محمد سعيد سلام
برزت إشارات عديدة ومتفرعة على جهود إقليمية تهدف إلى تحضير سوريين لاستخدامهم في العملية السياسية المرتقبة المتزامنة مع انتخابات المتوحشين، وجاءت هذه الجهود المؤرخة في نهاية الشهر الحادي عشر من سنة ٢٠٢٠ على ثلاثة أشكال : الدعوة إلى انتخابات بإشراف الأمم المتحدة، وتعليب أكبر قدر ممكن من البسطاء المتحمسين سياسيا والانتهازيين المولعين بأي موقع أو صفة وهمية ضمن ما أطلق عليه أصحابه ” مؤتمرات”، ثم توليف مجلس عسكري؛ وفي ظل غياب شبه كامل عن إجابات متوازنة ومنطقية لأسئلة كثيرة فإن ما تمخض عن هذه الأشكال كان أكثر من هزيل، وهو ما كان متوقعا، وقد حررت إضاءة سياسية بنهاية العام الفائت بعنوان : ” البدائل الهزيلة ” حول هذه الأشكال وإشكالاتها، وإن أقل المتابعين يدركون النتائج الحاصلة ويتوقعونها، فهي ليست بحاجة إلى كبير خبرة وعظيم تجربة .
وما يجدر إعلانه وتثبيته عند الحديث عن تصنيع هياكل جديدة هو أزمة الإقليمي الوظيفي وضحالته وافتقاده الهوامش السياسية الفعالة، فقد بلغ مرحلة من الهشاشة تجعله في مستوى متقارب جدا مع الأدوات السورية التي يصنعها .
وأحد أهم المفاتيح السياسية التي قدمتها الثورة السورية وأدخلتها إلى شبكة العلاقات أن الإقليمي جميعه لا يختلف كثيرا في قدرته على التحرك سياسيا عن السوريين، ولم يعد قادرا على أداء وظيفته بالمستوى ذاته السابق على الربيع العربي، وأعتقد بنسبة عالية من الجزم أن أغلب الشخصيات – وهم قلة أصلا – بحكم معرفتي المباشرة بهم وتجربتي السياسية المحيطة بهم، لا تسمح لهم بنيتهم بالإمساك بهذه المفاتيح لأن ثقلها السياسي يزيد كثيرا على أوزانهم، وهذا يساعدنا جدا على فهم الانسداد الحاصل وتفسيره ممن رهنوا أنفسهم للأجندات الخارجية – الذين ما زال بعض السوريين يراهنون عليهم – فيزيدون الانسداد انغلاقا، ومن أولى الخطوات السياسية المهمة وفق الرؤية المتبناة والمطروحة، التحرر من الأدوات ومشغليها، كيف يكون ذلك ؟ ومن سيصنعه ؟ برسمنا جميعا نحن المعنيين بالشأن السياسي المهني السيادي، ولا يمكن حصوله وترجمته قبل القناعة الراسخة به .
وفي السياق ذاته فإن من قوة الثورة السورية تحديدا من بين دول الربيع العربي أنها أكبر بكثير من ورقة سياسية يمكن لإقليمي ما منفردا أو متعددا أو مجتمعا أن يقايض عليها، كما يتداول ذلك بين الفينة والأخرى أدعياء السياسية، بل إن هؤلاء – الذين يظنهم بعضهم أنهم في موقع المقايضة – يغوصون غرقا وتيها في بحر الكرامة السورية لا يدرون كيف يتعاملون معها، وستتلاعب بهم أمواجها حتى تلفظهم إلى شواطئها جثثا هامدة لم ينالوا منفعة ولم يحصلوا مصلحة سوى تعرية مستوياتهم الوظيفية وزيادة مشكلاتهم الداخلية .
وإن عملية التعليب السياسي من قبلهم لم تتوقف منذ عشر سنوات، ولم يملوا منها، وفي كل مرة يستجيب لها السوريون الذين يدعون فهما سياسيا، ويتفاعلون معها، ويبنون عليها آمالا عظاما، ويروجون لها، ويرجون منها خطوة فارقة في إزاحة العصابة ناسين أو متناسين أن كل أولئك كانوا يرجون من العصابة إصلاحات شكلية، والانحناء أمام العاصفة – ثورتنا العظيمة – قليلا .
