حسان الأسود
لم يكن مفاجئاً للمراقبين عن كثب الحضور القوي لأبناء درعا في احتفالية الذكرى العاشرة لثورة 18 آذار، السورية المجيدة، فدرعا البلد هي مهد الثورة، وعلى ثراها ارتقى في أول يوم منها شهيدان، محمود الجوابرة وحسام عياش، ولم تتوقّف مسيرة الشهداء. ومن الإنصاف أن تتمّ المقارنة بين احتفالية درعا التي استعاد نظام الأسد السيطرة عليها في منتصف عام 2018، بمساعدة حلفائه الروس، مع احتفالية غيرها من المدن المماثلة، كالقنيطرة أو دوما أو حرستا أو حلب الشرقية حتى، وليس مع احتفالية مُدن لا تزال خارج سيطرته مثل أعزاز أو الباب أو الرّقة أو القامشلي.
السؤال الذي يتجاوز أساليب المديح والثناء والاعتزاز والفخار، يجب أن يغوص في أعماق المستقبل. يومٌ مُشرق من أيام الثورة السورية، نعم وبكل تأكيد، لكن ما النتيجة التي يمكن أن نحصل عليها في آخر النهار؟ لهذا السؤال ما يتبعه، فالفكرة ليست محصورة بأنّ أهل درعا استطاعوا الحفاظ على شكل معيّن من الحرية، وعلى حدّ كبيرٍ وواسع من الخلاص (المؤقت) من سيطرة نظام الأسد وقبضته الأمنية، بل هي إلى متى يمكنهم البقاء هكذا أولاً، وأيّ شكلٍ من أشكال العلاقة مع الدولة يمكن لهم أن يطوّروا، بعدما عادوا إلى مجال سيطرتها الحيوي ثانياً، وهل يكفي الوقوف في ساحة المسجد العمري، ورفع علم الثورة والهتاف بأغانيها، أو في مقبرة الشهداء لنقرأ الفاتحة على أرواحهم ونجدد العهد والبيعة؟
سيقول قائلٌ إنّه لا فرق بين نظام الأسد (ومؤسساته الأمنية) والدولة، فالنظام هضم الدولة واستغرقها، وهذا صحيح، لكن هناك تطوّرات كثيرة حصلت خلال العقد الأخير من عمر سورية، لعلّ أهمها تحطّم هيبة هذا المنظومة مع تحطيم أول تمثال للأسد الأب في 25 مارس/ آذار 2011 في ساحة درعا المحطة. كذلك هناك احتلالٌ روسي حقيقي، تخضع له سورية بموجب اتفاقية موقّعة بين حكومتي بشار الأسد والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، جاءت نتيجة رسالة استغاثةٍ بعثها بشار مُستجدياً إنقاذه، وإنقاذ ما تبقى من نظامه المتهالك. وهناك، وهو الأهم، حالة التمرّد الشعبي العارمة، وكسر جدار الصمت وحالة الخوف في مملكة الأسد المتوحّشة، كما وصفها الفرنسي ميشال سورا ذات كتاب.
ما يجب البحث عنه بين أسطر قصّة صراع الوجود والبقاء هذه هو إمكانيّة الاستمرار من جهة، والبناء على هذه المكتسبات من جهة ثانية، للوصول إلى نقلة جديدة في العلاقة بين الناس والسلطة. هل استطاع أهل المنطقة هذه، أو غيرها من المناطق التي خرجت سنواتٍ عن سيطرة نظام الأسد أن يبنوا مؤسسة حقيقية خارج إطار العُصبة أو الرابطة العائلية أو العشائرية أو المناطقية الضيّقة، هل استطاعوا أو حتى فكّروا بإنشاء أحزاب أو منظمات مجتمع مدني، كالجمعيات المهنية أو الحرفية أو حتى الخيرية الأهلية، هل حاولوا استثمار خطاب الاحتلال الروسي العلني عن تدخله لحماية مؤسسات الدولة من الانهيار، للضغط على النظام، من أجل فتح قنوات العمل السياسي أو المدني المنظّم؟
الإجابة عن هذا السؤال غاية في الأهمية لقياس نتائج هذه الثورة، ليس على العلاقة مع السلطة الحاكمة فقط، بل وعلى طبيعة العلاقات الاجتماعيّة ذاتها، وعلى طرائق التفكير الجمعيّة والفردية. ولتتضحَ الصورة أكثر، سنأخذ مثالاً واقعياً بهدف تشريح هذه البنى المعقدة، وذكر معلومات عن بعض المناطق، لا ينطوي على إطلاق أحكام قيمة، بقدر ما يسعى إلى إظهار حقيقة التطوّرات الحاصلة في بنية المجتمع، لمعرفة المغارم والمغانم التي تحصّلنا عليها بعد عقد من الثورة على الديكتاتورية.
