ترجمة: علاء الدين أبو زينة
تسببت جائحة “كوفيد -19” في خسائر فادحة لعمال العالم. فقد دمَّرت ملايين الوظائف، متسببة في انخفاض في التوظيف بلغ 14 ضعف حجم الانخفاض الذي جاء في أعقاب الأزمة المالية التي حدثت قبل عقد من الزمان. وفي العديد من البلدان، ارتفعت معدلات البطالة إلى مستويات شوهد مثلها آخر مرة في ثلاثينيات القرن الماضي، وتركز الألم بين ذوي المهارات المنخفضة. وأدى الوباء أيضًا إلى تفاقم مظاهر التفاوت التي كانت في السابق تتفاعل تحت السطح فحسب. وترتب على العاملين “الأساسيين” الاستمرار في رحلاتهم من وإلى أماكن عملهم، وتعريض أنفسهم للفيروس والموت بأعداد كبيرة، حتى بينما تمكن العديد من مواطنيهم من حماية أنفسهم في المنازل. وهناك الكثيرون الذين يخشون الآن أن يشهد سوق العمل بعد الوباء ارتفاعًا مستمرًا في عدم المساواة والبطالة، مع نقل العمل إلى خارج البلدان أو تسليمه إلى الروبوتات، ببساطة.
ومع ذلك، تبين في كثير من المرات التي سجلها التاريخ أن الاعتقاد بأن شيئاً ما قد حدث خطأ لأسواق كان خاطئاً. وقد أعرب الناس، منذ فجر الرأسمالية، عن أسفهم لحال عالَم العمل، معتقدين دائمًا أن الماضي كان أفضل من الحاضر، وأن عمال الوقت الحاضر يتلقون معاملة سيئة بطريقة فريدة. وجادل آدم سميث بأن القطاع الصناعي المزدهر في أواخر القرن الثامن عشر في اسكتلندا استطاع أن يجعل العمال “أغبياء وجاهلين بأكبر قدر من الغباء والجهل يمكن أن يصل إليهما مخلوق بشري”. واعتقد إميل دوركهايم بأن الناس كانوا، في الماضي المجيد في فرنسا، يتمتعون بالعمل لأنهم كانوا يسيطرون عليه، وكانوا بارعين فيه، ومارسوه في أحضان مجتمعهم -لكن الرأسمالية سرقت كل هذا.
وحتى في “العصر الذهبي” في خمسينيات وستينيات من القرن الماضي، عندما كان من المفترض أن تكون الوظائف أفضل بكثير مما هي عليه اليوم، كانت القصة عن عدم الرضا تلوح في الأفق بشكل كبير. في الخمسينيات من القرن الماضي، أكد العديد من علماء الاجتماع أن عمال السيارات النقابيين في أميركا كانوا غير سعداء لأن عملهم كان مملًا وكانوا يفتقرون إلى أي استقلالية. وبحلول نهاية الستينيات، دخل مفهوم “الياقات الزرقاء” مخيلة الجمهور(1).
قبل وقت قصير من تفشي وباء “كوفيد -19” في أوائل العام الماضي، كانت لدى الناس مسبقاً مجموعة جديدة من المخاوف بشأن العمل. كانت الفكرة السائدة، عند أولئك في اليمين واليسار، هي أن عمال القرن الحادي والعشرين عالقون في وظائف غير آمنة وذات أجور زهيدة، -إذا تمكنوا من العثور على عمل من الأساس- وأن الكثيرين منهم واجهوا مستقبلًا أكثر سوءاً، حيث تدفعهم الروبوتات التي تزداد ذكاء إلى الجوانب. وكانت أي وظائف تبقت، بالنسبة لكثير من الناس، بلا روح ولا طائل من ورائها وغير مرضية. وتحدث غاي ستاندينغ، الاقتصادي، عن “البريكاريا” المتنامية (2). وصاغ ديفيد غريبر، عالم الأنثروبولوجيا، مصطلح “وظائف الهراء” في أحد الكتب الأكثر مبيعًا في العام 2018. وسأل ديفيد بلانشفلاور من كلية دارتموث في كتاب نُشر بعد عام: “أين ذهبت كل الوظائف الجيدة؟”.
