عندما نرى القيم العظيمة والقدرات الهائلة لدى السوريين وهي تضيع سدى بما خلّفته نظم الاستبداد والإقصاء والفساد .. ندرك مدى الحاجة للعلوم الإنسانية والإدارية في المجتمع السوري. ويتجلى افتقار وعي المجموعة السياسية للمعارضة السورية لهذه العلوم المؤثرة في طريقة الخطاب وصياغته ومكان وزمان توجيهه. فالتشبث بإسقاط الطغاة مبدأ لا خلاف عليه، ولكن من الأهمية أيضا اسقاط هذا الإرث البغيض في علاقاتنا وقيمنا وثقافتنا. هذه الحاضنة الأصيلة قدمت كل استطاعتها وإمكانياتها ولا تزال، وليس من اللائق أن ندير لها ظهورنا، وأن نتكسب على حسابها، وأن نفرط بعقدها، ونستعلي على حاجاتها. الناس ستقرأ الجميع في كفة الاستبداد والفساد حين ترى صراعا على السلطة، وليس لعودة الحقوق وإرساء العدل والنهضة بالمجتمع. والممارسة الطغيانية بين نحن وهم وعمل كل طرف على شيطنة الآخر فهذا أمر طبيعي وممارسة منطقية بين مختلفين أو متخاصمين وفي كافة المستويات المجتمعية والدولية حين يغيب العدل والضمير . لكن أن تواجه ثورة شعب بنظام قاتل بجميع الأعراف الدولية والانسانية وبمعارضة انفصمت عن المجتمع السوري الذي رسم أيديولوجيته الثورية في أهداف واضحة ومطالب محقة ليواجه مصيره المظلم أمام مستقبل مرهون بأجندات دولية وحزبية وقومية، ومطامح ومطامع نفعية، تتطلع للسلطة في ظل سوريا موحدة أو منقسمة.. نقف بحيرة واستغراب شديد أمام من يدعو لبناء الثقة بالوعود والشعارات وتكرار نسخ ابتلت بالشبه وابتليت بالتشويه، في تقديم ثلة فشلت خلال سبع سنوات من أي تقدم يذكر لهم، عبر وسائل الإعلام المحسوبة على الثورة على أنهم النخب السورية والواجهة الناصعة الوحيدة التي يحق لها تمثيل السوريين . وربما يتوازى مع إعلام المؤسسة الأمنية في نظام الأسد الذي اعتمدناه مادّة للسخرية . فالتأثير الإعلامي في إيجاد نوع من التشابه في الفكر والسلوك بين المرسل والمستقبل أو في اكتساب المعرفة والمعلومات أو في التفاعل وجذب الاهتمام يختلف عليها
الباحثون في علم الاجتماع )الإعلامي( في الحالات الطبيعية في المجتمعات الحديثة.. فكيف ونحن أمام حالة لا معقولة من الانحطاط الفكري والتعامل اللامسؤول واللامهني في التعاطي مع إعلام القن. من البديهي جدا أن يتعامل الفكر الأمني ، والفكر المستعمر بنفس الطريقة الشنيعة في كل مجالات الدولة ومؤسساتها ، وعلى المتلقي أن يتقبله راضيا أو صاغرا . علينا أن نفكر خارج صندوق هؤلاء الذين فشلوا جميعا في تحقيق المراد والطموح ، و أن لا نطالب المريض بالهدوء والاستكانة ما دمنا نقدم ذات الدواء المنتهي الصلاحية .. و ترك الشعب بمفرده بلا قانون يحمي مصالحه، أو مؤسسات بديلة تدير شؤونه، في ظل ظروف قاسية من القتل والحصار والتهجير. وضمن استهداف الكفاءات العلمية والمجتمعية قتلا واعتقالا أو تهميشا واضطرارا للجوء في بلاد الشقراوات. كل ذلك لم يمنع من استمرار الحياة المدنية والتنظيم المجتمعي بشكل مقبول نسبيا في المجتمعات التي لم تسمح لفصائل التطرف أن تخترق صفوفها مثل داريا في ريف دمشق ، وحي الوعر بحمص الذي كان مثالا مثيرا ومدهشا في التعامل مع الظروف الاستثنائية القاسية، والصمود الاستثنائي الذي تسطره الغوطة الشرقية أمام العدوان التتري السافر بكل الوسائل والأسلحة المحرمة دوليا ، وأمام تعثّر الحل السياسي والتخاذل العالمي والعربي ، لا يزال الإيمان بالحرية ودولة القانون والمواطنة من أهم مطالب ثورة السوريين ، وشيوع الحالات البغيضة في مجتمعنا لا يعني قبول ورضى الناس به ، ولكنه الألم الذي لا يرحم, والذاكرة المشوشة، والخوف من ملاحقة الأشباح والموت. لا نريد أن نكون متشائمين بانحسار الرؤيا لما يدور في بعض المناطق التي تعاني استبداد الفصائل المتناحرة بالفكر والأهداف، واستغلال الداعمين المرتبط بدول لها مصالحها وتحزبات لها أجنداتها. ولا أن نكون متفائلين حد البلاهة فالمجتمع السوري المتعدد الثقافات قبل 2011 يعاني اليوم تدهورا مخيفا ومؤسفًا بين التطرف والانسلاخ. وهذا يحتاج جهودا جبارة ومضاعفة في غياب النخب الحقيقية والمؤسسات العلمية والتوعوية، وإلى إدارة أزمة انسانية ووطنية حقيقية تشمل الوطن السوري بكافة أطيافه ومكوناته وخطابا وطنيا وإنسانيا يشمل الأطراف جميعا، وأن يتحول البؤس الذي نعانيه والذي صوره الدكتور هيجو في كتابه البؤساء، الذي تحدث فيه عن الفترة الفرنسية الثالثة وكيف كان الفرنسيون يتمنون عودة الملكية لشدة ما أصابهم وألمّ بهم وكأنه يحكي واقعنا الذي سيدفع ثمنه المخلصون لدينهم ووطنهم فقط . فلا يدرك غالبية الناس قيمة الثورات على الاستبداد والأنظمة الفاسدة إلا حين يلتقون بربيعهم بعد شتاء قارس ومؤلم جدًا.