وتعتبر مساحة عملية التعليب السياسي جد ضيفة، وخياراتها السورية برأس الهرم قليلة للغاية، وجميع هذه الخيارات معروفة للسوريين، وأبطالها بأفضل حالاتهم لا يعدون كونهم أفرادا يختزن كل واحد منهم في أعماقه أنه القائد الفذ والقائد الضرورة والملهم والتاريخي والمنقذ، ويسعى كل جهاز مخابراتي لترجيح أحدهم على آخر باعتبار التناحرات والتنافرات الإقليمية، وبحسبان تجيير ما يختزن لصالحهم. وإذا قلنا إن فلانا منهم لا يملك مشروعا فإن ذلك تضخيم له، لأنه إن عزل عن مشغله الإقليمي فإن كثيرا من السوريين أجدر منه وأكفأ وأقدر على خدمة الشعب وتحقيق مطالبه، وأصل اختيارهم من قبل مشغليهم هو سلاستهم في تنفيذ الأجندات، وليس تميزهم في القدرة على رعاية مصالح السوريين، والشقة واسعة إلى أبعد حد بين الأمرين، إلا إذا أراد أحدنا أن ينسب القيمة الخلقية للمنظومات الحاكمة في تحركاتهم السياسية على حساب مصالحهم الوطنية !
وإن عزف الثلاثية الجديدة المنعقدة في قطر يوم الحادي عشر من هذا الشهر ليس عزفا جديدا يريد إنهاء مسلسل الإجرام او سيساعد الإرادة السورية الحرة، بل هو متناغم مع الرياض ” ١ ” و” ٢ ” والأستانة والسلال الأربع وسوتشي واللجنة الدستورية، ومع 2254 ومع تشكيل الهيكل الائتلافي، ويتناقض مع إرادة الشعب السوري، فلماذا نتصور بأن هذه الثلاثية مختلفة عن سابقاتها ؟! ولماذا لا نقول إنها تحمل في طياتها ما هو أكثر خللا مما مضى ؟
وعلى من يدعي خلاف ذلك أن يثبت ما يدعيه بالأدلة لا بالأماني والجمل المعسولة، فقد ادعى سابقون ونسبوا لثلاثيات ورباعيات سياسية ما يدعيه هو اليوم .
ومما يثير السخرية السياسية أن يشير – وفق تصريح بعضهم – مجرد لقاء إقليمي إلى قرب إسقاط العصابة وبداية مرحلة جديدة ! ولماذا تتم تنحية أدوارهم الوظيفية السابقة ومصالحهم ؟ سؤال يترك جوابه إن سئل أصلا، وماذا عن المؤشرات طيلة عشر سنوات سابقة والتطبيل والتهويل الذي مارسه أفراد هم بعينهم يمارسونه الآن .
أما الاحتكام إلى الواقعية كما يحلو لكثيرين، فإن الواقعية واقعيتان : واقعية الضعفاء الانهزامية والتسليم والإذعان للأجهزة الأمنية الإقليمية على شاكلة الخضوع لمخابرات العصابات الحاكمة؛ وواقعية الأقوياء العظماء الذين وقفوا في ساحات دمشق وريفها وسائر المدن والقرى السورية ليصنعوا تاريخهم متحدين أعتى عصابة تعرفها المنطقة ومزقوها إربا، وما بقاء أشلائها حتى حينه إلا بالمحتلين وجيوشهم وأساطيلهم وآلة بطشهم التي لم تدخر جريمة، ولم توفر رذيلة إلا ارتكبتها ضد الشعب السوري، ثم ألم تكن الثورة السورية حينما انطلقت متناقضة مع واقعية العصابة وأجهزتها القمعية المتشبثة بالسلطة ؟!
إن كل ثنائية أو ثلاثية أو رباعية أو أممية لا تضم فريقا سوريا سياديا قادرا على رفع صوته بإرادة شعبه، وينفق على نفسه من مال كريم لم يتدنس بأقبية المخابرات، فإنها اجتماعات ستجر الانتكاسات والارتكاسات السياسية على سورية والمنطقة بأكملها .
وإن نقطة البداية الصحيحة مهما كانت طويلة وأيا كانت درجة صعوبتها تتمركز حول الثلة التي تراهن على الشعب السوري قبل جميع الإقليمي والدولي، وتقدر تضحياته، وترسي قواعد سياسية لا لبس فيها من حيث إزاحة العصابة كليا ومحاسبتها على جرائمها بقضاء محلي، ولا تعترف بنفوذ أحد ولا بوصايته، ولا تسمح لأي جهة بما فيها الأمم المتحدة التدخل بدستورها أو سواه، وتكسر معادلة أن الحل السياسي بيد الإقليمي والدولي وأنهم يستطيعون أن يفرضوا علينا ما يشاؤون كما كسر الشعب السوري معادلة العصابة والحرس الثوري الإيراني ومليشياته الطائفية العابرة للحدود .
المصدر: رسالة بوست