مراد عبد الجليل
في تمام الساعة الخامسة والنصف من مساء يوم 24 من يناير/ كانون الثاني عام 1965 والموافق لـ 22 من رمضان، قطعت إذاعة دمشق بثها، وأذاعت موسيقى عسكرية قبل أن تتبع ذلك بسلسلة من البيانات التي تتعلق بالأحداث التي جرت في حي الميدان الدمشقي، لكن هذه البيانات وما جاء فيها من أخبار كانت من وجهة نظر النظام البعثي آنذاك.
قبل 56 عاماً شهد الحي الدمشقي لأول مرة اجتياحاً عسكرياً من قبل القوات المسلحة التابعة لنظام البعث، الذي كان رئيس هيئة الأركان صلاح جديد والرئيس أمين الحافظ يعتبران أهم أقطابه، بعد اضراب عام لتجار دمشق رداً على قرارات التأميم الجديدة التي طالت 108 شركات صناعية.
هروب من الفضيحة لافتعال معركة داخلية
وسبق قرارات التأميم، إلقاء القبض على الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الأمر الذي أثار فضيحة كبرى لنظام البعث في سوريا بسبب أهمية الصلات التي أقامها كوهين مع كبار ضباط ومسؤولي هذا النظام، وأدى ذلك بالصحافة العربية لتوجيه اتهامات للنظام، ما دفع مسؤوليه للبحث عن منفذ، فقرر صلاح جديد افتعال معركة مع الرأسماليين والرجعيين في الداخل لصرف النظر عن الفضيحة، وكان ذلك عبر إصدار سلسلة من قرارات التأميم.
وبدأت السلطات بتطبيق القرارات، الأمر الذي أدى إلى غضب واسع من أهالي الشام وبدأ العلماء وخطباء المساجد بالوقوف في وجه قرارات التأميم وانتقاد النظام الاشتراكي الذي دعا إليه “حزب البعث”، وفي مقدمتهم الشيخ الميداني حسن حبنكة، الذي اجتمع إلى جانب العلماء عبد الرزاق الحمصي ومحمد كريم راجح والشيخ ياسين العدوي والأستاذ المحامي الداعية محمد بن كمال الخطيب، مع أمين الحافظ.
وبحسب كتاب “الوالد الداعية المربي: الشيخ حسن حبنَّكة الميداني، قصة عالم مجاهد حكيم شجاع” فإن حديثا قويا دار بين حبنكة والحافظ الذي هدد بأن “خطابات المشايخ هي تحريض ضد الدولة ولن يسكت عنها”.
من جهته قال حبنكة لأمين الحافظ “إما أن تشنقونا في المرجة، أو تحبسونا في المزة، أو تسمحوا لنا أن نتكلم بما نريد”، كما رد حبنكة على دفاع الحافظ عن قرارات التأميم وبأنها “لصالح العامل والفلاح والفقير بالقول “أنت ظلمت (أمين الحافظ) الفقير والمسكين وذوي الأسهم الضعيفة، وهم يأتون إلى بيتي ويرجون مني المساعدة”، مؤكداً “سأتكلم عن الجهاد وأحارب الطغيان، شرفوا واسمعوا وأرسلوا من يسمع”.
وعقب ذلك، وفي تاريخ 28 من كانون الثاني 1965، صدر مرسوم تشريعي جاء فيه “يعزل من وظيفته في الخطابة في مديرية أوقاف دمشق كل من السادة الخطباء الآتية أسماؤهم، حسن حبنكة وصادق حبنكة وعبد الرحمن حبنكة ومصطفى التركماني وكريم راجح”.
اقتحام الحي الدمشقي
وفي 24 من يناير/ كانون الثاني، بدأ التجار في دمشق إضراباً استمر ثلاثة أيام احتجاجاً على قرارات التأميم، رغم حملة التهديد والوعيد إلا أن ذلك لم يثنِ أهالي دمشق عن استمرار حركة الاحتجاج، وخاصة مع دخول حي الميدان الدمشقي على خط الإضراب، وما رافقه ذلك من هجوم مسلح عليه من قبل القوات المسلحة التابعة للنظام البعثي، بحسب ما ذكرت صحيفة “الأهرام” المصرية في عددها الصادر في تاريخ 26 من كانون الثاني 1965.