انقسمت محافظة درعا عملياً إلى أربع كتل أو قطاعات، بعد إعادة النظام السيطرة عليها، فكانت واحدة منها رخوةً لا قيادة مركزية فيها للقوى المجتمعية التي كانت تديرها قبل ذلك، وهذه هي المنطقة الشمالية الغربية والشمالية الوسطى من المحافظة، وتضمّ أكبر مدينتين بعد مدينة درعا، مركز المحافظة، وهما الصنمين ونوى. بعكس المنطقة الشرقية التي أصبح القرار فيها متركّزاً في مدينة بصرى الشام. وبعكس المنطقة الغربية التي مثلت مدينة طفس مركزها الحيوي، وعلى النقيض من درعا التي حافظت على صدارة المشهد الثوري أو المعارض، أياً كان الوصف الأنسب.
ولكن، يلاحظ أنّه على الرغم من وجود لجان مركزية في كلّ واحدة من هذه المدن الثلاث، وعلى الرغم من أنّ الذكرى العاشرة للثورة حدثٌ عظيمٌ لا يخصّ درعا البلد وحدها، ولا حتى حوران والجنوب، بل هو حدثٌ رمزي هائل، يخصّ سورية والسوريات والسوريين كلّهم، على الرغم من ذلك كله، لم نسمع أو نشاهد أي مشاركاتٍ حقيقيّةٍ تماثل احتفالية درعا البلد بهذه المناسبة، ولولا خروج بعض المظاهرات في مدن وقرى متفرقة، مثل الحراك والكرك الشرقي والجيزة وتل شهاب وجاسم، لظنّنا أنّ المحافظة تخلّت عن ثورتها بذكراها العاشرة. فهل عدمت تلك اللجان المركزية وسائل التواصل في ما بينها، لتتحد جهودها بهذا الأمر، أم أنّ الخلافات والإيديولوجيات التي كانت تحكم الفصائل المسلّحة قبل الانهيار ما زالت هي ذاتها السائدة في المنطقة؟
هذا المؤشر خطير للغاية، فالقوى المجتمعية في هذه المناطق لم تستطع أن تبني مؤسسات تدير شؤونها، لا في مرحلة السيطرة الفعلية السابقة، ولا في المرحلة الحالية التي أعقبتها. بقيت إدارة هذه المناطق مبنيةً على الطريقة القديمة ذاتها، أي على جهود تجميعية لأفراد بارزين من أصحاب الحضور العسكري أو المدني، ومن بعض الوجهاء المحليين، وهؤلاء لا يمكن التعويل عليهم لمواجهة مؤسسة أمنيّة متجذّرة منذ ستّين عاماً ونيّف، وتمتلك موارد دولة (مهما كانت أو أصبحت فقيرة) وإمكاناتها وأجهزتها. ببساطة، هؤلاء أفرادٌ، والأفراد يموتون. وفي هذا الظرف، هم مستهدفون بطبيعة الحال من النظام، ومن بعض المتطرفين من بقايا تنظيمي الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة، حلفاء النظام غير المعلنين.
بناء مؤسسات وإيجاد آليات للعمل المنظّم ليس ترفاً ولا تزيّداً، إنه ضرورة مُلحّة لازمة، وإن كانت غير كافية بحدّ ذاتها، لكنّها أولى خطوات الطريق إلى قطف ثمار الثورة وحصاد موسم الرفض والاحتجاج والخروج من ربقة طوق الاستبداد. لا يمكن أن نستفيد من هذه التضحيات الهائلة من دون مؤسّسات تترجمها إلى مكاسب سياسية، ولا يمكن أن نصنع التغيير في البنى المجتمعية، من دون أن نصنع آليات عمله وقواعد ضبطه وأدوات تنفيذه. وهذا كلّه يحتاج لبناء مؤسسات بهياكل تتناسب وطبيعة الواقع، وإلى إيجاد بُنى مؤسساتية وطرائق عمل مستدامة، تراكم الجهد وتنقله من مستوى الفعل الفردي وردّ الفعل إلى مستوى البيروقراطية المؤسّسية المنتظمة القادرة على البقاء والاستمرار والتطوّر بمعزل عن الأفراد.
من هنا، تأتي الإجابة عن سؤال المقال الرئيس، ماذا بعد؟ والإجابة تكمن في جملة واحدة، التخطيط الاستراتيجي المبني على قراءة مستنيرة للواقع والإمكانات والفرص والتحدّيات والعقبات. وهنا يأتي دور أبناء المنطقة المقيمين خارج سورية، والذي يحتاج مقالا آخر للحديث عنه، وإلا سيتكرر السؤال باستمرار، ولكن ماذا بعد؟
المصدر: العربي الجديد