جواد صالحي أصفهاني
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
يعتقد مؤيدو فكرة “اقتصاد المقاومة” أنه مع مرور الوقت، وخاصة في ظل العقوبات، قد تصبح قضية استقلال إيران الاقتصادي أكثر إقناعًا للجماهير -سواء داخل إيران أو خارجها. وبالنسبة لهذه القوى النافذة في طهران، فإن العقوبات ليست أدوات للمعاناة قصيرة المدى فقط، وإنما هي الحافز المحتمل للتأسيس لمستقبل أكثر استدامة في الجمهورية الإسلامية.
. . .
عندما صودق على انتخاب جو بايدن رئيسًا للولايات المتحدة في كانون الثاني (يناير)، ارتفعت قيمة العملة الإيرانية مقابل الدولار بنسبة 20 في المائة. وكان الكثير من الإيرانيين يأملون بأن يعني فوز بايدن العودة إلى الاتفاق النووي الذي أبرم في العام 2015، ووضع حد لحملة “الضغط الأقصى” التي طبقها دونالد ترامب، والتي جعلت الأزمة الاقتصادية العالمية المصاحبة لوباء فيروس كورونا أسوأ بما لا يقاس بالنسبة للإيرانيين العاديين. ولكن، في غضون أسبوع واحد من تولي بايدن الرئاسة، أعلن وزير الخارجية الأميركية، أنتوني بلينكين، أن واشنطن ما تزال “بعيدة” عن معاودة الانضمام إلى الاتفاق النووي. وفي طهران، استجابت أسواق العملات بسرعة لهذا التصريح، فعاد الدولار إلى الارتفاع.
سرعان ما تبين أن إدارة بايدن ليست في عجلة من أمرها عندما يتعلق الأمر بإصلاح الأمور مع إيران. كما لم يُظهر قادة إيران بدورهم اهتمامًا كبيرًا بعودة سريعة إلى المحادثات مع الولايات المتحدة. وقد أضرت العقوبات الأميركية بالاقتصاد الإيراني بما لا يقبل الجدل، لكنَّ من غير المرجح أن يكون البلدان قد وصلا إلى مثل هذا الجمود لو لم تكن لديهما أفهام مختلفة تماماً حول كيفية تأثير العقوبات على آفاق إيران على المدى الطويل.
صعَّدت الولايات المتحدة من الضغط على إيران في العام 2018، وظلت منذ ذلك الحين تراقب مؤشرات الانهيار الاقتصادي الإيراني. لكنَّ بعضاً من أقوى القادة الإيرانيين كانوا يراقبون مجموعة مختلفة من الإشارات: أن البلاد ستخرج من الأزمة باقتصاد أكثر مقاومة للضغط الخارجي، والذي سيكون بعد ذلك محمياً ومعزولاً عن أي عقوبات أميركية مستقبلية. والآن، يلعب كلا الجانبين لعبة انتظار، لكنهما يرصدان في الأثناء إشارات مختلفة. يفهم البعض في الولايات المتحدة الألم الذي يعاني منه الناس العاديون في إيران على أنه قنبلة موقوتة، والتي ستجد الحكومة الإيرانية نفسها مجبرة في النهاية على نزع فتيلها. وفي المقابل، يضع مكتب المرشد الأعلى في إيران أنظاره على اللعبة الطويلة، حيث قد تكون المعاناة قصيرة الأمد ثمناً يستحق الدفع مقابل تحقيق اكتفاء ذاتي على المدى الطويل.
لدغة العقوبات
ربما تكون العديد من التوقعات الأميركية الأكثر صقرية بشأن الاقتصاد الإيراني قد تحققت فعلاً، وإنما بطريقة كلفت الشعب الإيراني كثيرًا ولم تُكسب الولايات المتحدة سوى القليل جدًا. وقد تسببت العقوبات في انخفاض قيمة العملة الإيرانية، والتضخم، والتدهور الاقتصادي -لكنها لم تسبب الانهيار المنشود. كما أدى تصاعد مشاعر الاستياء الشعبي بالفعل إلى قيام احتجاجات في إيران، لكنها قوبلت بقمع مميت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 ولم تجعل السلطات في طهران أكثر خضوعًا واقتراباً من الاستسلام.