وقالت الصحيفة إن “قرارات عرفية جديدة صدرت مع ازدياد حركة الإضراب وإغلاق المتاجر أبوابها لليوم الثاني.. اعتقالات أخرى بعد أن هاجمت القوات المسلحة حي الميدان في دمشق لإزالة المتاريس التي أقامها السكان”.
ونقلت الصحيفة عن وكالة “أسوشيتد برس” قولها بأن “حركة الإضراب التي بدأت صباح الأحد (24 من كانون الثاني) وصاحبها مظاهرة في مسجد الأموي الكبير، تطورت إلى إضراب شمل معظم المتاجر التي أغلقت أبوابها في الأسواق المشهورة، سوق الحميدية والسوق القديم في حي الميدان، ولم يفتح في أنحاء دمشق أمس سوى متجر واحد من بين كل عشرة متاجر، بينما كانت القوات المسلحة تتولى حراسة مخازن ومحلات التجار الذين تم اعتقالهم”.
وذكرت الوكالة أن “سكان حي الميدان أقاموا حواجز ومتاريس من براميل الزيت وعربات النقل، كما وضعوا الأحجار في الطرق لمنع الدخول إلى الحي، حتى أنهم أحرقوا عربة نقل حاولت اختراق المتاريس، وهاجم الجنود الحي وهم مسلحون بالبنادق والأسلحة الأتوماتيكية حيث رفعوا الحواجز، ثم ألقوا القبض على عدد من سكان المنطقة التي تعد في نظر البعض معقلا لمعارضي الحكومة”.
وفي نفس اليوم أصدر النظام البعثي في الساعة الخامسة والنصف، وعبر إذاعة دمشق، بياناً جاء فيه: إن “محاولة جرت في دمشق للتحريض على الإضراب وإنها كانت بهدف عرقلة تنفيذ قوانين التأميم، وجرت في سوق الحميدية الذي يضم أكبر الأسواق التجارية في العاصمة دمشق، وإن القائمين بالمحاولة اعتقلوا جميعا وأحيلوا إلى المحكمة العسكرية الاستثنائية التي شكلت في الأسبوع الماضي”.
أمين الحافظ: سنقطع الرؤوس
وفي اليوم الثالث من الإضراب اعترفت السلطات البعثية ببعض ما جرى في دمشق وخاصة حي الميدان، وتحدث أمين الحافظ عن وقوع معارك.
وهدد الحافظ في خطابه، الذي وصفته صحيفة “الأهرام” بأنه “أعنف خطاب له”، بقطع الرؤوس، قائلاً “سنسحق رؤوسهم وسنقتلهم باسم الشعب”، مضيفاً أن “المتآمرين لابد أن يحاسبوا على تآمرهم وسوف تسمعون قريباً الكثير من أسماء هؤلاء الجبناء”.
واستمر النظام بمصادرة مخازن وشركات وصل عددها إلى 69 مخزناً و11 شركة صناعية في دمشق، كما أرسلت السلطات البعثية ميليشيا “الحرس القومي” لتحطيم المتاجر بالمطارق في دمشق لإنهاء الاضطراب بالقوة.
كما أصدرت المحاكم الاستثنائية التابعة للنظام البعثي في دمشق أحكاما بالإعدام رميا بالرصاص على عدد من تجار دمشق بينهم إبراهيم أرناؤوط الذي زعمت أنه اعترف بقيامه مع متهمين آخرين بتشكيل منظمة “التحرير الوطنية” لقلب الحكومة وقتل أمين الحافظ وصلاح جديد.
واستكمالا لسيناريو المؤامرة، أضاف الإعلام البعثي أن الأسلحة التي كانت تنوي المنظمة الحصول عليها، كان من المقرر شراؤها بمساعدة التجار في لبنان والعراق.
كما أصدر نظام البعث الأمر العرفي رقم 4 الذي كان يقضي بإحالة كل من يغلق محله “دون مبرر قانوني” للمحكمة العسكرية ومصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة، ما أدى إلى مصادرة محلات وإحالة أصحابها إلى المحكمة الاستثنائية، وهو ما أكدته صحيفة “البعث” التابعة للنظام حينها عندما عنونت بـ”مصادرة أموال المخربين والمحرضين والعملاء”.
المصدر: أورينت نت