حازم نهار
تمرّ بعد غدٍ (الثلاثاء) الذكرى الثلاثون لرحيل إلياس مرقص (1929-1991)، المفكر والفيلسوف الكوني، العربي، السوري، ابن مدينة اللاذقية، الذي ترك مؤلفاتٍ عدة، وترجماتٍ قيّمة، استطاع من خلالها تسليط الضوء على واقعنا وتحولاته، ونقد الأفكار والتيارات السائدة بقوة، هذا النقد الذي كان يراه الطريق الأهم لإخراجنا من كهوفنا، ووضعنا في سياق الحياة والعصر والحداثة.
ليس لمقالة، بالطبع، أن تحوط بكتابات مرقص، ولا لدراسات أو كتب أن تفعل ذلك، بحكم تعدّد الميادين التي خاض فيها مفكرًا وناقدًا، وتشعب اهتماماته التي طالت لحظات وحوادث سياسية بعينها، وتلك التي تناولت الفكر السياسي العربي، فضلًا عن كتاباته في مجال الفلسفة ونظرية المعرفة.
ليست غاية المقالة هذه تمجيد إلياس مرقص، وإن كان هذا أمرًا مهمًا في سياق تقدير وتكريم أولئك الذين كان لهم فضل بارز في الفكر والسياسة. لكن المقالة، في خلفيتها، شكل من أشكال الوفاء لشخص لم يلقَ التقدير الذي يستحق في حياته، ولا بعد رحيله، وهذا ربما يعود إلى أنه سبق عصره فعلًا، ومن يفعل ذلك سيلقى، غالبًا، النكران والتجاهل. تتوخى المقالة بصورة أساسية التحريض على قراءة مرقص، فآثاره وتركته الفكرية ما زالت راهنة بقوة في عالمنا بعد مرور ربع قرن على رحيله، والواقع اليوم يشكل دليلًا قاطعًا على استمرار حاجة مجتمعنا إلى آثاره وإنجازاته الفكرية، لتشكل رافعات حقيقية وجدية لمواجهة التحديات التي ما تزال تَحُول بيننا وبين تحديث دولنا ومجتمعاتنا.
في رأيي، يكفي أن نقارن كتابات إلياس مرقص بكتابات كثير ممن أطلق عليهم لقب “الفيلسوف”، لنجد مسافات ضوئية تفصله عنهم، أهمها طريقة استخدامه اللغة، حيث الدقة في كتاباته يقابلها الحشو ورصف الكلام من دون مسؤولية عند غيره. كان إلياس مولعًا بدقة استخدام المفاهيم والكلمات، كونها تؤسس لمنهج تفكير وممارسة سياسية في آن معًا، ومولعًا أيضًا بالإمساك بجذور القضايا قيد الدراسة، ونحت المفردات الملائمة لمقاربة الإشكالات المختلفة.
مع إلياس، ارتقت الكتابة الفلسفية العربية، ارتقاء نوعيًا، نقلها من مستوى التعريف بالتيارات الفلسفية في العالم وشرحها وتحفيظها، المستوى الذي ينحشر فيه الأكاديميون وأساتذة الجامعات العربية عادة، إلى مستوى الدخول في عراك حقيقي، من موقع الند، مع تيارات الفكر الإنساني، وشاركه في هذا عبد الله العروي وياسين الحافظ ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون أيضًا، وكان لهذا أثر كبير في تعميم المعرفة الفلسفية، ويكمن السر في هذا في كونهم مهمومين بالإنسان والمجتمع والوطن قبل أي شيء آخر.
لم يسعَ مرقص لبناء فلسفة مجردة ومتعالية، ولم يتجه، فلسفيًا، إلى الانشغال بالقضايا التقليدية التي تشغل “الفلاسفة” تاريخيًا. لقد كان محور اهتمامه الأساس هو التاريخ، ووظف فلسفته لتعميق الوعي السياسي العربي، محاولًا تأسيسه على أرضية نظرية صلبة، تُمَكِّنُه من فهم مجرى التاريخ وسيرورة التغيرات العالمية. لم تتشكَّل الماركسية في نصوصه بوصفها معتقدًا مغلقًا، فقد دفعته الهموم السياسية لجعل فلسفته قادرة على معرفة مقتضيات ومتطلبات اللحظة العربية. اشتغل في الفلسفة والفكر وربطهما بأسئلة الحاضر العربي، ففي نصوصه الفلسفية، نلمس حرارة معاناته واهتمامه الشديد، ولذلك لا يقارب الإشكالات الفكرية التي تدخل في دائرة اهتمامه بالبحث فيها من الخارج، بل يسعى لبنائها بروحية المهموم، والمنشغل بها، ما ينعكس في تعابيره ومفرداته وجمله فائقة الدقة والحميمية.
