مسلم طالاس
هناك همان يسيّران السياسة الاقتصادية التي يتبعها النظام السوري، هم استراتيجي وهم آني. الهم الاستراتيجي هو أن تخدم السياسة الاقتصادية وتضبط (التركيب الطبقي) والنشاط الاقتصادي للمجتمع بحيث يبقى على صورة تضمن استمرارية السلطة الحاكمة. أما الهم الآني فهو خدمة العقلانية الاقتصادية (أي قيم الكفاءة والمنافسة العادلة والاستقرار…الخ) التي يمكن أن تؤدي إلى النمو الاقتصادي والرفاه العام. والهم الاستراتيجي يحتل الأولوية على الهم الآني. بمعنى إن تعارضت العقلانية الاقتصادية مع استمرارية النظام فلا بد من التضحية بالعقلانية الاقتصادية فوراً.
ومنذ أواسط السبعينيات، وضمن المنطق السابق بدأت في سوريا سياسة اقتصادية ذات طابع انفتاحي مضبوطة بشدة بحدين:
الحد الأول: هو توسيع قاعدة النظام الاقتصادية نحو القطاع الخاص. على أن يتكون هذا القطاع الخاص من شريحتين: الأولى: وهي البرجوازية السابقة التي ترتضي التدجين بشروط النظام. والثانية: هي برجوازية جديدة من النخب السياسية الحاكمة والتي تشكلت ثروتها من خلال أعمال السمسرة والرشوة والريوع الحكومية الأخرى. وتبنى بين الفئتين شراكة، حيث توفر الثانية للأولى فرصا احتكارية للعمل الاقتصادي المربح، بينما توفر الأولى لها في المقابل الخبرة والأسواق والولاء. وقد سمى ستيفن هيدمان هذه الفئة “بشبكة الريع بين الدولة والقطاع الخاص”. وظيفة هذه الشراكة (الشبكة) هي ضبط القطاع الخاص لمصلحة السلطة الحاكمة، مقابل التشارك في الريع الذي توفره سلطة الدولة الاقتصادية. ويمكن أن نسمي هذه الفئة الـ(البرجوازية الربيطة)[1], لأن ثروتها تكونت بصور غير طبيعية بدعم الدولة لها، وفي نفس الوقت عندما يشعر النظام بالحاجة فإنه يمكن أن يضحي بأي عدد منها لتبيض صفحته، سواء بمصادرة الأموال أو الاعتقال أو غير ذلك. ولدينا الكثير من أمثلة التضحية تلك على سبيل المثال لا الحصر يمكن أن نتذكر ما حدث مع رئيس الوزراء السابق محمود الزعبي أو رامي مخلوف.
الحد الثاني: هو الحفاظ على مكاسب الفئات الأساسية التي استمد النظام منها مشروعيته الأساسية وهي فئات فقراء الفلاحين في الريف والعمال وموظفي المدن. ولضمان استمرارية تلك المشروعية عمل على اعتماد تلك الفئات في توفير فرص العمل وتقديم الدعم للمواد الاستهلاكية الأساسية والوقود والأسمدة على الدولة. ولا بد من إجبارهم أحياناً على البقاء في مستويات من الدخل تبقيهم ضمن دائرة الاعتماد على ذلك الدعم. ويمكن أن نسميهم (فقراء المشروعية).
كل التحولات في السياسات الاقتصادية التي جرت في تاريخ سوريا منذ السبعينيات كانت مضبوطة بالمنطق السابق. أي أن الإصلاحات الاقتصادية التي توجت بقانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991 والتحولات الاقتصادية نحو اللبرلة التي تمت بعد تسلم بشار الأسد للحكم لم تكن تخرج عن منطق استمرارية قطاع خاص مدجن ضمن شبكة الريع وفئات فقيرة يزداد ارتباطها بالعمل في وظائف الدولة والدعم التمويني.
وضمن السياسة الاقتصادية تعمل السياسة النقدية على تحقيق الاستقرار السعري، أي استقرار قيمة العملة ودفع الاقتصاد نحو النمو. وضمن السياسة النقدية تعمل سياسة سعر الصرف بنفس الاتجاه في علاقة الاقتصاد مع الخارج. لكن هذا هو الجانب الآني في السياسة النقدية السورية، أما الجانب الاستراتيجي فيها، فهو أن تخدم المنطق الأساسي الذي أشرنا إليه وتنضبط بحدي الانفتاح الاقتصادي. أي أن عليها أن تتيح فرص الاغتناء المضبوط للبرجوازية الربيطة بمكونيها الخاص والحكومي. وفي نفس الوقت يجب أن تعزز اعتماد فقراء المشروعية على الدولة.
