عبد الباسط سيدا
اختلفت المقاربات التي تناولت زيارة البابا فرنسيس إلى العراق حول أهدافها، والرسائل التي تضمنتها. فهناك من اعتبرها تاريخية، كونها أول زيارة بابوية إلى بلاد الرافدين؛ كما أنها جاءت في وقت ما زالت الغيوم السوداء ملبدة في سماء المنطقة إلى جانب جائحة كورونا. وبناء على ذلك، وجد فيها هؤلاء رسالة إيجابية رمزية، تؤكد حرص الكنيسة الكاثوليكية، التي تعد أكبر مؤسسة دينية في عالمنا، على أهمية التعايش مع الآخر المختلف، واحترام التنوع، واللجوء إلى الحوار؛ وهي رسالة تنسجم مع مواقف البابا فرنسيس في مناسبات مختلفة، خاصة موقفه مما جرى ويجري في سوريا، وصلاته للسلام والأمان فيها.
هذا بينما شكك آخرون في نوايا الزيارة وخلفياتها، وغمزوا من قناة المؤامرة، بل أن بعضهم استنفر الذاكرة الشعبوية من خلال العودة إلى أيام الحروب الصليبية؛ وذلك في رؤية ماضوية تتقاطع في أوجه كثيرة منها مع التوجهات النكوصية للعديد من الحركات الإسلاموية التي ما زالت ترى أن الماضي الإسلامي المتخيل يظل هو النموذج الصالح لأي مشروع نهضوي مستقبلي. وينسى هؤلاء أن المآسي والحروب التي تعرضت، وتتعرض، لها منطقتنا منذ عقود، خاصة في العقدين الأخيرين، كانت، وما زالت، بيد أبناء المنطقة الذين استخدموا الدين والمذهب والقومية لتكفير وتخوين «خصومهم»، إن لم نقل «أعداءهم» المتخيلين من شركاء الأوطان والمصائر.
فما فعلته ميليشيات حزب الله والميليشيات المذهبية العراقية في السوريين من قتل وتشريد وتهجير على مدى عقد من الزمن لم تفعله فيهم إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948 إلى يومنا هذا. وما يفعله اليوم النظام الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن من قتل وتخريب، وتغيير في طبيعة المجتمع والأشياء، والتحكم بمفاصل الدولة والمجتمع، لم تفعله سلطات الانتداب والاحتلال الفرنسية والبريطانية. وما فعله «داعش» في الموصل وسهل نينوى وسنجار والرقة وكوباني ودير الزور وغيرها من المناطق السورية، لم تفعله أي قوة استعمارية أو صهيونية إذا استخدمنا مصطلحات أنصار «المقاومة والممانعة» والقوى «اليسارية والعلمانية» العربية التي تعاملت مع التوسع الإيراني وكأنه «فتح مبين».
كما أن الانتهاكات التي أقدمت عليها القوات التابعة لحزب العمال الكردستاني في مناطق سيطرتها، وتلك التي أقدمت عليها المجموعات المسلحة التي دخلت مع الجيش التركي إلى شمال غربي سوريا، خاصة في منطقة عفرين، هي الأخرى تمت، وتتم، بأيادي أبناء المنطقة.
والإنسداد العام الذي يعاني منه اللبنانيون اليوم إنما هو بفعل تحكم حزب الله المرتبط عضويا بالنظام الإيراني.
وتبقى الأمثلة كثيرة، لذلك سندعها جانباً، لنركز على البعد الإنساني في زيارة البابا، هذا البعد الذي تمثل في حرص البابا وهو ابن الـ 84 عاماً على التنقّل بين مختلف المناطق وسط المخاطر الأمنية، وزيارة الأماكن الرمزية، والالتقاء مع الناس العاديين من سائر الأديان والمذاهب، هذا إلى جانب لقائه مع آية الله السيستاني، ولقاءاته الرسمية مع المسؤولين العراقيين في بغداد وأربيل.
ومما استوقف في زيارة البابا تأكيده أهمية حماية التنوع، واعتباره نعمة لا نقمة، هذا التنوع الذي تعرض، ويتعرض، منذ عقود، لتهديدات وجودية بفعل النظرة الأحادية العنصرية لأتباع الأيديولوجيات بتياراتها وأسمائها المختلفة. والتنوع في مجتمعاتنا ليس ظاهرة جديدة بل هوية مستمرة منذ أقدم العصور، وقد تم التعامل مع هذه الظاهرة-الهوية بأساليب عدة خلال مختلف المراحل التاريخية.
والملاحظ هو أن القاسم المشترك بين مراحل الازدهار التي كانت تمثل باستمرار في هيمنة أجواء التسامح، والقدرة على العيش المشترك، واحترام الآخر المختلف.
وما يسهّل التسامح الديني هو أن الأديان بصورة عامة تخاطب الجانب الروحي في أتباعها، وتقدم الإجابات المجازية عن الأسئلة الهامة الوجودية التي تقلق الإنسان عادة، سواء ما يتصل منها بمعنى الحياة ورسالة الإنسان، والعلاقة بين الإنسان والإله، والخير والشر، والثواب والعقاب، والجانب القيمي في المجتمع، وهو الجانب الذي ينظم العلاقات ضمن المجتمع، ويحدد القواعد والضوابط التي تتحول مع الوقت إلى جزء من الإرث الثقافي الذي يحترمه الجميع بغض النظر عن دينهم أو مدى التزامهم الديني.
