عمار ديوب
مراجعاتٌ كثيرةٌ يدوّنها مثقفون منشغلون بمصائر الثورات، عن السنوات العشر الماضية، وبذكراها. أثرت الثورات العربية وتحولاتها على أشكال الحياة كافة، وتُختصر، العشر هذه، بين ثوراتٍ شعبيّة وأنظمة داعمة للثورات المضادّة. هناك حديث دائم الحضور عن سبب الثورات، يُخفِض قصديّاً من العامل الاقتصادي، ويُعلي من شأن العامل الأخلاقي، مسألة الكرامة، أكثر حتى من العامل السياسي (الاستبداد)؛ وهذا مبدأه ونهايته التفكير الأيديولوجي الذي يحكم الرؤى الليبرالية، والتي تريد إعادة التاريخ “مثالياً” إلى الوراء، إلى ما قبل استلام العسكر السلطة، وكأنّ الأمر بهذا اليُسر، وكأنّ التاريخ، وكي يكون كذلك، يجب أن يعود ليبراليّاً، وبالنسبة إلى آخرين إسلامياً.
ثورات تخص العالم العربي
بين نهايتي العامين 2010 و2020، اندلعت الثورات، واستلم بعض من ادّعى تمثيلها الحكم، وفشل بعضها، وتجدّدت أخريات في أكثر من بلد. في 2019 وبعده، تركزت الثورات في الجزائر ولبنان والسودان والعراق. لقد حدثت ضد أنظمةٍ مختلفة في شكل النظام السياسي، ولكن هذه الأنظمة متفقةٌ في تحولاتٍ ليبرالية كانت تُجريها في الاقتصاد، ليصبح حرّاً “ليبرالياً”، وكانت نتائجها، إضافة إلى الفساد والنهب، كارثية، أي تراجعاً في الصناعة والزراعة، وانهارت أحوال الأغلبية. ولو أضفنا الاستبداد، والطائفية، شكلين للحكم، فإن الوضع دخل بطور الانهيار بدرجاتٍ كبيرة، وبالتالي كانت الثورات، بموجاتها، استجابة لشرطٍ محليٍّ، وعربيٍّ بامتياز، أي للسياسات الليبرالية الجديدة أولاً، ولم تكن بأي حالٍ مؤامرات خارجية.
الأخيرة، والأدق التدخلات الخارجية، ولاحقاً الاحتلالات لهذه الدولة أو تلك، كانت تالية لحدوث الثورات، إذا استثنينا العراق، وهذا لا يلغي أنها كانت تتأهب لإعادة إغلاق التاريخ العربي، ووضعه تحت السيطرة المباشرة، وهذا يعود إلى زمن انهيار الاتحاد السوفييتي، وبالتالي إعادة إنتاج منطقتنا إلى أسسٍ، كانت، الدول الاستعمارية، قد حاولت ذلك من قبل: العشائرية، والطائفية، والمناطقية، والعرقية، أليست هذه السياسات ما حاولت زرعه الاتفاقيات الاستعمارية في بداية القرن العشرين؟ أليست هذه ذاتها ما تُرسَم عليها خريطتنا العربية حالياً، وهناك من يرى مصير تركيا وإيران بهذا المنحى. القضية ليست مؤامرة خارجية، وليست صناعة محلية، أو مستمدّة من تاريخ قديم، لا. القضية تتعلق بمن يحكم منطقتنا والعالم، وبمن تدخلاته واضحة ومنذ 2011، وضمن ذلك تتحرّك كل من إيران وتركيا وإسرائيل، بل وكل النظام العربي الذي حدثت الثورات ضدّ أغلبيته. رفض حجّة الصناعة المحلية للأزمات سببا وحيدا للثورات سيقودنا إلى البحث في علاقة التبعية بين الأنظمة العربية والدول المسيطرة على العالم، وتطوّرات هذه العلاقة، ومنذ قرنٍ على أقل تقدير.