في هذا الإطار يمكن أن نشير إلى سياسة سعر الصرف التي تميزت في معظم الفترة الزمنية المشار إليها بتثبيت سعر أو أسعار صرف رسمية، عادة ما تكون أقل من سعر السوق السوداء أو السوق الحرة. وعند استيراد السلع اشترطت السلطة الحصول على إجازة استيراد. تضمن تلك الإجازة في كثير من الأحيان حصول المستورد على الدولار بالسعر الرسمي. بعد الاستيراد يتم تسعير السلعة بمرجعية السعر الحر، وهذا يضمن هامش ربح فاحش للمستورد. مثلا إذا افترضنا أن تاجراً استورد ليتر الزيت بدولار واحد خصص له من قبل البنك المركزي بسعر 50 ل.س وكان سعر السوق الحرة 100 ل.س للدولار فإنه يمكن أن يربح من فرق الدولار فقط 50 ل.س. متحججا بارتفاع سعر الدولار في السوق الحرة.
ومن الطبيعي أنه لم يكن يحصل على إجازات الاستيراد المهمة إلا الفئات المدللة عند النظام والتي تنتمي إلى البرجوازية الربيطة. ضمن هذه العملية تظهر السلطة نفسها بمظهر من يثبت سعر الصرف ويدفع الفرق بين سعر الصرف الرسمي والسوق الحرة من أجل تأمين السلع التموينية المستوردة بأسعار تناسب فقراء المشروعية الذين يفترض أن تباع لهم المواد بأسعار تحسب على أساس السعر الرسمي. وهذا ما لم يكن يحدث في الواقع إلا بهامش بسيط.
التحليل السابق يقودنا للتساؤل عن مصير محافظ البنك المركزي “حازم قرفول” ونسأل لماذا عزل بهذه الطريقة؟ هل خالف الرجل العقلانية الاقتصادية؟. قد تكون الإجابة نعم وقد تكون لا. الثابت أنه سعر الصرف هبط في عهده بشدة. لكن التحليل الاقتصادي يقول بأن البنك المركزي لا يستطيع الحفاظ على سعر صرف العملة مستقراً ما دام عجز الموازنة العامة للدولة يجبره على ضخ كميات جديدة منها في السوق، وما دام الاقتصاد منكمشا. وهذا هو حال الاقتصاد السوري. ليس للمحافظ أي سلطة مباشرة على الظاهرتين، فالأولى ناتجة عن ضعف إيرادات الدولة والنفقات الكبيرة التي تقوم بها، والثانية ناتجة عن مجمل الوضع الاقتصادي والسياسي وعلى رأسها الحرب المستمرة منذ حوالي الـ 10 سنوات.
ونطرح السؤال الثاني هل خالف المحافظ الهم الاستراتيجي للنظام وأساء لحدي ضبط السياسة الاقتصادية؟. بمعنى هل أتاح بالإجراءات التي اتخذها فرصة ربح غير مضبوطة سياسياً؟ وفي نفس الوقت هل أضرت إجراءات المحافظ بولاء فقراء المشروعية؟ الإجابة هي: قد يكون فعل الأمرين الإثنين معا. في الأول ربما يكون قد سهل حصول جهات معينة على قروض بشروط غير مضبوطة سياسيا أو غير قانونية مقابل حصص أو رشاوي أو أنه قدم لنفسه امتيازات ضخمة. ورغم أنه ليس هناك أي دليل مادي على ذلك حتى الآن، لكن السيرة السابقة لغالبية كبار مسؤولي الدولة تجعلنا لا نستبعد ذلك. وفي الثاني فإن الأمر يتعلق بمسؤولية موقع المحافظ في أعين عامة الناس. فسوريا تشهد ارتفاعات جنونية في الأسعار. وقد أشارت بعض التقديرات إلى أن الأسرة السورية المتوسطة تحتاج إلى أكثر من مليون ليرة شهريا لكي تعيش بالحدود الدنيا بينما متوسط راتب الموظف هو بين 50000-70000 ليرة. جعل هذا توفير الدعم التمويني ورواتب الوظائف الحكومية بلا أي معنى، بحيث أصبحت المشروعية المكتسبة من الفئات الفقيرة في خطر. فهم لن يستمروا بالشعور بالامتنان للنظام بل قد يتحول الأمر إلى نقمة. وباعتبار أن ارتفاع الأسعار مرتبط بدرجة كبيرة بتدهور سعر الصرف فإن المنطق العام ومنطق الاقتصاد السياسي للنظام يرشح المحافظ لتحمل مسؤولية ما حدث والتضحية به على مذبح استمرارية السلطة الحاكمة.
[1] – الربيطة خروف أو عجل لا يعتمد على الرعي بل يربط في البيت ويعلف بشكل جيد جدا لكي يسمن جيدا تمهيدا لبيعه أو ذبحه.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا