معينة.
هذا العام المشترك لا يمكن إدراكه وتعرفه إلا متعيناً في مؤسسات مجتمعية وسياسية وثقافية وأيديولوجية ، كالتشكيلات والبنى الاجتماعية ، ولا سيما الفئات والطبقات ، وفي النقابات والاتحادات الحرفية والمهنية والأحزاب السياسية والمؤسسات الثقافية والدينية…إلخ. فالعام لا يوحد وجوداً فعلياً واقعياً إلا في الخاص والفردي. وإلغاء الخاص والفردي هو إلغاء العام والعودة إلى السديمية والاختلاط . ويتحدد معنى الدولة بالتالي، بكونها تعبيراً سياسياً وحقوقياً عن هذا العام المشترك بين الأفراد والفئات الاجتماعية والقوى السياسية والتيارات الفكرية والإيديولوجية، وبكونها تعبيراً عن الكل الاجتماعي الذي تتقوَّم وحدته باختلاف أجزائه وتعارضها.
على هذا الأساس بنى ياسين الحافظ رؤيته للسياسة بوصفها رابطة أو علاقة بين مجموعة من البشر المختلفين والمتشابهين أو المتماثلين في الوقت ذاته، علاقة ترقى بهذه المجموعة من جماعة إلى مجتمع، ومن ملة أو مجموعة ملل، إلى أمة، وترقى بوجودها السياسي من تراتب إكليركي ونظام إكليركي وسلطات أبوية إلى دولة، وترقى بالأفراد من رعايا إلى مواطنين.
المصدر: صفحة ياسين الحافظ