ميرفت عوف
ربما حملت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين إلى موسكو في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 جميع سمات الزيارات الدبلوماسية التقليدية والرتيبة، فمن ناحية، فإن الجولة التي استغرقت بضعة أيام، جاءت بدعوة رسمية سابقة من نظيره الروسي سيرغي لافروف، مع وفد مرافق تقليدي ضم وزراء النفط والتجارة ومسؤول عن لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، لكن الأجواء السياسية المضطربة المحيطة بالزيارة جعلتها جديرة بكل ذرة من الانتباه والترقب.
في ذلك الوقت، كان التوتر الأميركي الإيراني قد بلغ أشده، وكان من الواضح أن الطرفيْن قرَّرا خوض الجولة الحالية من المواجهات بينهما على أراضي العراق. بدأ كل شيء مع مطلع العام نفسه، حين قرَّرت أميركا فجأة اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني أثناء وجوده في العراق، لتشرع إيران منذ ذلك الحين في الضغط على الميليشيات المرتبطة بها لشن هجمات -منخفضة المستوى نسبيا- على المصالح الأميركية في العراق، مع محاولات متفرقة لاستهداف السفارة الأميركية في بغداد بهدف إجبارها على الإغلاق. وفي المقابل، بدأت إدارة ترامب هي الأخرى في الضغط على رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لتقليص النفوذ التي تحظى به الجماعات الشيعية المرتبطة بطهران في السياسة العراقية.
بلغت هذه الضغوط الأميركية ذروة غير مسبوقة مع بدء واشنطن سحب أعداد كبيرة من الموظفين في سفاراتها في بغداد مع التلويح بإمكانية إغلاقها تماما، وإعلانها كذلك عن نيتها إجراء خفض كبير في أعداد القوات الأميركية في البلاد، وهو ما كان يعني أن على بغداد البحث عن حلفاء جدد لمواجهة التحديات الأمنية المتزايدة. وكما هو متوقع، كانت موسكو أكثر من مستعدة للعب هذا الدور، حيث حرص وزير الخارجية الروسي على التأكيد أمام نظيره العراقي على استعداد بلاده تزويد العراق بجميع الأسلحة والمعدات اللازمة لمساعدة الدولة العراقية على أداء مهامها الأمنية بكفاءة.
تُلخِّص تعهدات لافروف الطريقة التي تُسيِّر بها موسكو علاقاتها مع بغداد في الوقت الراهن، حيث تنشط روسيا بالدرجة الأولى في المساحات الفارغة التي يُخلِّفها التردد الأميركي، وتضع نفسها بديلا محتملا في القضايا التي تُغلِّفها أجواء الريبة وسوء الفهم. فعلى الرغم من إدراك روسيا أن عراق ما بعد الغزو الأميركي أصبح ملعبا أميركيا إيرانيا بامتياز، فإن خيالات العراق السوفياتي القديمة لا تتوقف عن مداعبة عقول صانعي القرار في الكرملين، الطامحين اليوم لاستعادة أمجاد موسكو القديمة في بغداد.
ترتبط موسكو وبغداد بعلاقات وثيقة تعود جذورها إلى نهاية الخمسينيات حين قاد عبد الكريم قاسم انقلابا ضد النظام الملكي العراقي، وتوجَّه إلى فتح علاقات مع روسيا مُستفيدا من سياستها الداعمة لحركات التحرر الوطني المناهضة للاستعمار والغرب. في ذلك الوقت، اكتسبت العلاقات بين البلدين أبعادا عدة، لكن التعاون العسكري احتل موقع الصدارة في وقت مبكر، بعدما وقَّع الطرفان اتفاقا عام 1967 يقضي بقيام العراق بتزويد السوفييت بالنفط، مقابل ضمان وصول واسع النطاق إلى أسلحة الكتلة الشرقية.
تعزَّزت العلاقات بين الجانبين أكثر مع الانقلاب البعثي عام 1969، حيث وقَّع البلدان في عام 1972 معاهدة صداقة تمتد لمدة 15 عاما، وهو ما جعل العراق قادرا على المشاركة في الحرب ضد إسرائيل في العام التالي مُتمتعا بالمساندة السوفياتية، ولاحقا استخدم العراقيون الأسلحة السوفياتية لسحق الانتفاضة الكردية بقيادة مصطفى البرزاني في عام 1975.
بحلول ذلك التوقيت، كان العراق قد أصبح أكبر مشترٍ للمعدات الحربية السوفياتية بالشرق الأوسط وأكبر شريك لموسكو في المنطقة. وبالتزامن، توافد الخبراء الروس بكثافة إلى بغداد من أجل مهام التدريب وصيانة المعدات الحربية، حيث ساعدوا الحكومة العراقية في إنشاء عدة مصانع عسكرية، منها مصنع لإنتاج مدافع هاوتزر، وآخر لإنتاج رشاشات كلاشينكوف، إضافة إلى منشأة لإنتاج ذخائر المدفعية.
