مع إتمامها الذكرى السابعة لولادتها من رحم المستحيل، يصر كثيرون ممن أنكروها على إنكارهم وعلى نفيهم إمكانية انتصارها. وهاهم ينعون الثورة اليوم على وقع الحملة المسعورة، التي يشنها المحتل الروسي، والإيراني ومعهم زبانيتهم وأتباعهم، من شراذم النظام وعصابات المرتزقة على مدن الغوطة الشرقية. أخذ كثيرون منهم يعتصرون ذاكراتهم لاسترداد المفردات البالية، التي كانوا حفظوها أيام عهود الخنوع الأسود، كي يعيدوا تردادها ما اقتضتهم الذرائعية إلى ذلك، وهم يراهنون على وأدها القريب. كثيرون أيضاً أثنوا على ثباتهم على رمادية الضمائر تجاهها، مبررين أميتهم الأخلاقية هذه بمآلات الوقائع على الأرض. حتى النظام يشارك هؤلاء جميعاً نفس التوجه، في سعيه اليائس نحو إنهاء العمليات مع ذكرى ولادة الثورة، ليقضي على أي أثر لها عله يستعيد هيبته. لكن، نسي هؤلاء المهزومون أن الثورة لم ترتبط يوماً بالمساحة المحررة أو المحتلة من الأرض، بل هي ارتبطت منذ الانطلاقة، وما تزال، بالمساحة المحررة أو المحتلة من النفس والكرامة، وبالمساحات القابلة للتحرير من الضمير والفكر. ولذلك، عندما سقطت هذه الحقيقة من حساباتهم خابت مساعيهم وأسقط في أيديهم حيث هم.
حين تفتحت أولى ورود الثورة، لم يكن للبعد المكاني تلك الأهمية في معادلة الولادة. فالأولوية كانت، ولازالت، للإنسان ورغبته باعتناق مذهب الحرية، وللأنفس وقابليتها للانعتاق وكسر منظومة الأمر الواقع، التي أوجدها النظام على مدى خمسين سنة بقوة الحراب. لكن سورية، بمعظم جغرافيتها، عبرت خط المستحيل يومها واشتعلت حرية ودماء. ومع تقدم الثورة في الربيع ازداد تجذرها في نفوس المؤمنين بها، فصار انتصارها يقيناً لا يحده إطار زمني أو بُعد مكاني.
وحين شبَّ طوق الثورة، باتت الثورة ثقافة، وازدادت رسوخاً على مدار سبع سنوات من عمرها الربيعي في ضميرنا الجمعي؛ ثقافة تتردد في سلوكيات معتنقيها وأفكارهم وتنعكس في شكل العلاقات القائمة مع الآخر، والتي لا تملك الكثرة العددية دوراً مؤثراً في توازناتها. وتحول معها السوري الثائر إلى إنسان بمرتبة شرف، وهو يُثبت للعالم جدارته بالحياة وأحقيته في هذه الصفة، على الرغم من جراحاته، وأوجاعه، وتداعي هذا العالم الكاذب عليه وعلى ثورته الفريدة.
قد يسأل سائل: ماذا بقي من الثورة؟ وكم من السوريين لازالوا يذكرونها أو يؤمنون بها؟ ولعل هذا السائل يستشف أحقية سؤاله مما شهدته الأيام الأخيرة من قضم متزايد للأرض، وبعض تفاهمات على الخروج باتجاه الأتون الشمالي، وقبلها حالة الشتات التي يعيشها الشعب المهجر، أو اللاجئ في أركان المعمورة.
لقد حملت السنة التي مضت، أو تكاد، من عمر هذه الثورة الجميلة معادلة مّحيّرة: تناقص الجغرافيا، والثوار الحقيقيين، وازدياد في البطش، والتنكيل، وبيضة القبان فيها الثبات المعجز. لم يكن التغول في الفعل الإجرامي للنظام البائد، والمحتلين، ومرتزقتهم مجرد عملية تسارعية لإنهاء الوضع، الذي بدا وكأنه يسير نحو نهاياته المحتومة. بل كان عملية انتقام من روح المقاومة عند أتباع هذه الثورة، التي هددت مخططاتهم بالتعقيد، ولخساراتهم التي أودت بكبرهم. يكفي الثورة هذه الروح العنيدة التي بثّتها في أتباعها ليدرك العالم أنها تطورت، إلى حالة تورط في الحرية، حالة قدرية لا فكاك منها لكل من تذوق طعمها، واشتم ريحها وأخذ حصته منها.
وكما لم ترتبط الثورة بالجغرافيا، لم يرتبط انتصارها بالعدد. فالثورة بدأت كفعل فطري تطور، وتحول إلى ثقافة جامعة كما ذكرنا. لكن من يطرح هذه التساؤلات يتناسى، أو يتجاهل، حقيقة واضحة لا يمكن نكرانها، حقيقة تقول: مادام هناك من يعمل ويطور أدواته، ويكتب ويقاتل، ويرفض النزوح، يرفض التسليم، ويرفض الإملاءات فالثورة حية. ومادام هناك طفل لايزال يرسم علمها الأخضر في كراسته، وشاب يقول من خلال جراحه سننتصر، وعجوز يقول باقون على الرغم من الموت الداهم، فاليقين بها مقيم. ومادام هناك من لازال يخرج في مظاهرات في بلدان اللجوء، ويقيم فعّاليات، ويحتفل بذكرى انطلاقة الثورة، ويعمل على إبقاء جذوتها مستعرة ولو في نفسه هو فحسب، فالثورة مستمرة. ومادام أعداؤها يزدادون دموية، وجنوناً فلازالت الثورة تؤلمهم. وأيما ثورة تمتلك شروط الحياة، وعزيمة اليقين، وإمكانات الاستمرار، والقدرة على الإيلام، فهي منتصرة لا محالة.
إلى ثورتنا العظيمة، جميلتنا اليتيمة، وإلى ثوارنا الأحرار، وإلى شعبنا الصابر الحي: كل عام والثورة مستمرة حتى تحقيق النصر.