بسام مقداد
نبأ الفايننشال تايمز الأحد المنصرم عن جولة محادثات أولى في بغداد بين السعوديين والإيرانيين للبحث في إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، جعل الكل يرسم علامتي تعجب واستفهام. فالتصعيد الإعلامي بين الطرفين الذي تنخرط فيه كل مكونات الشرق الأوسط المنقسمة بين مؤيد ومناهض لأحد الطرفين منهما، كان يصعب معه توقع مثل هذا التطور، سيما أن الإشارات إلى إمكانيه حدوثه كانت قليلة، إن لم تكن معدومة. وبرز مباشرة التساؤل عن الجهة أو التطور، الذي جعل الطرفين يجلسان إلى طاولة المفاوضات، سيما أن العراق المضيف للحدث يبدو بانشغالاته الداخلية الوجودية، عاجزاً عن أن يكون وراء الحدث، وأن يوفر أكثر من المكان لعقده، وإن كان رئيس وزرائه قد أعلن عن الرغبة في أن يكون جسر تواصل بين أطراف النزاعات في المنطقة.
ردة الفعل الروسية، التي إقتصرت على ذكر النبأ، من دون أي تعليق رسمي عليه حتى كتابة هذه السطور، لا يبدو أنها هي من رتب عقد اللقاء، سيما أن الناطق بإسم الكرملين ونائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف، سبق لهما منذ زمن أن أعلنا، أن لا طهران ولا الرياض اقترحتا على روسيا، أن تكون وسيطاً لتسوية علاقاتهما. لكن من المفترض، أن روسيا ترحب باللقاء، حتى لو لم تكن هي من رتب إنعقاده، سيما أن حركتها الدبلوماسية النشطة بالمنطقة في الفترة الأخيرة ، تضع في رأس أولوياتها التقريب بين إيران والسعودية والدول العربية عموماً، وذلك بغية التصدي لمشروع “الناتو العربي”، الذي يجمع الدول العربية وإسرائيل في جبهة معادية لإيران.
ثمة الكثير من التكهنات حول العوامل التي دفعت السعودية إلى تجاوز موقفها المتصلب من إيران والجلوس معها إلى طاولة المفاوضات. على رأس هذه التكهنات تلك التي تربط الحدث بالأصداء الإيجابية التي تصدر عن المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة في فيينا، مما يزيد في مخاوف الرياض من أن يفضي نجاحها المحتمل إلى رفع مستوى ضغوط إدارة بايدن بشأن الحرب في اليمن ، وتوسيع دائرة تحفظاتها على سياسة الرياض في مجال حقوق الإنسان.
قد يكون عامل الوقت لم يسمح بعد للمواقع الإعلامية الروسية بالتعليق على الحدث، لكن سياسة إيران في المنطقة ومخططات توسيع نفوذها، هي محط إهتمام دائم من قبل هذه المواقع . قبل ثلاثة أيام من اللقاء السعودي الإيراني في بغداد، نشرت صحيفة “NG” الروسية نصاً بعنوان “هلسنكي للشرق الأوسط”، وأضافت “الأوهام والتصورات الخاطئة قد تكون أخطر من الصواريخ”. كتب النص الباحث في مركز دراسات الشرق الأوسط في مؤسسة تابعة لأكاديمية العلوم الروسية والخبير في منتدى”فالداي” للحوار الدولي نيكولاي سوركوف، الذي قال بأن لافروف تطرق مجدداً في المؤتمر الأخير لمنتدى “فالداي” حول الشرق الأوسط ، إلى مقولة الهيكيلية الجديدة للأمن في الخليج، التي إقترحتها موسكو العام 2019. والهيكلية بجوهرها، تشبه إتفاقيات هلسنكي العام 1975، التي وإن كانت لم تضع نهاية للمجابهة بين الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وأوروبا، إلا أنها جعلت العلاقات بين الدول العظمى منظمة وبناءة أكثر، وبرزت قواعد ما للعبة وآليات فض النزاعات. ويتساءل الكاتب عما يمكن أن يفعله المجتمع الدولي بشأن “الحرب الباردة” في الخليج.