وعلى الرغم من هيمنة التعاون العسكري على مشهد العلاقات بين البلدين، فإن الأبعاد الاقتصادية لم تكن غائبة تماما، حيث انخرط السوفييت بنشاط في مختلف قطاعات الاقتصاد العراقي خاصة صناعة النفط، على سبيل المثال، شاركت المؤسسات السوفياتية في تطوير حقلَيْ نفط الرميلة واللحيس وغيرهما، كما شاركوا في إنشاء خط أنابيب لمشتقات النفط بين بغداد والبصرة، ومحطات للطاقة الكهروحرارية والكهرومائية في الناصرية ودوكان، بخلاف معمل للأدوية في سامراء.
حافظت العلاقات العراقية السوفياتية على قدر كبير من الاستقرار والتناغم على مدار أكثر من ثلاثة عقود، لكن عاصفة كبيرة ضربتها بسبب قرار الرئيس العراقي صدام حسين غزو الكويت في أغسطس/آب 1990، حيث انتقد السوفييت التحرك العراقي وأيَّدوا قرارا للأمم المتحدة يُجيز استخدام القوة العسكرية لفرض حظر الأسلحة على العراق. وفي الأشهر اللاحقة، تسبَّبت العقوبات الغربية في تقييد قدرة موسكو على بيع السلاح لحليفها العراقي، ومع ذلك، استمر تعاون البلدين في المجال الاقتصادي، حيث واصلت روسيا -وريث الاتحاد السوفياتي- أنشطتها في مجال النفط، كما زوَّدت بغداد بانتظام بالسيارات ومعدات السكك الحديدية، وأشرفت الشركات الروسية على إنشاء صوامع للحبوب في البلاد.
تسبَّب الغزو الأميركي للعراق عام 2003، والتغيير القسري للطبقة الحاكمة في البلاد، في تقليص نفوذ روسيا العراقي إجباريا، لكن موسكو لم تنسَ أبدا مصالحها الراسخة في بغداد. وبمجرد مُضي السنوات الأولى للغزو، واستقرار المشهد السياسي العراقي الجديد نسبيا، سعت روسيا لاستغلال الأخطاء الكارثية للغزو الأميركي من أجل استعادة وجودها على الساحة العراقية. وفي عام 2008، ألغت موسكو دَيْنا مستحقا على العراق يعود إلى الحقبة السوفياتية بقيمة 12.9 مليار دولار، مقابل توقيع صفقة نفطية بقيمة 4 مليارات دولار. وفي الوقت الذي كانت شركات النفط الدولية تغادر فيه العراق -كليا أو جزئيا- بسبب الانفلات الأمني، فازت شركة “لوك أويل” الروسية بأحد عقود النفط الأولى في عراق ما بعد الحرب، وهو مشروع لتطوير حقل “غرب القرنة – ٢” في البصرة، المسؤول عن 12% من صادرات النفط العراقية.
كان عام 2015 عاما محوريا في طريق روسيا لاستعادة نفوذها، ليس في العراق وحده تحديدا، ولكن في الشرق الأوسط كله، ففي ذلك العام، تدخَّلت موسكو عسكريا في الحرب الأهلية السورية دعما للرئيس بشار الأسد، ونجحت في إنقاذ نظامه من على حافة السقوط. وبخلاف قدرتها على الحفاظ على أهم حلفائها في الشرق الأوسط، أعاد التدخُّل العسكري في سوريا بناء سمعة موسكو بوصفها شريكا أجنبيا موثوقا به، وصانعا محتملا للملوك في المنطقة.
شرعت موسكو في استغلال هذه السمعة في إعادة بناء نفوذها البائد، وكان العراق على رأس قائمة المستهدفين من التحركات الروسية. في البداية، قدَّمت روسيا نفسها بوصفها داعما بديلا للأكراد العراقيين عوضا عن الحليف الأميركي المتردد وغير الموثوق به، وبدأت في ترسيخ حضورها في إقليم كردستان -في المقام الأول- عبر ضخ الاستثمارات في مجال الطاقة.
بالتزامن، شرع الروس في إقامة علاقات مع الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في بغداد، وأضافوا إلى هذه الميليشيات قدرات ومهارات لم تكن موجودة من قبل، وأكثر من ذلك، اغتنمت روسيا الفزع العالمي الذي أثاره صعود تنظيم الدولة الإسلامية في تقديم نفسها للحكومة العراقية بوصفها شريكا موثوقا في مكافحة الإرهاب، لتنجح في إقناعها بالانضمام إلى مركز معلومات رباعي ضمَّ موسكو وبغداد ودمشق وطهران، بهدف مطاردة تنظيم الدولة الإسلامية وتصفية فلوله.