بنى مرقص خياراته الفلسفية بوضوح وعمق، مناهضًا النزعات الوضعية والعلموية، ناقدًا النزعات الاقتصادوية، والرؤى القاصرة التي حولت الفلسفة الماركسية إلى مقولات وشعارات. واهتم بقضايا العقل والعقلانية، مُستعينًا بروح الماركسية ومنهجيتها، ومتجاوزًا كثيرًا من شواهدها النصية ذات الطابع المرحلي، مؤمنًا بمحدودية المُعتقد ورحابة الفلسفة، رافضًا نَصِّية العقيدة، وقابلًا بنقدية الفلسفة.
واجه مرقص النزعات الوثوقية كلها، وكل نزعة عقائدية، ولذلك نقد الستالينية وأشباهها، ورفض مبدأ نسخ النماذج، مبدأ وثنية النماذج أكانت سياسية أم معرفية، ففي الفكر تظل المعارك مفتوحة، والأسئلة مطروحة باستمرار، تشبث بالروح النقدية، جذر كل فلسفة حية، وقد شكل هاجس النقد واحدًا من أهم هواجسه في الفكر، وفي التعامل مع القضايا النظرية والواقعية، وأصر على الروح النقدية للماركسية، بعيدًا من نصوصها المرتبطة بمعطيات تاريخية معينة عند كتابتها، ولذلك نقد الماركسيين العرب وتفكيرهم القطعي والنصي، وتماهيهم الأعمى مع تاريخ مغاير، نسخوه من دون الانتباه إلى الاختلافات والتمايزات التاريخية الموضوعية.
انخرط إلياس نقديًا في الصراعات والسجالات الفكرية السياسية التي ميزت عصره، وفي مواجهة معضلات الفكر والواقع العربيين، وظهر كثيرًا الطابع الحواري والسجالي في عمله الفلسفي والفكري، بمحاوراته البارعة للنزعات الفكرية السائدة. واليوم نستطيع أن نكتشف ببساطة أن كثيرًا من السجالات تلك ما زال حاضرًا بقوة، ونكتشف قدراته وبعد نظره وحكمته في تناولها في ظل التحولات التي طالت المنطقة، كما اهتم بالتنوير والأنوار وما يرتبط بهما من مواقف، متوخيًا تقليص هيمنة المقدس على نظرتنا إلى الحياة والمجتمع والتاريخ.
سعى إلياس مرقص لتبيئة المفاهيم الحديثة في الواقع العربي، مواجهًا أنماط الفكر التقليدي بجميع أشكالها، القومية والإسلامية واليسارية، بعيدًا من الصنمية والأفكار الجاهزة والمعلبة، وكان مغرمًا بإعادة التفكير والنظر باستمرار، مؤمنًا بالحقيقة والإنسان أولًا، قبل أي شيء آخر.
كان إلياس مرقص ينفر من العمل السياسي الأعمى، ولم يكتفِ بالتنظير من بُعد، بل دافع عن ضرورة الجمع بين السياسة والفكر، وعلى الرغم من صعوبات الجمع بينهما، فقد تمكَّن من تقديم صيغة من صيغ الجمع الممكنة بينهما، صيغة اتسمت بدفاعها المتواصل عن الحوار مع التيارات الفكرية السياسية السائدة، وهو ما قدم إضافات نوعية في باب تطوير النظرية والممارسة، في فكرنا المعاصر. يُضاف إلى ذلك، أنه لم يكتف بتأليف عشَرات الكتب، وترجمة عشرات غيرها من الفرنسية إلى العربية، بل انخرط فعليًا في بناء مؤسسات ثقافية عربية، وإصدار مجلات رفيعة، مثل مجلة (الواقع)، وساهم في تحرير مجلات أخرى مثل مجلة (الوحدة). واشترك مع ياسين الحافظ في تأسيس (دار الحقيقة) في بيروت.
على الرغم من غياب إلياس مرقص من المشهد السياسي الثقافي، إلا أن ما حدث خلال الثلاثين عامًا الماضية في المنطقة العربية، بعد رحيله، يدفعنا حقًا إلى الاقتراب منه أكثر، والانتباه إلى راهنيته، والبناء على ما أنجزه، خصوصًا لجهة مواصلة الجهد الذي بذله في الدفاع عن الفلسفة والعقلانية والتفكير النقدي والتنوير.
المصدر: المدن