سوف يقدم هذا التقرير الخاص دحضًا لمثل هذه التقييمات المتشائمة. بالتركيز على 37 دولة أعضاء في نادي “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” المكون في أغلبه من البلدان الغنية، يجادل بأن التصورات الشعبية حول عالم العمل مضللة إلى حد كبير. كان سوق العمل قبل “كوفيد -19” بعيداً عن الكمال، لكنه كان أفضل مما ادّعى العديد من النقاد -وكان يتحسَّن أيضاً. وكان الوباء كارثة بالنسبة للكثيرين، كما سيصف هذا التقرير بالتفصيل، لكن إرثه الدائم قد يكون عالمًا أفضل للعمل، لأنه يسرِّع من التغييرات التي كانت جارية مسبقاً ويسلط الضوء على المناطق التي تحتاج إلى مزيد من التحسين.
وهذا مهم. ليست أسواق العمل مهمة لأنها تسمح للناس بأن يكسبوا ما يكفي لوضع الطعام على موائدهم فحسب. ربما تكون وظائف الأفراد هي المكون المفرد الأكبر لهويتهم. إنها تشكل سياساتهم. ومن المريع والمحبِط أن يكون المرء عاطلاً عن العمل عندما تكون راغباً فيه، أو أن يكون عالقًا في وظيفة يكرهها. وعادة ما ترتبط معدلات البطالة المرتفعة بارتفاع معدلات الجريمة وتدهور الحالة الصحية. وتشير التقديرات من أميركا إلى أن ارتفاع معدل البطالة خلال العام 2020 سوف يتسبب بـ800.000 حالة وفاة إضافية على مدار الأعوام الخمسة عشر المقبلة.
وهذا يجعل من حسن الطالع أن عالم العمل قبل أن يضرب الوباء كان ناجحًا حقًا. في العام 2019، كان معدل البطالة في العالم الغني أقل مما كان في أي وقت منذ الستينيات. وفي أميركا، كانت البطالة بين السود هي الأدنى على الإطلاق، وكذلك كان حالها في بريطانيا. كما انخفضت أيضًا بطالة الشباب التي بدت ذات يوم مستعصية على الحل (خاصة في أوروبا).
كما أن معدل العمالة في سن العمل (حصة الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و64 عامًا في وظيفة)، وهو مؤشر موثوق لصحة سوق العمل أكثر من البطالة، كان أيضًا في أعلى مستوياته على الإطلاق في أكثر من نصف البلدان الغنية. وكانت المفاجأة الكبرى للعديد من الاقتصاديين في معسكر اليمين هي أن طفرة الوظائف هذه حدثت حتى بينما كان الحد الأدنى للأجور يرتفع بسرعة في جميع أنحاء العالم الغني وبينما ارتفعت معدلات الهجرة. وكانت الصدمة المماثلة لأولئك الذين على اليسار تتمثل في أن الرأسمالية كانت تحقق مكاسب واضحة لمن هم في النهاية الدنيا لسوق العمل.
ربما لم تكن الأجور ترتفع بالسرعة التي كان يتمناها الكثيرون، لكن حقبة التسويات المتدنية للغاية التي ميزت تداعيات الأزمة المالية في 2007-2009 قد انتهت. في أواخر العام 2019، كانت أرباح الدول الغنية تنمو بنسبة 3 % تقريبًا سنويًا (لم يكن الرقم أعلى من ذلك، جزئيًا لأن الأشخاص الأكثر فقرًا كانوا ينضمون إلى صفوف المستخدَمين بأعداد ضخمة، ما أدى إلى انخفاض متوسط الأجور). كانت أجور الأميركيين ذوي الأجور الأسوأ تزداد بنسبة 50 % أسرع من أجور أصحاب الأجور الأعلى. وغالبًا ما يركز الاقتصاديون على “حصة العمالة” التي تقيس إجمالي الأجر والمزايا (مثل الرعاية الصحية أو مساهمات المعاشات التقاعدية) كنسبة من الدخل القومي، لإعطاء فكرة عن أداء العمال بالنسبة لنمو الاقتصاد. وفي الأعوام التي سبقت فيروس كورونا مباشرة، كانت حصة العمالة هذه ترتفع في جميع أنحاء أميركا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي واليابان.