خلال الأعوام الأخيرة، لم تُفوِّت موسكو أي فرصة سانحة لدق إسفين بين واشنطن وشركائها العراقيين. وكان ذلك واضحا خاصة بعد إقدام الولايات المتحدة على اغتيال زعيم فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، والقائد الميليشيوي العراقي البارز أبو مهدي المهندس، فوق الأراضي العراقية مطلع عام 2020، في خطوة أثارت غضب بغداد التي اعتبرت العمل الأميركي انتهاكا لسيادتها وتجاوزا لشروط وجود القوات الأميركية على أراضيها، وهو غضب حرصت موسكو على استثماره عبر تعزيز دعوات الانسحاب الأميركي من العراق من ناحية، وإرسال مبعوث خاص هو السفير مكسيم مكسيموف لمناقشة آفاق التعاون العسكري مع العراقيين، قبل أن توفد وزير خارجيتها سيرغي لافروف بنفسه لاستثمار الفرصة، مُلتقيا مع كبار القادة العراقيين في بغداد وأربيل.
بالتزامن مع تحرُّكاتها الدبلوماسية، بدأت روسيا تُكثِّف مساعيها لاستعادة نفوذها في العراق عبر الأبواب ذاتها التي استخدمتها لترسيخ وجودها في عهد السوفييت، وفي مقدمتها استثمارات الطاقة. وبالنظر إلى أن صادرات النفط تُشكِّل أكثر من 90% من إيرادات الدولة العراقية، فإن الشركات الروسية -المدعومة من الكرملين- واصلت ضخ مليارات الدولارات في هذه الصناعة، وهي أموال تُوظَّف في النهاية لتحقيق أهداف موسكو الاقتصادية والسياسية.
تمنحنا الأرقام صورة أوضح حول تلك الاستثمارات وأهدافها. على سبيل المثال، بلغ إجمالي استثمارات روسيا في قطاع الطاقة العراقي 10 مليارات دولار في عام 2019، وفي العام الماضي، 2020، تعهَّدت موسكو بمضاعفة هذا الرقم 3 مرات على الأقل، لذا لم يكن مفاجئا أن شركة النفط الروسية “لوك أويل” أعلنت في الربع الثالث من العام الماضي تحقيق أرباح قُدِّرت بـ 50 مليار روبل (نحو 664 مليون دولار)، بفضل ارتفاع أسعار النفط، وزيادة الإنتاج من الحقول الخاضعة لسيطرة الشركة في العراق، البلد الأكثر أهمية في أنشطة العملاق الروسي.
لا تُعَدُّ صناعة النفط اليوم مجرد مجال حيوي للاستثمارات الروسية في العراق، لكنها تحوَّلت أيضا إلى رأس حربة لتحقيق أهداف جيوسياسية تتجاوز الربح المادي المجرد. تتجلّى هذه الحقيقة أوضح ما يكون في كردستان العراق، ففي فبراير/شباط 2017، أقرضت شركة روسنفت الروسية العملاقة للطاقة إقليم كردستان نحو 3.5 مليار دولار، ووقَّعت عقودا لتطوير خمس مناطق لإنتاج النفط، واستثمرت في البنية التحتية المحلية لتصدير النفط والغاز، وبذلك أنقذت موسكو الإقليم في منعطف حاسم، ومنحت الأكراد مزيدا من النفوذ على بغداد (على الرغم من أن روسيا كانت حريصة على عدم تعريض صفقات غازبروم الضخمة مع الحكومة الفيدرالية العراقية للخطر). وفي مايو/أيار 2018، وقَّع إقليم كردستان اتفاقا مع روسنفت بشأن البنية التحتية للغاز وبناء خط أنابيب إلى تركيا، ما منح موسكو نفوذا إضافيا على علاقات الطاقة بين بغداد وأنقرة.
على نطاق أوسع، استفادت روسيا من العقوبات الأميركية المُشدَّدة على طهران التي أعاقت -نسبيا- تدفُّق الغاز الإيراني إلى العراق من أجل تقديم نفسها بوصفها بديلا فعّالا للحكومة العراقية. من جانبه، كان العراق مهتما بالاستفادة من خبرة الشركات الروسية في مجال إنتاج الغاز ونقله، مانحا عددا من العقود المُربحة للشركات الروسية وعلى رأسها غاز بروم وروسنفت. لكن شهية روسيا لم تقف عند هذا الحد، وكما يُشير موقع “أويل برايس” المعني بشؤون الطاقة، فإن روسيا، بعد أن سيطرت سيطرة كاملة تقريبا على قطاع الطاقة في إقليم كردستان، باتت تطمح لتأسيس وجود نفطي أكثر قوة في قطاع النفط القوي في جنوب العراق من أجل تقديم نفسها بوصفها وسيطا محوريا في النزاع الدائم بين كردستان والجنوب حول مدفوعات الميزانية.