وقد تراجعت مستويات المعيشة في إيران، تدريجيًا في البداية ثم دفعة واحدة. وكانت البلاد قد تمتعت، ابتداءً من منتصف التسعينيات، بخمسة عشر عامًا من ارتفاع مستويات المعيشة وانخفاض كبير في الفقر. ثم فرض الرئيس باراك أوباما عقوبات ثانوية على إيران في العام 2011، ما أدى إلى عقد من التدهور الاقتصادي الذي تسارع فقط خلال فترة رئاسة دونالد ترامب. وتم نقض معظم المكاسب السابقة التي حققتها البلاد: في الأشهر الاثني عشر المنتهية في 20 آذار (مارس) 2020، وجد الإيرانيون أنفسهم قدرتهم الشرائية تعادل، في المتوسط، ما كانت عليه قبل 15 عامًا فحسب. وتعرضت أحوال الأسر الريفية إلى مزيد من التراجع حتى العام 1998. وكانت معدلات الفقر في صعود. وانضم أكثر من 4 ملايين شخص إلى صفوف الفقراء منذ العام 2012، ثلاثة أرباعهم منذ أن أعاد دونالد ترامب فرض العقوبات على إيران بعد انسحابه من الاتفاق النووي في العام 2018.
وكان العديد من مؤيدي العقوبات الأميركية يأملون في أن تؤدي هذه الإجراءات إلى إثارة غالبية الإيرانيين ضد حكومتهم. لكن العقوبات لم تُحدِث مثل هذا التأثير. ووفقًا لاستطلاع حديث للرأي، فإن “الإيرانيين يعارضون بشدة التفاوض مع إدارة بايدن قبل عودة الولايات المتحدة إلى الامتثال الكامل (للاتفاق النووي)”.
في العام 2011، ساعد الرئيس الإيراني آنذاك، محمود أحمدي نجاد، على تهدئة آلام العقوبات من خلال منح تحويلات نقدية للمواطنين. وفي المقابل، لم تقدم حكومة الرئيس حسن روحاني التالية الكثير من المساعدة في هذا الصدد. وقد أصابت عقوبات ترامب المصدر الرئيسي للدخل الحكومي، عائدات النفط، بطريقة أقسى بكثير من سابقاتها، كما أن روحاني لا يؤمن بفكرة منح المساعدات النقدية للمواطنين. وما تزال التحويلات النقدية التي بدأت في العام 2011 مستمرة، لكنها تساوي ما يعادل 19 دولارًا فقط للفرد شهريًا بمعادلة القوة الشرائية بالدولار الأميركي، منخفضة بحدة عن ما يعادل 90 دولارًا لدى إطلاقها. أما التحويلات الحكومية الأخرى التي يكون الفقراء هم المؤهلون لتقلقيها بشكل أساسي، فأصغر من ذلك، حيث يبلغ متوسطها 6 دولارات شهريًا تعطى لأدنى 20 في المائة في قائمة توزيع الدخل.
ولم يكن حال الطبقة الوسطى في البلاد أفضل بكثير. قبل إعادة فرض العقوبات في العام 2018، كان بالوسع تصنيف ما يقرب من 60 في المائة من الإيرانيين على أنهم من الطبقة الوسطى، بناءً على معيار نفقاتهم الاستهلاكية. وفي الفترة 2019-2020، أمكن تصنيف أقل من 50 في المائة على أنهم ينتمون إلى هذه الطبقة. وقد انحدر نحو 8 ملايين إيراني إلى الفئات ذات الدخل المنخفض منذ العام 2011، ثلاثة أرباعهم خلال فترة “حملة الضغط الأقصى” التي شنها ترامب.