ومع ذلك، من الصحيح أيضًا أن التفاوت في الدخل كان مرتفعًا بالمعايير التاريخية. لكنه، بحلول أواخر العام 2010، لم يعد يرتفع، بل وربما كان ينخفض قليلاً، حيث انجذب الناس الأكثر حرمانًا إلى طفرة الوظائف. كان هناك بالتأكيد عدد أقل من الوظائف منخفضة الأجر، والتي تُعرف بأنها تلك التي تدفع أقل من ثلثي الأجر المتوسط. في بريطانيا، على سبيل المثال، لم يسبق وأن كان هناك مثل هذا العدد القليل جدًا من هذه الوظائف منذ العام 1977.
كما لم تكن هناك الكثير من الأدلة على تزايد “البريكاريا”. وحسب ورقة بحث تركز على أميركا وبريطانيا وألمانيا، من تأليف آلان مانينغ وغراهام مازين من كلية لندن للاقتصاد، فإنها “لا توجد اتجاهات في… انعدام الأمن الوظيفي الذاتي على الرغم من الارتفاع المزعوم في انتشار العمالة غير المعيارية”. وبحلول العام 2019، انخفضت نسبة العمال الألمان الذين يشعرون بعدم الأمان بأكثر من النصف منذ منتصف العقد الماضي. وتشير التقديرات الرسمية للعمالة في اقتصاد الوظائف المؤقتة إلى أنها لا تشكل سوى نسبة ضئيلة من جميع الوظائف.
وبدا أن المزيد من الناس يستمتعون بعملهم أيضاً. في العام 2019، وجدت مؤسسة غالوب الأميركية لاستطلاعات الرأي أن نسبة الأميركيين الراضين “كليًا” أو “نوعًا ما” عن وظائفهم كانت ثاني أعلى نسبة منذ أن بدأت المؤسسة سلسلتها في العام 1993. كما كانت مقاييس مختلفة للرضا الوظيفي تظهر أيضاً في أوروبا. ومن الصعب إجراء مقارنات مباشرة مع العصر الذهبي للاقتصاد في الخمسينيات والستينيات، لكنّ هناك القليل من الأدلة من الاستطلاعات المتفرقة التي يمكن نفض الغبارة عنها للإشارة إلى أن الرضا الوظيفي كان أعلى في ذلك الوقت.
قد يعتبر الأشخاص ذوو التعليم الجيد الذين يشغلون مناصب رفيعة المستوى أن العديد من الوظائف في سوق العمل الحديثة أدنى منهم -ربما شاقة بطريقة غير مجزية على المستوى الفكري. لكن هذه كانت مقايضة أخرى في سوق عمل ساخن: فقد أصبحت الوظائف متاحة على نطاق أوسع للأشخاص الحاصلين على أدنى المؤهلات التعليمية. وبالنسبة لهؤلاء الناس، يوفر العمل قدرًا من الأمن الاقتصادي والكرامة، لا يمكن أن يقدمه أبداً كون المرء عاطلاً عن العمل. ويسهل هذا بشكل حاسم أيضاً الحصول على الوظيفة التالية. ووجدت دراسة أجرتها “بيرنينغ غلاس”، وهي شركة لتحليلات سوق العمل، أن نصف العمال الشباب قادرون على ترجمة وظيفتهم الأولى، التي تتطلب غالبًا أقل من درجة البكالوريوس وخبرة أقل من عامين، إلى وظائف ذات رواتب أفضل دخلاً في غضون خمسة أعوام.