مدفوعة بالطموحات السوفياتية القديمة، تبذل روسيا جهدا كبيرا لاستعادة مكانتها في خريطة موردي الأسلحة إلى العراق. وبالفعل، تُشير تقارير روسية إلى أن العراقيين أبدوا اهتمامهم بالحصول على خدمات مقاتلات الجيل الخامس الروسية “سو-57” خلال معرض للصناعات العسكرية أُقيم في موسكو في أغسطس/آب الماضي، على الرغم من أن إنتاج المقاتلة الروسية الأهم لا يزال مُوجَّها حصريا لتلبية طلبات سلاح الجو الروسي، حيث لم تعلن موسكو بَعدُ رسميا عن نيتها ترويجها للبيع.
تمتلك طائرات “سو-57” مزايا متعددة، فهي مُصمَّمة لتدمير جميع أنواع الأهداف الجوية والأرضية والسطحية، كما تتمتع بقدرات كبيرة في تضليل أنظمة الدفاع الجوي والتغلب عليها، فضلا عن مراقبة المجال الجوي لمسافات كبيرة، وهي مزايا تُغري العراق للحصول على المقاتلة الروسية في وقت كانت الولايات المتحدة تتجه لتقليص وجودها العسكري في البلاد (تراجعت عن ذلك لاحقا)، وبالنظر إلى كون الجيش العراقي لا يمتلك حاليا سوى نوعين من المقاتلات هما “إف-16” الأميركية، وطائرة العقاب الذهبي “تي-50” الكورية الجنوبية، وكلاهما يُنفِّذ هجمات على أهداف أرضية فقط.
لا تُعَدُّ مقاتلات “سو-57” القطعة الوحيدة التي استهوت العراقيين في الترسانة الروسية، حيث دخل العراق في وقت سابق مفاوضات مع موسكو للحصول على نظام الدفاع الصاروخي “إس-300″، والأكثر من ذلك أن المشرعين العراقيين أوصوا رسميا بشراء النظام الصاروخي الروسي الأكثر تقدُّما “إس-400” في إبريل/نيسان الماضي، بعد مُضي أسابيع على مقتل قاسم سليماني، حيث شعر العراقيون بأهمية تعزيز الدفاعات العراقية الأصلية، وأرادوا تنويع مصادر سلاحهم بالتوجُّه نحو المعسكر الشرقي، لكن ضغوط الولايات المتحدة حالت -حتى الآن- دون إتمام أيٍّ من هذه الصفقات.
وعلى الرغم من ذلك، فإن أحلام تسليح العراق القديمة لا تزال تداعب خيال ساكني الكرملين، حيث لا تتوقف موسكو في أي وقت عن إبداء استعدادها لتلبية أي احتياجات عراقية من المنتجات العسكرية الروسية تحت ذريعة ضمان القدرة الدفاعية للعراق وتجهيز جيشه وقواته الأمنية، وبالفعل قامت روسيا بتزويد بغداد بمجموعة من المعدات العسكرية الأقل إثارة للخلاف، مثل الطائرات الهجومية من طراز (سو-25)، وكذلك طائرات الهليكوبتر متعددة الأغراض من طراز (مي-28) و(مي-35).
تنظر موسكو إلى عراق اليوم فيما يبدو بوصفه ملعبا لتعزيز هيمنتها في مجال الطاقة، وعميلا مربحا محتملا للأسلحة الروسية، وساحة لإبراز حضورها السياسي في الشرق الأوسط وزرع أكبر قدر ممكن من النفوذ في بيئة يترعرع فيها الفساد وتتفاقم فيها التوترات العِرقية والطائفية. وفيما تأمل روسيا أن تفتح الانتخابات البرلمانية المنتظرة في صيف 2021 أمامها أبوابا جديدة لممارسة النفوذ، يبقى طموح الروس محاصرا فعليا بآفاق الدور الأميركي المستقبلي في بغداد. ففي النهاية، تعي روسيا جيدا أنها لن تكون قادرة على إعادة العراق إلى زمان صدام حسين، ولكنها تدرك أيضا أنه كلما استمرت أميركا في خوض جدل الرحيل والبقاء، لأطول فترة ممكنة، منحها ذلك مزيدا من الفرص لغرس أشجار نفوذها في العراق بهدوء وثبات.
المصدر: الجزيرة. نت