التبعية هي ما يجب التفكر والتعقل فيه لفهم طبيعة الأزمات العربية، وما قبل الثورات، وفي أثنائها، والأدق منذ كان الاستعمار مباشراً. لو تجاهلنا ذلك، سيواجهنا السؤال البسيط: ماذا تفعل أميركا في منطقتنا؟ وكذلك روسيا؟ ألا تتدخل الدولتان حالياً في كل شؤون المنطقة، وتبسطان سيطرةً أو احتلالاً هنا وهناك! ولا يخفى على القارئ أنهما الأقوى عسكرياً، وأميركا اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً. الخفّة في قراءة طبيعة الأوضاع العربية أصبحت كارثيّة بامتياز، ليس على راهننا، والذي حدثت فيه ثوراتٌ عظيمة، وتبتغي النهوض بكل أوجه مجتمعاتنا، بل هي تشوّه ماضينا وعقودنا الأخيرة كذلك؛ وأقصد الإساءة في قراءة ذلك التاريخ، وتصويره وكأنّه كان شرّاً كاملاً، وتخلّفاً لا مثيل له، وطائفيّة مقيتة، وسواه كثير.
أن تحدث الثورات في أكثر من دولة عربية، وأن تتجدّد لاحقاً، وبتزامنٍ، وفي أكثر من دولة، وأن تستفيد الموجة الثانية من خبرات الأولى، رافضةً أيّ مظهرٍ للتسلح أو الأسلمة، بل وتتجذّر الوطنية فيها، هي قضايا تتطلب التدقيق. والسؤال، لماذا حدثت في المنطقة العربية في الوقت ذاته، على الرغم من أن الوضع الاقتصادي المتردّي قضية عالمية؟ أليس في الأمر بعدٌ إضافيٌ للاقتصادي. نعم هناك بعدٌ قوميٌّ للثورات العربية، واستنتاجي بعكس الرواية الليبرالية التي تستنتج أن الثورات الشعبية انشغلت بقضاياها المحليّة، وتخلصت من إرث الوطنية والقومية وفلسطين. صحيح أنه لم توضع ضرورة الترابط بين الدول العربية وتحرّر فلسطين على طاولة الثورات، ولكن تزامنها، والخليجُ مشمولٌ فيها، ولاحقاً تَدخُلات الدول العربية، سيما الخليجية، في مصيرها، يؤكد ذلك الترابط. التفكر بالأخير أصبح قضية تتعلق بنهوض العرب أو تخلفهم، سيما أنهم يواجهون، سيما في الإطار الإقليمي، تركيا وإيران وإسرائيل، وعالمياً كل الدول العظمى، ومنها الصين. إذاً كلُّ نقدٍ ضد ضرورة الترابط العربي يَسقط كليّة، فهو حدث من قبل، بالمرحلة القومية، وقبلها، وحدث في أثناء الثورات، وبالتالي يحقّ للثورات وللشعوب تبنّي ذلك الترابط، فهو أحد أسس النهوض بواقع الأمة العربية.
الإسلاميون
لا يمكن الصمت إزاء مسألة الإسلاميين، فقد طُرحت من تونس إلى سورية. لاحقاً، وبالضد منها في كل من الجزائر والسودان ولبنان والعراق، وغلب على طرحها عدم إقصائها من الشعوب أو المعارضات، مع تفضيل أن تتحوّل إلى أحزابٍ سياسيّةٍ محضة، وتُنهي كل رؤيةٍ تأسلميةٍ أو تطييفيةٍ للمجتمع، وهذا لا يتحقق من دون رؤية مواطنيّة للمجتمع بكليته، وتخلٍّ كلّيٍّ عن أيّة أوهام في المزاوجة بين الديمقراطية والدين، أو الدولة والدين، وكذلك ليس من عداءٍ بينهما، وهذا يقتضي فصلاً كلياً لشؤون الأرض وشؤون السماء.
لم تكن تجارب الإسلام السياسي، المنخرطة في الثورات ديمقراطية، ولم تعترف بالمواطنة مرجعية للديمقراطية. وعلى الرغم من الإقرار بحدوث انقلابٍ عسكريٍّ في مصر ضد نظام محمد مرسي، فإن تخبط التجربة التونسية، عشر سنواتٍ متتالية، يؤكد ذلك الاعتراف. كانت التجارب الإسلامية السورية كارثةً على تطوّر مؤسسات المعارضة أو الثورة، والمسألة لا تقتصر على دور الإخوان المسلمين المركزي فيها، بل تشمل كل القوى السلفية، حيث شيّدت إمارات وأنظمة حكم وقوى. وفي مجملها، نافست النظام في ممارساته “فئوية، وفساداً، واستبداداً، وتطييفاً”، والأنكى تدخّلها بما هو شخصي، وتهجير من ليس سنيّاً، ولو أتيحت لها الفرص لما تهاونت إزاء الموالين، أو النظام، وهو ما فعلته بالشعب “السني” الذي وجد نفسه في ظلِّها. إذاً فرضية مظلومية الإخوان، وأنهم المُخولون للحكم، وأن الثورات إسلامية، سقطت بمقياس ممارساتهم، وصار لا بد من تنظيماتٍ سياسيّة، وليكن الدين مرجعيتها الأخلاقية، وتقطع الصلة بين الدين والدنيا، والخلافة والديمقراطية، وتتبنّى الحداثة كاملةً وليس فقط المواطنة؛ فإمّا كذلك أو تدوير وتدمير للتاريخ من جديد، وربما بما هو أسوأ، ومثالنا أشكال السلطات التي بنتها الفصائل السلفية، والكلام لا يتناول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو جبهة النصرة أو الجهاديين.