طريق طويل إلى البيت
السؤال الكبير هو ما إذا كان بإمكان أسواق العمل أن تستعيد بعد انتهاء الوباء هذه الذرى وأن تشرع مرة أخرى في العمل لصالح الأشخاص من جميع الخلفيات. وبعيدًا عن جعل كل شيء أسوأ، سوف يجادل هذا التقرير الخاص بأن “كوفيد -19” سيجعل الأمور في النهاية أفضل من خلال تسريع تلك التغييرات التي كانت جارية مسبقاً. وسيحدث هذا من خلال عدد من المسارات.
بفضل ظهور العمل عن بُعد، سيكون لدى المزيد من الأشخاص المزيد من المرونة بشأن متى وأين وكيف يكسبون رزقهم. ثمة بعض رؤساء العمل الذين سيكونون غير مبالين كليًا بما إذا كان موظفوهم يعملون من نيويورك أو من نيوي. لكن التحول إلى نموذج العمل الهجين “المختلط”، حيث يتواجد بعض العاملين في المكتب والبعض الآخر في المنزل، يجبر المديرين مسبقاً على أن يصبحوا أفضل في التواصل، ما يحسن رضا الموظفين عن العمل. كما أنه يحفز إجراء التغييرات المفيدة التي طال انتظارها في قانون العمل.
وليست هذه هي الطريقة الوحيدة التي تتغير بها السياسة. لقد جعل ما خُسِر في العام الماضي الحكومات في كل مكان تدرك فوائد وجود سوق عمل صحي، وخاصة للأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط. وبالتالي، يبشر الوباء بدور أكبر للحكومات مما كان متوقعًا في السابق، لا سيما في إدامة التوظيف، وبذل المزيد من الجهد للحد من عدم المساواة والتوصل إلى أنظمة أفضل تصميمًا لصيانة حقوق الموظفين ومزايا الرعاية الاجتماعية.
وماذا عن الأتمتة التي تشكل مكمن خوف دائم آخر بشأن عالم العمل؟ يشعر البعض بالقلق من أن تجربة العام الماضي قد تمنح الرؤساء العذر الذي طالما أرادوه لتوظيف الروبوتات بدلاً من الناس، ما يؤدي إلى انتشار البطالة على نطاق واسع. وغالبًا ما تثير حالات الركود والأوبئة انفجارًا في الأتمتة. لكن من غير المرجح أن يتحقق ذلك التهديد المزعوم في شكل عالم بلا عمل -بل إنه يمكن أن يتراجع.
مع ذلك، على المدى القصير، ثمة سؤال واحد يلوح في الأفق أكبر من كل شيء آخر، وهذا الذي ينبغي التظر فيه تالياً: ما السرعة التي يمكن أن تتعافى بها أسواق العمل من صدمة الربيع الماضي؟
*نشر هذا التقرير تحت عنوان: The future of work: A bright future for the world of work
هوامش المترجم:
(1) ذو الياقة الزرقاء: Blue-collar worker هو شخص من الطبقة العاملة يمارس عملاً يدوياً. وقد يشمل عمل ذوي الياقات الزرقاء العمالة الماهرة أو غير الماهرة. وقد يشمل نوع العمل التصنيع، والتخزين، والتعدين، والحفر، وتوليد الكهرباء وعمليات توليد الكهرباء، وأعمال الحراسة، والزراعة، والصيد التجاري، وقطع الأشجار، والمناظر الطبيعية، ومكافحة الآفات، وتجهيز الأغذية، وحقول النفط، وجمع النفايات والتخلص منها، وإعادة التدوير، البناء والصيانة والشحن والقيادة والشاحنات والعديد من أنواع العمل البدني الأخرى. غالبًا ما ينطوي عمل ذوي الياقات الزرقاء على شيء يتم بناؤه أو صيانته فيزيائياً.
(2) في علم الاجتماع والاقتصاد، فإن البريكاريا precariat هي مصطلح جديد يصف طبقة اجتماعية تتكون من أشخاص يعيشون في وضع اقتصادي هش موسوم بالشك وعدم اليقين، وهو ما يعني العيش من دون قدرة التنبؤ أو الشعور بالأمن، ما يؤثر في الرفاهية المادية أو النفسية، ويمكن أن يقود إلى التطرف والشعبوية.
المصدر: الغد الأردنية/(الإيكونوميست)