رلى موفّق
لن تهدأَ الحرب الإيرانية – الإسرائيلية الصامتة. قد تعلو وتيرتُها أحياناً أو تَخفت، لكنها لن تتوقّف أبداً. مساراتها ثلاثة: الضربات على إيران في سوريا، والضربات البحرية، والضربات على البرنامج النووي، ولكل مسارٍ قواعد اشتباكه.
في مسار الضربات في سوريا، تستهدفُ إسرائيل مواقع ومخازن وشحنات وخطوط الإمداد والتحصينات التي تعود لإيران. ما يهمها هو منع إنشاء بُنية تحتيّة عسكرية ولوجستية إيرانية في جنوب ووسط سوريا. طهران تحتفظُ بحق الردّ. حاولت أن تُكرِّسَ معادلة «ضربة مقابل ضربة» لكنها سرعان ما وجدت أنه ممنوع عليها تثبيت قواعد الاشتباك هذه. يقول عارفون إن بحثاً مطوّلاً، حول طبيعة الرد ومآلاته، جرى بين الإيرانيين والرئيس السوري بشار الأسد، وكان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله جزءاً منه، أفضى إلى أن تجاوزَ الخطوط الحمر من شأنه أن يُصيبَ الأسد الذي يُشكّل بقاؤه على رأس الحكم في سوريا أولوية إيرانية.
كانت النتيجة أن قررتْ طهران «العضّ على جرح الضربات» في سوريا وعدم الردّ، في مقابل مواصلة العمل بصمت لتثبيت بنى تحتية متكاملة لها في مناطق الجنوب وضواحي دمشق وفي حمص وحماة وصولاً إلى حلب، إضافة إلى الشرق السوري حيث وجودها في البوكمال – دير الزور – الميادين على الحدود السورية – العراقية. رسمتْ قواعد اشتباك تقوم على معادلة: «كلما استهدفتها الضربات، ازداد إصرارها على التمسك بتواجدها وتكريسه». تحدّث الجيش الإسرائيلي، في تقريره السنوي، أنه قصف خلال العام 2020 نحو 50 هدفاً في سوريا، فيما تعتبرُ إيران أنها نجحت في ترسيخ حضورها العسكري والاجتماعي على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية. ما يكشفه هؤلاء العارفون أن الإيرانيين استطاعوا، قبل فترة، وعن طريق «الإدارة الدبلوماسية» عبر طرف ثالث، على الأرجح روسيا، في أن يكون استهدافهم «أقل شدّة». هذا يعني عملياً أن الضربات الإسرائيلية أنتجتْ نوعاً من قواعد اشتباك جديدة بين الجانبين.
المسار الثاني المتمثل بالضربات البحرية أو حرب استهداف السفن، والذي يشهدُ وتيرةً متصاعدةً من قِـبَـل الطرفين. إيران تردُّ، وإن كان سياقها لا يبدو قائماً على معادلة «استهداف مقابل استهداف» ذلك أن صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية كشفت أن إسرائيل استهدفت بألغام بحرية، منذ 2019 ما لا يقل عن 12 سفينة أثناء توجهها نحو سوريا عبر البحر الأحمر وممرات مائية أخرى في المنطقة، معظمها تحمل نفطاً إيرانياً، وأن السفن الإيرانية تعرّضت في العام 2020 لـ6 هجمات على الأقل.
ولكن خلال هذين الشهرين ارتفعت وتيرة الضربات الإيرانية. تتحدثُ التقاريرُ عن استهداف 3 سفن إسرائيلية في خليج عُمان وبحر العرب. ثمّة عدم وضوح في طريقة الاستهداف، وما إذا كانت ألغاماً بحرية، أو عبوات ناسفة، أو طائرات مسيرة، أو صواريخ مجنّحة. برأي لصيقين بـ»محور إيران»، أن التصعيد الإيراني في «حرب البحار» يُربك إسرائيل بشكل كبير لأن ساحات المواجهة واسعة، حيث إن طهران قادرة على الحركة بسهولة، من بحر عُمان إلى الخليج العربي، ومضيق باب المندب، والبحر الأحمر، ما يضع خطوط الأمان للتجارة والاقتصاد الإسرائيليين في خطر، ويُوجّه في آن رسائل غير مباشرة للتعاون الخليجي – الإسرائيلي. حتى الآن لا تزال «حرب السفن» تدور في فلك الغموض البنّاء، ومن المُستبعد أن تؤدي إلى حرب شاملة، ذلك أن كلا الطرفين يحسب الخطوات بدقة، وإن كانت القاعدة في علم المواجهات تُفيد بأنه «حين يتطايرُ الشررُ يمكن أن ينشبَ الحريق». في رأي المراقبين أنّ «حربَ استهداف السفن» محدودة الأطراف، ولا تزال الولايات المتحدة غير منخرطة فيها، لا بل إنها تقف موقف المتفرّج.
