جوزيف جوفي
هامبورغ – في الواقع، لا يتعلق “نورد ستريم 2″، وهو مشروع خط أنابيب الغاز شبه المُكتمل الذي يهدف إلى نقل الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا، بتأمين الغاز الطبيعي الرخيص بقدر ما يُركز على المكاسب الشخصية والمصالح الوطنية لهذين البلدين.
لقد حرّض بناء مشروع خط الأنابيب عبر بحر البلطيق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد ألمانيا، فضلاً عن مُعارضة المستشارة أنجيلا ميركل من قبل مجموعة كبيرة من النُقاد المحليين. إذا كان الأمر يتعلق فقط بجزيئات الغاز، فربما لم يكن المشروع لينطلق من الأساس. لذلك، ما سبب إكمال المشروع؟
دعونا نعود إلى عام 2005، حين قام غيرهارد شرودر والرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإبرام هذه الصفقة قبل تنحي شرودر عن منصبه كمستشار. بعد وقت قصير من تولي ميركل السلطة، قامت شركة الطاقة الروسية العملاقة غازبروم، وهي شركة تابعة للكرملين، بتعيين شرودر رئيسًا للجنة المساهمين للشركة المستثمرة لأنبوب الغاز “نورد ستريم”. في عام 2016، أصبح شرودر رئيس مجلس إدارة شركة خط أنابيب الغاز الروسي “نورد ستريم 2″، وشركة غازبروم المُساهم الوحيد.
منذ ذلك الحين، أصبح شرودر رجل بوتين الذي لا يعرف الكلل. فهو لم يتوقف أبدًا عن تبرير موقفه وتكرار قول: “لقد فعلتُ ذلك من أجل مصلحة ألمانيا، لأنها أدخلت أمن الطاقة بأسعار مُناسبة”.
في الواقع، لا تحتاج ألمانيا وأوروبا الغربية إلى خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2”. فقد انخفض سعر النفط بأكثر من النصف منذ أن بلغ ذروته في عام 2008. ومع بدء تشغيل المزيد من حقول الغاز الجديدة، خاصة في البحر الأبيض المتوسط، ناهيك عن أمريكا الشمالية، انخفض سعر الغاز بنحو 80 ٪ خلال هذه الفترة. كما أنه من غير المحتمل أن تكون وفرة الغاز مؤقتة، بالنظر إلى زيادة مصادر الطاقة المتجددة في الأسواق.
يتم بالفعل توزيع حوالي 250 مليار متر مكعب (م 3) من الغاز من روسيا إلى أوروبا عبر 13 خطوط أنابيب. من شأن “نورد ستريم 2” أن يزيد من الاعتماد على روسيا، لكن هناك الكثير على المحك، حيث ينقل خط الأنابيب الغاز الروسي إلى ألمانيا مُباشرة بمنأى عن أوكرانيا وبولندا. بالنسبة لبوتين، تنتمي أوكرانيا، باعتبارها جمهورية سوفيتية سابقة، بصفة قانونية إلى ‘رودينا ‘الوطن الأم، وقد استولى بالفعل على منطقتي شبه جزيرة القرم ودونباس. وعلى نحو مماثل، يعتقد أن بولندا، التي كانت عبارة عن ولاية روسية سابقاً، يجب أن تكون جزءًا من مجال النفوذ الروسي.
يُمكّن مشروع “نورد ستريم 2” بوتين من إضعاف كلا البلدين من خلال حرمانهما من رسوم العبور وكسر قبضة أوكرانيا. في عام 2020، تلقّت أوكرانيا نحو 3 مليارات دولار من رسوم نقل حوالي 50 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي. يمكن أن يضخ “نورد ستريم 2” نفس الكمية تقريبًا من الغاز – وهي مُصادفة مُرتبة. من شأن عمل شرودر في شركة غازبروم أن يسمح لبوتين بالضغط على أوكرانيا (وبولندا)، في وقت تحاول فيه الحكومة في كييف بشدة مقاومة الضغوط الروسية على اقتصاد أوكرانيا الضعيف بالفعل.
لم يكن شرودر يفكر حقًا في ألمانيا أو أوروبا عندما أقنع صديقه بوتين برفع معاشه المُتواضع البالغ 93 ألف يورو (113 ألف دولار) سنويًا أثناء عمله كمستشار. إن اللغز الحقيقي هو ميركل. عندما نصحها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بالتوقف عن شراء الغاز من بوتين، لم تسمع نصيحته وأصرّت على موقفها. وقد تعهد مسؤول ألماني لم يذكر اسمه قائلاً: “سنفعل كل ما يلزم لإكمال مشروع خط الأنابيب هذا”.
من المفترض أن إمدادات الطاقة ليست على قمة أولويات ميركل. لا يتعلق الأمر “بالسياسات الدنيا” في مجال الغاز والنقد، بل “بالسياسات العليا” للدول التي تسعى إلى الحصول على السلطة والمكانة. بغض النظر عن العلاقات المُتوترة بين الألمان والروس، فإن الاستجابة تعكس دائمًا نظريات بسمارك، الذي قال للبلد على الملأ: “لا تقطعوا الصلة أبدًا مع سانت بطرسبرغ”. بعبارة أخرى، حافظوا على السلام مع العملاق على الجانب الشرقي لألمانيا.