وليست قيادة الجمهورية الإسلامية غير مبالية بمحنة مواطنيها -وخاصة الفقراء- لكنها منقسمة بشأن مدى إلحاح الحاجة إلى إنهاء العقوبات. وكان روحاني، الرئيس المعتدل، قد انتُخب في العامين 2013 و2017 على أساس وعود بإنهاء العقوبات الأميركية وإصلاح العلاقات مع الغرب. ويبدو روحاني حريصاً الآن على اغتنام وعد بايدن بإحياء الاتفاق النووي، لأنه يعتقد أن طريق إيران إلى الازدهار الاقتصادي يمر عبر الانخراط والتكامل العالمي والسلام مع العالم الغربي. وسيكون الاتفاق النووي أكثر احتمالاً للبقاء إذا تمكن روحاني من استعادته قبل انتخاب رئيس إيراني جديد سيكون محافظاً على الأرجح في حزيران (يونيو).
ضد هذا الرأي ثمة المحافظون. لم يكن البعض في هذا المعسكر معجبين أبدًا بالاتفاق النووي وسوف تسعدهم رؤيته وهو يموت. ويتنافس آخرون فقط على المناصب ويرغبون في أن يكونوا هم الذين يتحدثون مع الولايات المتحدة. لكن آخرين -ومن بينهم المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي نفسه- ما يزالون يقدرون التكنولوجيا المتقدمة والتكامل العالمي، لكنهم يسعون إلى إثبات أن إيران يمكن أن تحقق هذه الأشياء من دون إعادة توجيهها نحو الغرب.
المحافظون المتحالفون مع المرشد الأعلى مصممون على أن يثبتوا للغرب ولخصومهم المحليين أن إيران ستواصل تحدي الهيمنة الأميركية في جوارها، بغض النظر عن العقوبات والضغوط القصوى. وتجادل هذه المجموعة بأنه إذا كان ثمة شيء، فإن العقوبات ستساعد إيران على تقليل اعتمادها على النفط وعلى الغرب. وهذا هو “اقتصاد المقاومة” الذي صاغه وتحدث عنه المرشد الأعلى لأول مرة في العام 2014، ودافع عنه منذ ذلك الحين ويعتقد أنه سيأتي بالتأكيد -حتى لو كان ذلك ببطء.
اقتصاد المقاومة
لا ينظر المحافظون الإيرانيون إلى مؤشر مستويات المعيشة لتأكيد رؤيتهم، وإنما ينظرون إلى أداء الاقتصاد بشكل عام. وقد أعلن البنك المركزي الإيراني الأسبوع الماضي أن إيران حققت نموًا اقتصاديًا إيجابيًا في الأشهر التسعة المنتهية في 20 كانون الأول (ديسمبر) 2020. لكن تقديرات المركز الإحصائي لإيران تبدو أقل تفضيلًا: انخفض الناتج المحلي الإجمالي خلال هذه التسعة أشهر بنسبة 1.2 في المائة، مقارنة بما كان عليه في الفترة نفسها من العام الماضي، على الرغم من ارتفاعه في الربع الأخير بنسبة 0.8 في المائة عن الخريف السابق.
ليس من المستغرب أن يكون قطاع النفط الإيراني هو الأكثر تضرراً، لكن فكرة اقتصاد المقاومة تتوجه بالتحديد إلى التخلص من اعتماد البلاد على النفط. قبل ثلاثة عقود، كان النفط يمثل أكثر من 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الإيراني. وفي العام الماضي، انخفضت هذه الحصة إلى 15 في المائة. وتمكنت جميع القطاعات الأخرى من الحفاظ على مستويات إنتاجها وتوظيفها ثابتة في ظل العقوبات؛ حتى أن التصنيع قد تحسن: أدت عقوبات ترامب إلى انخفاض هائل في قيمة العملة، ما قلل من إمكانية تحمل كلفة الواردات. ولذلك، سد التصنيع المحلي الفجوات، وزاد الإنتاج والتوظيف والمبيعات المحلية. ولو أن العقوبات لم تمنع الشركات الإيرانية من تصدير منتجاتها، لكان أداء التصنيع أفضل.
