د- عبد الناصر سكرية
مع موسم المطر والثلح والشتاء ؛ تعود الطبيعة لتذكرنا بمأساة أهلنا وأبناء شعبنا المشردين المهجرين قسرا من بيوتهم وديارهم بالحرب في سورية لتأويهم خيام في أدنى وأسوأ مستوى من أبجديات الخدمات الحياتية اليومية..وفي كل موسم تثور الضمائر الحية فلا تتفق إلا عن بعض المساعدات الشخصية الفردية لعدد محدود من تلك العائلات المنكوبة..تفرض الطبيعة علينا معاينة المأساة بما تبثه بعض وسائل الإعلام من صور تدمي القلوب ومناظر تعيدنا إلى عصور غابرة حين كانت الطبيعة تتغلب على الإنسان الذي يبدو عاجزا أمام أبسط فوراتها الموسمية..أما والأمر ليس كذلك والبشرية في القرن الواحد والعشرين فإن مأساة المهجرين المنكوبين أؤلئك تطرح علامات إستفهام كثيرة وتثير موجة من الغضب على ما يسمى قوى الأمر الواقع المحلية والخارجية بمسؤوليتها عن حصول وإستمرار تلك النكبة – المأساة..
تلك مأساة تختزل المشهد السوري والعربي وربما الدولي أيضا..
في دلالاتها ومضمونها تعبر بصدق عن الواقع السوري – العربي وما فيه من خذلان وتخاذل وتهاون ؛ وترسم ملامح من أعطاب بنيوية أساسية تصيب الجسد العربي ومن فيه من سلطات وسلاطين..كذلك ما إعترى مسار ” الثورة ” السورية من هبوط وإنكسارات وتواطؤ..
١ – تشير المأساة أولا إلى طبيعة النظام ” الحاكم ” في سورية العربية وفحواه الإجرامية فها هو يدعي حرصه على سورية وتصديه لمؤامرة ” كونية ” عليها دون أن يمتلك أية رغبة في إعادة هؤلاء المنكوبين المشردين إلى ديارهم..علما أنه هو وحلفاؤه وأدواته من هجروهم بعد أن دمرت طائراته بيوتهم وقراهم ..وأبسط تفكير لديه مشبع بروح الإنتقام من هؤلاء فيما هم يفضلون البقاء في العراء والخيام هربا ليس من بطش النظام وإرهابه فقط بل حرصا على كرامتهم التي طالما إفتقدوها وهدرها نظام حكمهم منذ عقود..
وهذه مأساة لجزء كبير من شعب سوري تشهد على عدم شرعية نظامها أقله بفقدانه المقدرة على حماية مواطنيه ولعل نظريته عن ” سورية المفيدة ” تفسر بوضوح رغبته تلك في التخلص من أكبر عدد من أبناء الوطن الذي يحكمه بفظاعة الإجرام وهول التعذيب أو القتل بالتعذيب..
٢ – تتفتق المأساة عن واقع مرير أصاب المؤسسات التي تبلورت في أعقاب إندلاع إنتفاضة الشعب السوري ضد نظام التبعية والقهر والفساد ؛ مؤسسات كان ينبغي أن تكون تعبيرا عن الشعب المنتفض وقيادة لمسارات حركته حتى تحقيق أهدافه ؛ فإذا هي تفقد وبسرعة شرعيتها الوطنية والشعبية ؛ فتصبح تجمعا للأفاقين والإنتهازيين والمرتزقة يبيعون أهداف الشعب وتضحياته بالمناصب والمكاسب والوجاهات الحزبية او الفردية تلقى إليهم من هذا النظام أو ذاك فيتهافتون عليها ليصبحوا أدوات تحبط الشعب وتخيب آماله وتسرق إمكانياته وتبيع تضحياته..ها هو ألإئتلاف مثلا يتفرج على مأساة شعبه في المخيمات فيما جل أعضائه يسرقون ما يقدم من هنا وهناك لمساعدة النازحين المنكوبين..فيصبح ليس فقط عاجزا عن المسؤولية بل متواطئا على شعبه وأهله وناسه..فيفقد بذلك كل شرعية فإستوجبت إزاحته ومحاسبته وبلورة بديل عنه ، وطني حر شريف..
٣ – تطرح المأساة على بساط البحث والتنقيب مجددا عن إمكانيات عربية هائلة مادية وبشرية وطبيعية تصرف أو ينفق غالبها فيما لا ينفع أحدا أو يبني وطنا أو يحمي شعبا ؛ فيما ملايين من أبناء العرب مشردون أو يعيشون في أسوأ ظروف حياتية بدائية ..كيف يعيش السلاطين وأصحاب المال والقوة والنفوذ خلف جدران مرتفعة من العزلة بل والإنعزال عما يجري في طول بلادهم العربية وعرضها وهم يعلمون ويدركون معاني وحدة المصير العربي وتكامل ألامن النفسي والإجتماعي بين أقطاره كافة !!!…
كيف لهم النظر الى ما يعيشه أؤلئك المنكوبون وما في نظراتهم وأفئدتهم من رغبة جامحة في الثورة والإنتقام ؟؟
أليس مهينا إلى أعلى درجات الهوان أن يتمتع عربي بما يحرمه على أبناء قومه وشعبه ؟؟
٤ – تثور مسألة مصير أموال المساعدات الضخمة التي قدمتها وتقدمها جهات كثيرة عربية ودولية للدول التي تستقبل أعدادا من المهجرين السوريين : كيف صرفت ولماذا لم تستخدم لحماية فعلية لحياتهم أو توفير حد مقبول من أسباب السكن الآمن على أقل تقدير ؟؟..