على الرغم من دعمها من قبل الناتو، إلا أن الجمهورية الفيدرالية كانت مُلتزمة بنهج بسمارك من خلال ممارسة الاسترضاء، أو على الأقل عن طريق إبداء الحيادية. مع شعورها العميق بالمسؤولية، لا تتشبث ميركل بمشروع الغاز الروسي، بل تتمسك بقاعدة كلاسيكية للدبلوماسية الألمانية.
حتى خلال الحرب الباردة، تحدّت ألمانيا الغربية ثلاثة رؤساء أمريكيين – نيكسون، وكارتر، وريغان – من خلال مقايضة الأنابيب الفولاذية بالطاقة السوفيتية. ومع ذلك، ما كان يمكن أن يكون منطقيًا من الناحية الاقتصادية خلال أزمات النفط العالمية في السبعينيات لا يعكس اليوم سوى تحذير بسمارك حينما قال: لا تُثيروا غضب الروس.
ومع ذلك، تعمل ميركل اليوم على بدء مرحلة جديدة، ليس فقط بسبب زيادة العرض وتراجع الطلب مع تحول العالم الصناعي إلى الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والكفاءات العالية. وعلى نحو مفاجئ، وجدت ميركل نفسها وحيدة في مواجهة ضغوط متزايدة لإعادة النظر في مشروع خط أنابيب نورد ستريم 2. فضلاً عن الولايات المتحدة، وبريطانيا، ودول شرق أوروبا، أعرب الفرنسيون أيضًا عن رغبتهم في وقف مشروع “نورد ستريم 2” بشكل نهائي.
وبفضل اعتمادها على الطاقة النووية، لا تحتاج فرنسا إلى الغاز الروسي. إنها تشعر بقلق أكبر إزاء “علاقاتها الخاصة” مع ألمانيا ودعم روسيا المُستمر لأوروبا. هذا الشهر فقط، هدد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بقطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي إذا ما قرّر فرض عقوبات جديدة.
بالإضافة إلى ذلك، تُواجه ميركل رياحًا مُعاكسة غير مسبوقة في منطقتها. حتى أصدقاءها البارزين في الحزب المسيحي الديمقراطي الذي ترأسه وأعضاء حزب الخضر المُسالمين انقلبوا ضد بوتين. شأنهم في ذلك شأن بعض وسائل الإعلام الليبرالية، والتي عادة ما تُركز على أمريكا الإمبراطورية.
ما السبب؟ تتلخص الإجابة في كلمتين: أليكسي نافالني. في مواجهة أخطر منافسيه حتى الآن، بالغ بوتين في استخدام نفوذه. فقد أدت محاولة الكرملين قتل نافالني، والحكم عليه بالسجن لسنوات، إلى إثارة قلق الطبقة السياسية في ألمانيا. في الديمقراطيات، يتفوق النفور الأخلاقي على السياسات الواقعية على غرار السياسة التي تنتهجها ميركل.
لقد نجحت ميركل عن طريق المناورة في دفع ألمانيا نحو العزلة. لكن الرهان الذكي هو إكمال بناء خط الأنابيب “نورد ستريم 2”. في حين أصبح تحقيق هذا الهدف على بعد 100 ميل فقط، فإنه يتحدى الخيال للاعتقاد بأن مشروعًا بقيمة 10 مليارات يورو سيتم دفنه تحت رمال البلطيق. في النهاية، لن يتحدى الألمان الروس، وسيتعامل الرئيس الأمريكي جو بايدن مع ألمانيا بشكل أسهل وأقل تعقيدًا مما فعل ترامب.
لقد بدأت بالفعل المُناورات لعقد الصَّفقات. تُحاول ألمانيا جاهدة إقناع بايدن، حيث وعدت برفع الدعم المالي من أجل بناء محطات الغاز الطبيعي الألمانية التي ستستقبل شحنات الغاز الطبيعي المسال الأمريكي. كما تعهدت ألمانيا بالعمل الجاد على وضع قواعد جديدة من شأنها ضمان استمرار نقل الغاز عبر أوكرانيا. ستحصل بولندا على أموال لمحطات الغاز الطبيعي المسال. يُجادل البعض أن ألمانيا قد تعمل على إلغاء مشروع “نورد ستريم 2” في حال انتهكت روسيا القانون الدولي وحقوق الإنسان. يتعين على الرئيس بايدن فقط فرض عقوبات جديدة ضد المشروع.
قد يتم التوصل إلى اتفاق في النهاية. ولكن من الذي “سيتفاوض” مع سوق الطاقة؟ قد تصدر محكمة العرض والطلب هذا الحكم النهائي: لا حاجة لخط أنابيب آخر. إذا حدث ذلك، فقد يتحلّل خط أنابيب “نورد ستريم 2” تحت بحر البلطيق – ما قد يجعل منه نصبًا تذكاريًا للجشع والحماقة.
* جوزيف جوفي هو زميل في معهد هوفر بجامعة ستانفورد، ويعمل في مجلس تحرير مجلة “Die Zeit” وأستاذ السياسة الدولية في كلية بول إتش نيتز للدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت.
المصدر: الغد الأردنية