قد لا تكون هذه المكاسب المتواضعة دليلاً على ولادة اقتصاد مقاومة في إيران. لكن مؤيدي هذه الرؤية يعتقدون أنه مع مرور الوقت، وخاصة في ظل العقوبات، قد تصبح قضية استقلال إيران الاقتصادي أكثر إقناعًا للجماهير -سواء داخل إيران أو خارجها. وبالنسبة لهذه القوى النافذة في طهران، فإن العقوبات ليست أدوات للمعاناة قصيرة المدى فقط، وإنما هي الحافز المحتمل للتأسيس لمستقبل أكثر استدامة.
لكنّ ما قد لا يعترف به الأكثر أيديولوجية من بينهم هو أن إيران يمكن أن تشهد، مع بقاء العقوبات، تباطؤاً للنمو فقط في المستقبل المنظور. وعلى الرغم من أن النمو البطيء قد يكون مستدامًا بينما تنتظر إيران لترى ما ستفعله الولايات المتحدة في عهد بايدن، فإن على الجمهورية الإسلامية أن تعمل، على المدى الطويل، على تفعيل الميثاق الاجتماعي الذي استمر لمدة أربعة عقود: أي أنها يجب أن تعود إلى نوع النمو الاقتصادي المستدام والحد من الفقر اللذين شهدتهما البلاد قبل تعرضها للعقوبات. وحتى يتحقق ذلك، سوف تحتاج إيران إلى التوفيق بين طموحاتها السياسية -كقوة إقليمية يمكنها تحدي الولايات المتحدة- وبين هدفها الاقتصادي المتمثل في تحقيق النمو.
لا يعني مفهوم اقتصاد المقاومة، كما يُناقَش في إيران، تحقيق الاستقلال الاقتصادي أو الاكتفاء الذاتي، وإنما يعترف بدلاً من ذلك بالحاجة إلى أن تقايض إيران إمداداتها الوفيرة من النفط والغاز بالواردات والتقنيات الجديدة. وقد لا تقدم الدعوة إلى “النظر شرقاً”، كما حث المرشد الأعلى، حلاً للأحجية الإيرانية. فبعد كل شيء، لم يساعد الشرق كثيرًا في مكافحة عقوبات ترامب: روسيا مُصدرة للنفط والغاز في حد ذاتها وليس لديها الكثير لتقدمه لإيران إلى جانب الأسلحة، في حين تجنبت القوى الاقتصادية الآسيوية، مثل الصين والهند واليابان وكوريا، التجارة الرسمية مع إيران، بدافع خوفها، مثل أي طرف آخر، من فقدان الوصول إلى الأسواق الأميركية.
على المدى القصير، طالما كانت الجمهورية الإسلامية قادرة على إدارة استياء مواطنيها واحتوائه، فإن توقع بلينكين بأن تخفيف العقوبات هو “طريق طويل” قد لا يكون أخباراً سيئة لأولئك في طهران الذين يعارضون الاتفاق النووي. ولكن، لتحقيق اقتصاد مقاومة فاعل، تحتاج إيران إلى إعادة تفعيل الاتفاق النووي. ولهذا السبب، قد تمضي المفاوضات قدمًا حتى بعد انتخابات حزيران (يونيو) التي ستؤذن برحيل حكومة روحاني ووزير خارجيتها القدير، محمد جواد ظريف.
*Djavad Salehi-Isfahani: أستاذ الاقتصاد في جامعة فرجينيا للتكنولوجيا، وزميل أول غير مقيم في معهد بروكينغز.
*نشر هذا المقال في الأصل تحت عنوان: The Dilemma of Iran’s Resistance Economy: Imperviousness to Sanctions Will Require Growth
المصدر: الغد الأردنية/– (فورين أفيرز)