ويبقى المسار الثالث الأكثر قلقاً للجميع. فالضربات على البرنامج النووي في الحرب الساخنة، غير المعلنة، هي مزيج من ضربات أمنية وسيبرانية للمنشآت، واغتيال للعلماء. محاولات الاغتيال تعود إلى سنوات طويلة مضت. نحو 15 عالماً استُهدفوا، وكانت ذروة الاستهداف محسن فخري زادة قرب طهران، الذي يعتبره تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية شخصية محورية في أنشطة إيرانية مشتبه بأنها تسعى لتطوير تكنولوجيا ومهارات مطلوبة لصنع قنابل نووية. وُصف بأنه «أبو القنبلة النووية الإيرانية»، وتوعّد المرشد الأعلى بمحاسبة القاتلين، في دلالة على مكانة الرجل في علم الذرة، تماماً كما توعّد بالرد عند مقتل قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري قاسم سليماني في بغداد.
يُشكّل العلماء أهدافاً متحركة. أما تلك الثابتة، فهي المنشآت النووية التي كان نصيبُ منشآة نظنز منها ضربتين في أقل من سنة. الضربتان هما عمل أمني قائم على وضع عبوات. وهذا خرقٌ كبيرٌ يُشكّل إخفاقاً قاتلاً للإيرانيين. يقول عارفون في كواليس المحور إن الضربة في تموز/يوليو 2020 كانت قاسية ومؤذية ومؤلمة، وخلّفت أضراراً جسيمة. وطالت، بحسب تقارير، مختبراً فوق الأرض يتم استخدامه لإعداد أجهزة الطرد المركزي المتقدمة. يومها حدّد الإسرائيليون بأن ضررها يحتاجُ إلى أشهر لتجاوزه، وهذا ما حصل بالفعل، فيما الضربة الثانية في نيسان/إبريل الحالي، كانت محدودة الضرر، وفق هؤلاء، واستفادت طهران من الضربة للإعلان عن إبدال الجيل القديم لأجهزة الطرد المركزي (IR1) بسلسلتين جديدتين هما (IR6- IR9) التي تتيحُ تخصيب اليورانيوم بسرعة أكبر. وهاتان السلسلتان تشكّلان خرقاً لأحكام الاتفاق حول النووي الإيراني المبرم عام 2015، تماماً كما الذهاب إلى الإعلان عن بدء التخصيب سابقاً بنسبة 20 في المئة، ومن ثم رفعه في نظنز منذ أيام إلى نسبة 60 بالمئة، الأمر الذي اعتبره الرئيس الإيراني حسن روحاني بمنزلة «ردّ طهران» على «الإرهاب النووي» لإسرائيل.
رغم أن كثراً من المحللين أدرجوا استهداف السفينة الإسرائيلية قبالة سواحل الإمارات في 13 نيسان/أبريل بأنه ردٌ على ضربة نظنز الثانية، فإن متابعين للملف لا يؤيدون ذلك، إذ يرون أن طهران تفصلُ المسارات الثلاثة عن بعضها، فلكل منها قواعد اشتباكه. في المسار الثالث، تؤكد أن الردَّ سيأتي على طريقة «الغموض البنّاء» ويتناول هدفاً من الطبيعة نفسها يمكن أن يُشكّل رسالة يفهمها المتلقي بسهولة. وهذا الردُّ لم يتحقّق بعد.
لم تنسف «ضربة نظنز» مفاوضات فيينا، بل على العكس، استغلتها طهران لفرض وقائع جديدة على الطاولة من خلال نشر طاردات من جيل جديد ورفع نسبة التخصيب إلى 60 بالمئة، والتلويح بالذهاب إلى نسبة 90 في المئة التي تسمح بالوصول إلى إنتاج قنبلة نووية. وحين تصل إلى تلك النسبة، فإنها تحتاج إلى أقل من سنة للتحوّل إلى دولة نووية، هذا إذا سلّمنا جدلاً بأنها لم تصل إلى تلك النسبة في منشآت سرية.
تجمع طهران أوراقها النووية، وستعمدُ في إطار سياسة الخطوة – الخطوة التي نتجت عن محادثات فيينا، إلى تراجعها عن انتهاك من الانتهاكات الجديدة التي بدأت تدوّن في اللائحة، مقابل تراجع واشنطن عن عقوبة من العقوبات التي وضعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عند انسحابه من الاتفاق النووي عام 2018، والتي يتمُّ إعداد لائحة بها.
طهران تضع موعداً هو نهاية الصيف للعودة إلى الاتفاق النووي. ويقول لصيقون بها إن الإعلان سيكون زلزالاً على المنطقة. وقد حُسم في فيينا بأن المحادثات ستتناول الاتفاق بنسخة 2015 من دون أي تعديل. أمريكا ورئيسها جو بايدن يدركان تمام الإدراك أن ملفي «الصواريخ البالستية والنفوذ الإقليمي» هما أعقد من الاتفاق النووي، وأنهما سيأخذان سنوات طويلة وطويلة جداً من التفاوض.
سيبقى «كباش» الحرب الصامتة سائراً في المسارات الثلاثة، التي تؤدي أغراضها، وهي مترابطة في نتائجها الهادفة إلى تكريس موقع إيران وقوتها ونفوذها كلاعب يصطف إلى جانب الكبار، وهي تتهيّأ لإبرام اتفاق استراتيجي خلال أسابيع مع روسيا شبيه بالاتفاق الاستراتيجي الذي وقعته مع الصين.
المصدر: القدس العربي