الخيار السلمي
مَثّلَ النقاش حول شكل الثورات ساحة للصراع الفكري والسياسي، وربما لم يُحسم بعد، بل ولن يُحسم قبل انقضاء أجل الأنظمة في المستقبل. يأخذ الواقع النقاش نحو تفضيل الشكل السلمي، حيث أوضحت الأنظمة أن لا رادع لديها في استخدام كل أنواع ترسانتها العسكرية، بما فيها السلاح الكيميائي. وحتى من سقط سريعاً كزين العابدين في تونس، وحسني مبارك في مصر، ولاحقاً معمر القذافي في ليبيا، وغيرهم. عدم وجود توازنات بين قوى الثورات والأنظمة، وتوظيف السلاح من الخارج لتدمير البلدان، كلّها مسائل تؤكد ضرورة ألّا تصبح الثورات عسكريّة، وأن تظلّ سلميّة، ومهما طال أمدها، أو اشتدّت أشكال قمعها. تعثّرها في تونس والانقلاب في مصر يؤكدان ضرورة ذلك، وليس العكس، حيث الكلف البشرية والمادية والاحتلالية مأساوية، ومهما أجرينا من مقارناتٍ بين تلك الدول وسورية وليبيا واليمن، فالكفّة راجحة للدول التي لم تدخل ميدان الحروب الأهلية والطائفية. ونضيف إن غياب رؤية ثوريّة لضبط السلاح، وعدم خضوع حَمَلَتِه للمعارضات سمح باستقلاليته، شكّل المناخ المناسب للأنظمة وللحركات المعارضة بالتحوّل، وقد أصبحت البلاد، في مرحلة العسكرة، ساحة لأدواتٍ تعمل لصالح الخارج، ودخلت سورية مرحلة التدمير الممنهج والعشوائي للبلاد. إذن الشكل السلمي للثورات هو الصحيح، والاستنتاج هنا يتعلق بغياب التوازن بين طرفي الصراع، وغياب الرؤية الثورية للثورات، وإمكانية ضبط العمل العسكري.
تخريب التمويل
قضية التمويل والمنظمات المدنية أمران لم يَسلم منهما بلد عربي، ولكن دورهما في سورية كان مُشوِّهاً للثوار وللثورة في آن، ودفعهم إلى الابتعاد عن البحث عن مصادر محلية تغيب عنها ثقافة التبرع، إلّا ما رحم ربي ولبعض الجمعيات الخيرية الدينية، وهذا أوقع معظم الثوار والباحثين عن المال، في تلك المصايد، وأفرغ قدرتهم على البحث عن مالٍ محليٍّ، وعن أفكارٍ لتطوير المنظمات المدنية، وبما يتوافق مع حاجات الواقع المحلي، وليس وفق الرؤية العالمية للشركات والجهات الداعمة للمنظمات. وعدا ذلك، فإن التمويل عبر مؤسسات المعارضة والفصائل العسكرية أخرجها كليّة من المصداقية أو التفكر بتطوير الثورات، لصالح المشاريع الخاصة، ويمكن متابعة من “كَفَتت” عليهم الأموال، حيث فَسدَوا كما رجالات النظام، وفي هذا لا يخطئ من يؤكّد تلك المساواة في الممارسات.