والدين بهذا المعنى يؤدي وظيفة روحية توجيهية لإصلاح العلاقات بين الناس على مستوى الأفراد والجماعات. وهذه الوظيفة تستوجب الابتعاد عن الشرور بكل أنواعها، خاصة الفساد المالي الذي بات نخراً سرطانياً تعاني منه دول منطقتنا بصور عامة.
ولكن المصيبة الأخطر التي منيت بها منطقتنا باستمرار تتمثل في استغلال الدين ليكون أداة تعبوية لبلوغ مآرب سياسية. هذا ما فعلته الأنظمة، بما فيها تلك المحسوبة على العلمانية مثل النظام الأسدي في سوريا؛ كما فعلته الحركات الإسلاموية المعارضة لتلك الأنظمة.
إننا إذا فهمنا الدين على أنه علاقة روحية مقدسة بين الإنسان وربه، وهي علاقة تمثل محوراً مركزياً لجملة أسئلة وتطلعات تمسّ تفكير الإنسان المؤمن وسلوكياته، والمبادئ الأخلاقية التي تلزمه بمراعاة حقوق الآخرين، والحرص على المعاملة الحسنة، ورؤية الإنسان في الإنسان قبل أي اعتبار آخر؛ فهذا معناه إبعاد الدين، الذي يستمد قدسيته في منظور أتباعه من حقائقه المطلقة، عن المناكفات السياسية، التي تبقى في حدود «الحقائق النسبية»، وهي «الحقائق» التي تتغير بتغير الظروف والقوى المتنافسة، وحدود تشابك المصالح أو تعارضها.
وهذا ما يسوغ الدعوة إلى الفصل بين المؤسستين الدينية والسياسية. الأولى تستمد مشروعيتها من تجذرها في المجتمعات الإنسانية، ودورها الأخلاقي القيمي التوجيهي إذا صح التعبير. في حين أن الثانية تستمد هذه المشروعية من دورها الإداري التنظيمي، والخدمي الدفاعي.
مجتمعات منطقتنا تعيش اليوم مرحلة من أسوا المراحل التي شهدتها. فهي تعاني من تصدّعات كبرى في النسيج المجتمعي الوطني بسبب استبداد وفساد الأنظمة الحاكمة التي استغلت شعارات المقاومة والممانعة والتحرير لبناء جيوش وأجهزة مخابراتية أخطبوطية، استخدمتها لقمع شعوبها.
إلى جانب ذلك تتعرض مجتمعاتنا لانهيارات اقتصادية كبرى بسبب الحروب التي كانت بين الميليشيات المذهبية مثلما حصل في العراق، أو بفعل الحرب التي أعلنها النظام السوري على الشعب الذي طالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية؛ أو بفعل تحكم ميليشيات مذهبية تابعة للنظام الإيراني بالدولة والمجتمع في لبنان.
نحن في حاجة إلى مراجعات كبرى لمفاهيمنا، وأدوات تفكيرنا، وتوجهاتنا الأيديولوجية، حتى نتمكن من تجاوز هذه المرحلة بأقل الخسائر، ونستطيع النهوض، وبناء أوطان تحتضن مواطنيها في ظل أنظمة حكم رشيدة تستمد مشروعيتها من إرادة المواطنين الأحرار.
هل ستفتح زيارة البابا فرنسيس الهامة إلى العراق، ولقاءاته وتصريحاته وتمنياته، الآفاق أمام إبعاد الدين عن استغلال المؤسسة السياسية، ليصبح مصدراً للقيم الأخلاقية التي تدعو إلى احترام كرامة الإنسان بغض النظر عن دينه أو قوميته أو لون بشرته أو تفكيره؟
نحن في حاجة إلى عملية تطهير روحية كبرى، تضع حداً للنوازع الشريرة التي تفتك بمجتمعاتنا وتهدد مصير أجيالنا المقبلة. أما السياسة فتترك للسياسيين ممن يختارهم الشعب بإرادته الحرة، وبناء على تقديره لأهليتهم وصلاحيتهم؛ وبموجب آليات تمكّنه من مساءلتهم ومحاسبتهم في إطار نظام ديمقراطي أساسه توزيع السلطات، وعماده القضاء العادل المستقل.
هل ستساهم زيارة البابا فرنسيس غير المسبوقة إلى بلاد «أور نمو» و»سرجون» و»حمورابي» و»آشور بانيبال» و»ابراهيم الخليل» و»صلاح الدين» في استعادة مجتمعاتنا لتدينها المعتدل حتى تستعيد توازنها، وتتمكن من المحافظة على تنوعها المميّز في ظل أنظمة سياسية تكون بالجميع وللجميع؟
هذا ما تتوخاه شعوب منطقتنا وتتطلع إليه.
المصدر: القدس العربي