الأرقام تقول أن عشرات المليارات قدمتها جهات عربية ودولية إلى حكومات لبنان والأردن وتركيا مخصصة لساكني المخيمات من السوريين وأبنائهم..وتقول الأرقام أيضا أن القسم الأكبر من هذه المساعدات يسرقها ويتقاسمها مسؤولون ووزراء في تلك الدول بالتواطؤ ربما مع الجهات المانحة والمؤسسات الإغاثية..ولعل فضيحة وزارة التربية في لبنان يوم أن كان وزيرها إلياس أبو صعب زوج الفنانة جوليا بطرس والمنتمي إلى تيار الرئيس ميشال عون ..حيث إختفت عدة مئات الملايين من الدولارات كانت مخصصة لتعليم أبناء المخيمات في المدارس الرسمية اللبنانية..
٥ – تشير المأساة إلى واقع دولي عالمي مختل فاقد للأهلية الإنسانية والأخلاقية..وليس هذا جديدا أو غريبا على النظام العالمي المجرم الفاسد..ها هو في سبيل مكاسب مادية له في سورية ، مستعد لتهجير او قتل ملايين السوريين حيث مصالحه فوق أي إعتبار من أي نوع ..وفوق أية حقوق تاريخية ووطنية وحياتية لشعب بكامله ..النظام العالمي الفاسد المجرم إياه يحرك أدواته المحلية الكثيرة وقواته المحتلة المتعددة ليطرد ملايين السوريين من ديارهم : لتقليل أية أعباء أو تحديات بشرية تشكلها مستقبلا أية كثافة سكانية على أمن قاعدته الإستعمارية في فلسطين المحتلة وضمان تفوقها وسيطرتها..فهو لذلك يبقي النظام المرتهن واجهة لتمرير إحتلاله وتبرير سيطرته وتحقيق أهدافه العدوانية الخبيثة..
٦ – تدلل المأساة على حقيقة مشاريع التغيير الديمغرافي – السكاني التي يشهدها المشرق العربي عموما ولا سيما دول الطوق العربي المحيط بفلسطين المحتلة..فما يجري في العراق منذ سقوط نظامه الوطني وإحتلاله الأمريكي – الفارسي المشترك وما تلاه في سورية من تهجير ملايين البشر من السكان ألأصليين وتدمير عشرات المدن والقرى والحواضر العربية المسلمة تحديدا ؛ يبين بوضوح سعي القوى الإقليمية والدولية وأدواتها المحلية لتهجير أكبر عدد ممكن من هؤلاء العرب المسلمين الذين يشكلون اللحمة الجامعة الرابطة لكل بنيان المجتمع العربي ؛ بما يساعد في إستقرار سيطرتهم على البلاد ومواردها ومقدراتها أطول زمن ممكن..
ولعل ما تمارسه ميليشيات إيران في كل من العراق وسورية ما يفيد في معرفة إتجاهاتها الإستيطانية في المشرق العربي ؛ ودوافعها العدوانية الحاقدة الطامعة..
٧ – في مأساة المخيمات تتجلى مأساة العروبة اليتيمة المستهدفة ..مشاهد البؤس والشقاء تختزل رغبات كل القوى الفاعلة المعادية للعروبة وحربها المتصاعدة على هوية المنطقة ووجودها القومي..
كأنها تقول وتعلن : هكذا مصيركم وهكذا ينبغي أن يكون وإن كنتم أبناء الأمة وشعبها وناسها..ليس لكم مكان على هذه الأرض..فلن تتكلم العربية أرضكم بعد اليوم..
أبناء الأرض الحاملون هويتها الحامون لتراثها وتاريخها وحضارتها يهجرون ويستبدلون بمأجورين حاقدين مستقدمين من بقاع شتى بغية نسف هوية الأرض والشعب والوطن..
٨ – في جزء من قساوة مشاهد الخيم الممزقة وسكانها الغارقين في الوحول : ألا يتحمل العقل المادي النفعي المصلحي الذي تشيعه وتعممه العولمة المادية الرأسمالية وتحرض الناس جميعا عليه ؛
ألا ينحمل جانبا من مسؤولية اللامبالاة الإنسانية العامة حيال تلك المأساة – النكبة ؟؟
٩ – أليس الإيمان الديني وحس الإنتماء الوطني والإلتزام الأخلاقي هو ما يدفع عشرات آلاف المواطنين من السوريين والعرب بمختلف أقطارهم إلى تقديم مساعدات شخصية وعائلية مباشرة الى أؤلئك المنكوبين بما يخفف عنهم جزءا يسيرا جدا من معاناتهم وبؤسهم وقهرهم الأكبر من أية إمكانيات فردية أو تعاونية بسيطة ؟؟
ألا تعبر تلك المساعدات وأغلبها يتم دون إعلام أو إعلان؛ عن أصالة الشعور بالإنتماء الوطني والعربي والإنساني؛ فيما جهات كثيرة تستخدم إعلاما كثيفا لتوظيف تلك المأساة بإتجاه إنكار العروبة وشتيمة العرب وتحميل الهوية مسؤولية تقصير أصحاب النفوذ؟؟
١٠ – هذه مناسبة لتأجيج الضمائر وتعميق التضامن الوطني والعربي والإنساني مع المنكوبين في سورية والعراق وأي بلد عربي ؛ وتوسيع نطاق التضامن الشعبي العربي وتعميمه إنطلاقا من الفعل الإنساني والإلتزام الأخلاقي وصولا إلى تفعيل كل أنواع التضامن والتكامل بين القوى والطاقات الشعبية العربية وإطلاقها من خلال مؤسسات منظمة فاعلة مستمرة ؛ حتى لا تصبح المطالبة بحق عودة اللاجئين جزء من التغريبة السورية المأساوية.