إذا التمويل الخارجي يهدف إلى تفريغ الساحة الثورية من اندفاعتها، ويشوّهها، ويمسخها، ويقطع صلة المنظمات المدنية بالواقع المحلي. وفي النهاية، يتم إخراج هؤلاء الأفراد إلى بلدانٍ أخرى، لمتابعة شؤونهم ومشاريع حياتهم، وبذلك ينقطع التمويل ويُترك أهل الداخل، الثورة، للهواء. التمويل الصحيح يُفترض أن يكون من الداخل، وألا يكون لصالح التفرغ، وقائم على استبدال الأشخاص، قابضي الأموال، والتشهير بالفاسدين، ولغاياتٍ محدّدةٍ ومدروسةٍ، وهذا يؤسس لرؤيةٍ وطنية، ويمنع حالات التبعية، ويحاصر المجموعات الانتهازية والبراغماتية التي دخلت إلى الثورات من أجل المال، أو وجدت نفسها في هذا المصير. الحفاظ على سلميّة الثورة يخفف من الاعتماد على التمويل إلى الحدود الدنيا، وحيث لا تُدمر البلاد كما حصل في أكثر من بلد عربي، ويضع المنظمات المدنية والسياسية وسواها أمام حاجات الواقع الفعلية.
الثورات الشبابيّة
برزت أطروحة غير سليمة، أن الثورات العربية شبابيّة، وكأنّ بقية الأجيال ليست محسوبة، أو غير موجودة في ساحاتها أو أطرها. لا شك في أن الكتلة الأكثر تضرّراً من السياسات الليبرالية، ومن فساد السلطات، هي الشباب، وهم الأكثر جرأة على مواجهة النظام، ولكن تم تجاوز ذلك واعتبارهم هم الثورة، كما جرى في ثورات 2011 خصوصا، حيث اختلف الأمر نسبياً في الموجة الثانية من الثورات، على الرغم من تميّز الشباب فيها. الكتلة الشعبية الأصلب في مواجهة أدوات النظام هي الشباب، ولكن هل هذا كل شيء؟ لا طبعاً، وبالتالي تقييم الوضع العام وتوفر الخبرات الثورية والسياسية يكون لدى الفئات الأكثر عمرية، والأكثر “خضرمة”، وهذا يعني، وكما جرى في الثورة السودانية، حيث اندمجت الفئات العمرية والسياسية كلها في معمعة الثورة، وكان لهذا دورٌ كبيرٌ في حمايتها من التسلح، وربما شكّلت قوّة الأحزاب التاريخية، ووجود تنظيماتٍ سابقةٍ للثورات، سدّاً مانعاً في التخفيف من حدّة المواجهة، على الرغم من توفر السلاح، خارج الدولة. وهنا نسجل أن الجيش أدار اللعبة بشكل سليم، وتمّ الاستغناء عن عمر البشير، ومع أن الأمر جرى كما تونس ومصر، وهناك تفاوت بالطبع بين هذه الدولة وتلك، أي من أجل أن يكون التغيير سطحيا، فإن قوّة الثورات هي ما أسّس للتغيير، لكنها لم تدفع به نحو تغييرٍ جذريٍّ، وهذا ساعد بدوره الدولة العميقة للعودة مجدّداً في مصر وتونس والسودان.
إذاً، لم يعد ممكناً الكلام عن ثوراتٍ شبابيّة، ويجب رفض مقولاتٍ كهذه، فالثورات إمّا أن تكون شعبيّة وتمتد إلى فئاتٍ اجتماعية متنوعة وعاملة، وحينها تتجذّر الثورة شعبياً وبرنامجياً ووطنياً، أو أنّها ستكرّر أخطاء السابقات. في كل الأحوال، ثورات الموجة الثانية قدّمت خبراتها، والأولى والثانية هي الأساس الصلب لأيّة برامج ثورية جديدة. إذن هي ثورات شعبية وليست فئوية، والثورات القادمة ستنتصر بالضرورة.
قضية الأقليات
هناك مسألة الأقليات، وهي وإن تفاوتت مشاركاتها من دولةٍ إلى أخرى، فإنها في العموم لم تجد مكاناً لها في الثورات. لهوَ أمرٌ يثير العجب للوهلة الأولى. ولكن لو قرأنا سياسات الأنظمة في مواجهة الثورات، وتغيّرات الثورات ذاتها، نجد أن الأنظمة طيّفتها، والمعارضة الإسلامية كذلك، وكان محصلة ذلك ابتعاد كتلة الأقليات عن الثورة أو وقوفها على الحياد، أو توظيف الأنظمة لها، وهناك كتلة كبيرة من اليساريين والعلمانيين، اصطفوا إلى جانب الأنظمة. ولا يُقرأ موقفهم المدان هذا أخلاقياً فقط، بل سياسيّاً، وطبعاً لا تُناقش القضية من زاوية غياب النظرية السياسية العلمانية اليسارية المسبقة في برامج الثورات. لا، القضية تُقرأ من زاوية تطورات الوضع العام، وإضفاء التطييف على الثورات، وهذا عَزَلَها، ودعم النظم بكتلٍ بشريّة، لا مصلحة حقيقية لها معه.