يقول سوركوف، أن خبراء نظرية العلاقات الدولية يتفقون على أن للحروب والنزاعات أسباباً متعددة لا يمكن التأثير في بعضها، مثل الغرائز الإنسانية وخصوصيات أنظمة الدول الإقتصادية والسياسية، وأخرى يمكن تخفيض تأثيرها، أو إيجاد وسائل معطلة لها. وما يساعد في تصعيد التوتر في الخليج، هو التقويم الخاطئ لإمكانيات الأعداء المحتملين. فالصراع أكثر احتمالاً حين تغالي الدول في تقدير الإمكانيات العسكرية للأخصام وتؤمن بوجود تهديد هجوم مفاجئ، وهذا وحده كفيل بإشعال حرب إستباقية لحرمان العدو أفضلية الضربة الأولى. مثل هذه المخاوف أصبحت قاعدة في الخليج. فالتهديدات الدورية من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل بتوجيه ضربة إستباقية إلى الأهداف النووية، جعلت إيران تكرر الإعلان بشكل إستعراضي عن إقامة قواعد صواريخ تحت الأرض دائمة التأهب.
العامل الآخر ، الذي يميز الخليج، برأيه، هو الفهم الخاطئ لاستراتيجية الخصم. فقد نشأت في الخليج والشرق الأوسط عموماً حالة متناقضة: فمن جهة، لا تملك معظم بلدان المنطقة إمكانية خوض حروب هجومية طويلة الأمد، ومن جهة أخرى تسود أوهام وتصورات خاطئة عن إمكانيات ونوايا الأخصام، ما يولد قناعة راسخة بعدوانيتهم (الأخصام) وأطماعهم التوسعية. فالإيرانيون متهمون بالتوسع الإقليمي، وطهران تعتبر أن جيرانها يسعون للإطاحة بالنظام وإضعاف البلاد بمساعدة الولايات المتحدة وإسرائيل.
نتيجة لكل ذلك ، تتفاقم صعوبة التوصل إلى حل التناقضات في الخليج عن طريق المفاوضات، وذلك لأن الدول تسارع إلى قطع العلاقات الدبلوماسية وتحجم عن التفاوض فيما بينها. ولذا ينبغي الإعتراف بأنه من المستبعد وقف المنافسة الجيوإستراتيجية بين السعودية وإيران في المديين القريب والمتوسط . لكن خفض التناقض الإقليمي وجعل تطوراته أكثر قابلية للتوقع، أمر ممكن كلياً، برأيه.
إن إقامة شبيه مماثل لمنظمة الأمن والتعاون، التي أسفرت عنها هلسنكي في حينه، يمكن أن تبدأ بخلق آلية للتشاور الجماعي، بوسعها أن تشكل قناة طوارئ للتواصل في حالة توتر الوضع. ولترسيخ الثقة المتبادلة في المراحل الأولى، يقترح الكاتب أن تشمل الآلية الحقول غير السياسية، مثل سلامة الملاحة البحرية، مكافحة تهريب المخدرات والجريمة المنظمة.
ويرى سوركوف، أن آفاق التسوية في الخليج على إرتباط شديد بأعمال اللاعبين الخارجيين. وما يثير الحذر الشديد لدى موسكو هو الكلام عن “ناتو عربي”، أو تحالف محتمل معادٍ لإيران يضم ممالك الخليج وإسرائيل، مما سيعزز مخاوف إيران ويخلق أوهاماً خطيرة لدى العرب.
وفي السياق، نشرت “جيروزاليم بوست” الاسرائيلية نصاً، نقله موقع “Zahav” الإسرائيلي الناطق بالروسية، وعنونته بالقول “مناورة روسية في الشرق الأوسط”. ركزت المقالة على تحليل حملة موسكو الدبلوماسية الأخيرة في المنطقة ورأت أن “طفرة” النشاط الأخيرة تعكس مقاربة موسكو متعددة الجوانب للمنطقة.
ترى الصحيفة أنه توجد في المنطقة ثلاثة بلوكات كبيرة تتنافس في ما بينها. يضم الأول منها البلدان والأحزاب والحركات، التي تتزعمها إيران؛ ويضم الثاني الأنظمة الإسلامية السنية في تركيا وقطر والحركات الإسلامية الراديكالية؛ ويجمع الثالث دول الخليج وإسرائيل. وخلافاً لنظرة الغرب وقناعاته، تحصد البراغماتية الروسية فوائد جمة في الشرق الأوسط، وتمارس دبلوماسية ناجحة وفعالة من خلال تفاعلها مع مكونات جميع هذه البلوكات، من دون دعم مباشر لأي منها.
وترى الصحيفة، أن الروس حين يلعبون دور الوسيط في نزاعات المنطقة، قليلاً ما يعنيهم إيجاد حل نهائي للصراعات، ولا تعنيهم بالمطلق طبيعة وايديولوجية أنظمة البلدان التي يتعاملون معها. وهم يشعرون براحة أكبر في الجو المعقد للصراعات المجمدة والمتأججة ومتداخلة التناقضات، ولا يسعون أبداً لحلها وإنهائها.
المصدر: المدن