أرنست خوري
رجْمُ الثورة السورية بحجة نقد أخطائها و”من باب الحرص عليها”، كما يقولون، عُمره من عمر الثورة نفسها. ربما كان الأمر مفهوماً في الأيام الأولى. كانت الدنيا تعجّ بالانتفاضات والأمل، وباستعجال إسقاط حبّات عنقود الطغاة العرب. هروب زين العابدين بن علي كان لا يزال طازجاً في تونس، والأدرينالين في ذروته. إطاحة حسني مبارك لم يكن قد مرّ عليها أكثر من شهر. في اليمن، كانت الانتفاضة الشبابية واعدةً بخطابها وعنادها وسلميتها في أحد أكثر بلدان العالم ازدحاماً بكل أوزان السلاح. أما ليبيا، فكان معروفاً أن وصول البوارج والطائرات الغربية لوقف مجازر معمر القذافي مسألة وقت. في ظل هذه الظروف من طفرة الأمل، نزل الفدائيون الأوائل إلى شوارع دمشق مساء الثلاثاء 15 مارس/ آذار 2011، ثم كرّت السبحة. ومنذ اليوم الأول لتلك الحكاية، خرج متذاكون باكتشافٍ مبكّرٍ يفيد بأن خطباً ما يكمن في تلك الانتفاضة، بما أن معظم حشودها تخرج من المساجد بعد انتهاء الصلوات المسائية. من رحم ذلك الهجاء لما سُميت زوراً “انتفاضة المساجد”، وُلد الوسواس المرضي لنقد الثورة السورية قبل أن تكون ثورة أصلاً، وقبل أن تسرقها التنظيمات الجهادية السلفية الإجرامية، أكان اسمها داعشاً أم جبهة نصرة أم “جيش إسلام” أم أياً من بقية أفراد عصابة أوغلت في قتل “الجيش السوري الحر” الذي كان ممكناً أن يكون البديل الحقيقي عن نظام الأسد.
العدد المعقول جداً لأخطاء الثورة السورية في سنتيها الأوليين هو من بين ما يفسّر حجم المعسكر العالمي الذي قام في وجهها. ومَن رفض دعمها دولياً، والاعتراف بمشروعيتها والتصرّف بالتي هي أحسن ضد حكم العصابة الأسدية، أكمل مهمة قتلها. فلنتذكّر أنه، في تلك السنتين، لم تُسجَّل أحداث طائفية جدّية، وأن الانتفاضة كانت عابرة للمناطق وللطوائف والقوميات من دون تصنُّع. صحيحٌ أن أزمة المدينة ــ الريف ظلت ظاهرة في دمشق وحلب خصوصاً، لناحية احتضان الانتفاضة أو معاداتها أو الخشية منها، إلا أن التمدّد الأفقي كان معقولاً جداً نسبةً لما نعرفه عن تصحّر سياسي ــ ثقافي ارتكبه الشرّ الأسدي، وتحالفات طبقية ـ اجتماعية ـ عشائرية نسجها النظام قطبة قطبة على مدى نصف قرن، وكبّل فيها شعبا لم يعد عنده مكان ليجتمع فيه إلا المسجد. هو المسجد الذي يستكثر عليه ذلك الشاعر خروج أولى تظاهرات الاحتجاج منه، وكأنّ الأحزاب السياسية والنوادي الثقافية بقي منها نفر ليروي كيف أُبيدت على مدى عقود.
للمصابين بهوس نقد بدايات الانتفاضة السورية أن يتذكّروا كم رفض المتظاهرون تسلم أسلحة تركها لهم شبّيحة النظام لاختصار الطريق وإعلانها حرباً أهلية تكون نتائجها معروفة سلفاً. فليحيوا ذاكرتهم بنداءات السوريين ومجلسهم الوطني لطمأنة اللبنانيين ممن ترتاب فئاتٌ وازنةٌ منهم من كل ما يأتي من خلف الحدود. لم تختبر أيٌّ من الانتفاضات العربية التنسيقيات بالحِرفية التي انتظمت في السنتين الأوليين للثورة السورية. لم تفهم أيٌّ من الانتفاضات العربية بقدر ما استوعبه السوريون (من بعد التونسيين) أن التغيير المنشود يحتاج شق صفوف النظام من دون تخوين عشوائي. هكذا تم استيعاب رياض حجاب شخصية مرشّحة لقيادة مرحلة الانتقال نحو الديمقراطية، بفهم عميق للفارق الكبير بين منشقّ صادق وجوده ضروري في صفوف أي حركة تغييرية وانتهازيين ليس آل طلاس إلا نماذج عنهم، ممن لا يعني النظام والمعارضة عندهم إلا مشروعاً محتملاً للسلطة.
من بين دروس الثورة السورية أن لا سقف للنقد. لكن أن تُظلم لمجرّد تلبية غريزة النكد باسم النقد، فإنما في ذلك تزوير للتاريخ. العامان الأولان للثورة السورية سارا “مثلما يقول الكتاب”، وبحد أدنى من التشوّهات. ما قتل الثورة لاحقاً لا علاقة له بأخطاء أهلها، بل بدرجة شرّ الطرف الآخر، وبتواطؤ من كان قادراً على التحرّك فسكن، ومن كان باستطاعته الكلام فسكت.
المصدر: العربي الجديد