حساسية موضوع الأقليات، وانخفاض مستوى التطور العام، الاقتصادي خصوصاً، يدفعان إلى التدقيق في كيفية جذب الأغلبية الشعبية للثورات. الفكرة هنا تقوم على أساس التفقير العام، وغياب أي أفق لتحسين الأوضاع العامة، وبالتالي ستزداد الكتلة المفقرة والمهمشة، وستكون وقوداً جديداً حينما تتجدّد الثورات. غياب وعيٍ نقابيٍ لدى الفئات المفقرة يفترض تعويضه بالوعي السياسي، وهذا غير ممكن تحصيله إلا عبر الفئات المسيّسة، أحزاباً، مثقفين، اتحادات. وبالتالي، هناك ضرورة كبيرة لأن يكون البرنامج السياسي للثورات دقيقاً وحساساً لمجمل الوضع العام. وبخلاف ما أوضحتُ، هناك التطييف والحروب الأهلية والتداخلات الخارجية، والاحتلالات. وبالطبع، يرافق ذلك تدمير المدن والتغيير الديموغرافي، ومأسسة الطائفية؛ وهذا، وإنْ لا يستدعيه التاريخ، وتستدعيه الأنظمة، فهو يشكّل إعاقات قوية أمام أية ثورات جديدة، وسيساعد الأنظمة في إدامة نفسها. هذه الديمومة “مؤقتة”، حيث ليس من الممكن استعادة ما قبل 2011، أي أن الأنظمة تزداد ضعفاً، وليس من أملٍ باستمراريتها، والثورات قادمة.
للإيضاح أكثر، لم تعد الشعوب قادرة على الصمت والانزواء وتحمّل غياب العدالة الاجتماعية. وبالتالي، بغياب هذه القضايا ستتجدّد الثورات، حتى تصل إلى أهدافها في المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية والتحرّر من كل أشكال الاستبداد أو الاحتلالات. القوى الثورية معنيةٌ بتوسيع قاعدة الحلفاء، وضم أغلبية الفئات الاجتماعية، وصياغة رؤى ونظرياتٍ أكثر حساسية لتعقيدات الواقع.
مشاريع الهيمنة
يكثر الحديث المتشائم بين العرب عن أن خرائطهم السياسية، أصبحت محكومة بالكامل للخارج، وبعيداً عن عقلية المؤامرات، وأن هناك مخططاتٍ مُسبقة وسواه، فقد أصبح الوضع العربي إمّا لصالح الدول الإقليمية أو للدول العظمى. يستند هذا الحديث إلى حجم الدمار الاقتصادي والتخريب المجتمعي والتسييس الشديد للبنى ما قبل الوطنية. ليس هذا القول خاطئا، ولكن تضخيم آثاره هو الخاطئ. نوضح: قبل 2011، لم يكن أحدٌ يتوقع حدوث الثورات، وكان القول السائد، يصف العرب بـ: مجتمعات متخلفة، ميتة، مصحرة، فقاعات صوتية، وسواه كثير. بعد السنوات العشر، هناك حديثٌ يكرّر ما ذكرت. مشكلة الوعي والعقل السائد أنّه غير واقعي، ولا يغرف مما حدث أمام ناظريه، أو يقوم بمراجعات نقدية، حيث ستنحاز أية رؤية، للثقة بالشعب، وبقدرته على تجديد الاحتجاجات والثورات كذلك. بين 2011 و2019، حدثت احتجاجات في هذه الدولة أو تلك، وتوسعت خصوصا في دول الموجة الثانية، وأحدثت تغيّرات معينة، وها هي تشتدّ في العراق، وفي لبنان، يتقدّم الشباب الثوري “العلماني” في الجامعات. وفي السودان، هناك بدايات نهوضٍ شعبيٍّ جديد، ضد حكومة التكنوقراط والعسكر.
أصبحت مصائر سورية وليبيا واليمن متعلقة بتسوياتٍ إقليمية ودولية، وحينما يتمُّ التوافق عليها ستستعيد الشعوب تدفقها، وهذا سيعني تجدّداً في المشاركة السياسية. عدا ذلك كله، الثورات وتجدّدها مرتبطان بالنتائج الكارثية للسياسات الاقتصادية الليبرالية، وبأنظمةٍ قمعيةٍ حامية لها. الدول الداعمة للثورات المضادة، والأنظمة بأغلبيتها، ما تتعلم شيئاً مما جرى، وتحاول إعادة التاريخ إلى الوراء. ذكرت أن هناك أسباباً للثورات، وبالتالي هي حادثة لا محالة.
ملامح البديل
الأزمة العميقة للوضع العربي، والتدخلات الخارجية، وجديدها فرض التطبيع على بعض الدول العربية، واندماج أنظمة التطبيع مع إسرائيل، سيزيد من تعقيدات هذا الوضع، وسيضع إعاقاتٍ جديدة أمام القوى الثورية العربية مستقبلاً. هذا التعدّد لأنظمة الأمر الواقع، داخلياً وإقليمياً وعالمياً، لم يخمد حركة الشعب الفلسطيني، ولا العراقي، ولا اللبناني. وبالتالي لن يخمد كذلك الحراك الثوري العربي. الإشكالية الحقيقية تكمن في التباس البرامج الثورية والرؤى والفرضيات والنظريات، التي تَقرأ واقعنا، وكذلك في شكل الوعي والتعقل. هنا إشكالٌ عميقٌ، وهو ما زال لا يلامس خبرات السنوات العشر، وضرورة الخروج بنظرياتٍ دقيقةٍ عما جرى، واستشراف المستقبل أيضاً.
ليست السنوات العشر محوريّة، كما يُقرأ هنا وهناك. لا، لكنها تثير أسئلة كثيرة أيضاً. الآن، ليس من وصفةٍ صالحة لكل هذا التعقيد، ولكن العودة إلى الواقع، وبياناته، قد تكون المدخل المناسب للتفكر والعمل واستعادة الأحلام والنشاط الثوري. وفي هذا نرى ضرورة إبعاد المنظور الأخلاقي أو السياسوي أو الاقتصادي أو الديني عن مجال الرؤية، ومنهجية التحليل. الواقع معقد، ويستدعي رؤية معقدة ومترابطة. وعدا ذلك كله، يحاول التدخل الخارجي ضبط كل ما يخص حاضر العرب ومستقبلهم ضمن آلياته في السيطرة والهيمنة والنهب والاحتلالات كذلك؛ إذاً لا خيارات لدى العرب في التحليق الخيالي أو غير الواقعي. وبالتالي أصبحت أمامهم إشكالية جديدة، وهي إمّا إنتاج تاريخ جديد ومختلف أو الخضوع للخارج، وهذا زمنٌ مرحليٌّ، حيث أنه غير ممكن الاستدامة.
فكرتنا من ذلك كله أن هناك واقعاً متفجراً، موضوعياً، ويتطلب شغلاً نظرياً كبيراً، وعملاً سياسياً جماعياً بالضرورة، ومن أجل ذلك يجب الانتهاء من التفكير الأحادي والسائد والمحدود والرغبوي أيضاً. يقول باحثون إن العقل العربي أيديولوجي، خيالي، ديني بامتياز، أي لا ينشغل بمستويات الواقع وتخصصات العلم والاعتراف بالآخر والتعدّدية، لفهم الواقع وإشراك الجميع في تغييره، وهذا صحيح. الإشكالية هنا في أن هذا التفكير ذاته يأخذ الصفة ذاتها، أي “الأدلجة” بينما الواقع يتطلب من جهة تلك التخصصات، ومن جهة أخرى، التفلسف والتكامل والربط بين التخصصات، ومن أجل صياغة الفرضيات والنظريات، وبعد ذلك الأدلجة بالتأكيد.
نجمل القول: الواقع العربي متأزمٌ بدرجاتٍ كبيرة، وغير ممكنة إعادته إلى ما قبل 2011، والسنوات العشر تنتظر استجلاءها، والتنظير عنها وللمستقبل، وهناك مطامع إقليمية ودولية للسيطرة على العالم العربي، وهناك تكاملٌ بين أنظمة عربية كثيرة والكيان الصهيوني. الواقع السابق يدفع نحو ثورات عربية جديدة، وبالتالي، هناك ضرورة للتنظير للثورات والانحياز لها، وتهيئة الوعي والعقل العربي من أجل إنجاحها وإدخال الشعوب في حقل المشاركة السياسية، وتغيير الواقع بما يحقّق أهداف تلك المشاركة في العدالة الاجتماعية والتصنيع والتحرّر الوطني والقومي، وصولاً إلى نظامٍ ديمقراطيٍّ على أسس المواطنة وحقوق الإنسان، والفصل بين شؤون السماء وشؤون الأرض.
المصدر: العربي الجديد