صبحي حديدي
حتى ساعة كتابة هذه السطور، بلغ العدد 10.039 من العسكريين الفرنسيين، العاملين أو المتقاعدين، بينهم 20 جنرالاً وقرابة 100 ضابط كبير، وقعوا نصّاً بعنوان «رسالة مفتوحة إلى حكّامنا»؛ نُشر أوّلاً، وما يزال متوفراً، على موقع Place d’Armes بتاريخ 14 نيسان (أبريل) الجاري، ثمّ أعادت نشره مجلة «فالور أكتويل» ذات الاتجاه المحافظ والقريب من اليمين المتطرف؛ مع فارق أنّ المجلة اختارت للنشر تاريخاً حمّال مغزى، لأنه يتصادف مع الذكرى الستين لمحاولة الانقلاب التي سعى إلى تنفيذها عدد من جنرالات الجيش الفرنسي المتقاعدين والعاملين، لمنع رئيس الجمهورية شارل دوغول من منح الاستقلال للجزائر. وبالأمس أعلن رئيس أركان الجيش، بناء على توصية من وزيرة الدفاع فلورنس بارلي، توقيف العاملين من الموقّعين وإحالتهم إلى لجان تحقيق، في إطار «إجراء استثنائي» يستند إلى تقليد متبّع يحظر على العسكري العامل إبداء آراء سياسية علنية.
الرسالة تتوجه أولاً إلى رئيس الجمهورية، ثمّ إلى «السيدات والسادة في الحكومة» وكذلك في البرلمان؛ وتقول الجملة الأولى فيها: «الساعة خطيرة، وفرنسا في خطر، تتهددها مخاطر عديدة مميتة» قبل أن تذكّر بأنّ الموقّعين ما يزالون جنوداً لفرنسا حتى وهم في التقاعد، ولا يستطيعون «البقاء غير مكترثين بمصير بلدنا الجميل». في فقرة لاحقة تبدو نبرة التهديد بالانقلاب جلية تماماً: «إذا لم يُتخذ اللازم، فإنّ التراخي سوف يواصل الانتشار في المجتمع على نحو متفاقم، ويسفر في النهاية عن انفجار وعن تدخل من رفاقنا الناشطين في مهمة محفوفة بالمخاطر هدفها حماية قيمنا الحضارية وأمان مواطنينا». وفي جملة لا ينقصها الوضوح، البتة، يقول عسكر فرنسا: «كفى مماطلة، الساعة خطيرة، والعمل جسيم، لا تضيعوا الوقت واعلموا أننا على استعداد لدعم الساسة الذين يأخذون في الاعتبار إنقاذ الأمّة».
ليس مدهشاً، في المقام الأوّل، أنّ النصّ يعتنق الكثير من المفردات والصياغات والمفاهيم التي اتسمت بها خطابات اليمين المتشدد، غير بعيدة عن الخطابات الفاشية الأوروبية عموماً. ذلك لأنّ كاتب النصّ، وعدد غير قليل من الجنرالات الموقعين عليه، انتموا ويواصلون الانتماء إلى حركات عنصرية ويمينية متطرفة وفاشية، وبعضهم شارك جسدياً في مظاهرات معادية للمهاجرين واللاجئين، تتذرّع بالدفاع عن «القِيَم الحضارية» و«الهوية الغربية» وكلّ ما يمكن تكديسه اعتباطياً تحت مجمّع «الثقافة المسيحية ـ اليهودية». وليس مفاجئاً، استطراداً، أن يكون الهجوم على الإسلام و«جحافل الضواحي» واضحاً من زاوية ميلودرامية وتحريضية تقوم على استدراج المشاعر العشوائية، وعلى التعاطف العفوي ضدّ جريمة إرهابية نكراء مثل اغتيال أستاذ التاريخ الفرنسي صمويل باتي؛ وكأنها، كما يقول النصّ، «يصعب تخيّلها قبل عشر سنوات» ولا سابق لها في كثير من الوقائع الدامية التي سجّلتها تواريخ العنف الأهلي الأوروبي!
اللافت، حتى إذا لم يكن مدهشاً بدوره، أنّ نصّ العسكر يتطابق مع «النغم» الذي شاع مؤخراً في فرنسا، حول التيارات الفكرية والثقافية النقدية التي تتناول العنصرية والأوضاع ما بعد الاستعمارية والأقوام الأصلية، بوصفها أيضاً مظهراً لحال «التفكك» التي تنخر جسد المجتمع الفرنسي المعاصر. ولا يُراد من هذه النظريات، حسب رسالة عسكر فرنسا، سوى «الحرب العنصرية» لأنّ القائلين بها «يحتقرون بلدنا وتقاليده وثقافته، ويريدون رؤيته منحلاً، وينتزعون منه ماضيه وتاريخه» ولهذا «يهاجمون التماثيل، والأمجاد العسكرية والمدنية القديمة عن طريق تحليل أقوال عتيقة عمرها قرون». ولم يكن ينقص الجنرالات سوى التعريض، تماشياً مع «الموضة» الرائجة، بما بات يُعرف في فرنسا تحت مسمّى «اليساروية/ الإسلامية»؛ مع العلم أنّ النصّ يحتوي الكثير من التلميحات التي تفضي في نهاية المطاف إلى التوصيف ذاك، فيبرهن العسكر المتقاعدون، اليمينيون المتشددون والعنصريون والشعبويون، أنهم خير حلفاء لنظرائهم المدنيين أصحاب التوجهات ذاتها في الصحف والمجلات ومراكز الأبحاث والأحزاب.
الطبيعي، والحال هذه، أن يأتي أوّل دعم صريح لرسالة العسكر الفرنسيين المفتوحة من الجهة السياسية الأولى صاحبة المصلحة في استقبالها وإشاعتها: مارين لوبين، زعيمة حزب «التجمع الوطني» اليميني المتشدد، التي دعت الموقّعين إلى الالتحاق بصفوف حزبها والمشاركة في «المعركة التي بدأت للتو» و«هي قبل كل شيء معركة فرنسا». الطبيعي، على المنوال ذاته، أن يعرب عن تأييد مماثل رجل مثل إريك زيمور، الكاتب والصحافي والإعلامي الأكثر مثولاً أمام القضاء بتهمة العنصرية، وفي عداد الأشدّ كراهية للعرب والمسلمين والسود المهاجرين عموماً (رغم أنه سليل أسرة يهودية جزائرية): «هذا جزء من حالة اللاوعي الجمعي في فرنسا» قال زيمور، معتبراً أنّ نصّ الجنرالات يعبّر عن مزاج عام سائد في البلد، ولا ينطوي على عواقب انقلابية.
وفي هذا بعض الصواب، على طريقة الحقّ الذي يُراد به الباطل غنيّ عن القول، لأنّ فرنسا الراهنة تعيش مناخات رهابية وعنصرية وشعبوية غير مسبوقة على امتداد كامل التاريخ الذي أعقب سنة 1789 واقتحام سجن الباستيل وإقرار «إعلان حقوق الإنسان والمواطن». ونقطة التزييف الكبرى في رسالة الجنرالات هي تلك التي تتهم رئيس الجمهورية بـ«الصمت» على ما تشهده فرنسا من «تفكك» بسبب صعود النزعات الإسلاموية و«جحافل الضواحي»؛ لأنّ ماكرون ليس صامتاً البتة، بل العكس هو الصحيح، فهو صاحب التنظير لفكرة «الأزمة» التي يعيشها الإسلام، وهو حتى إشعار آخر الرئيس الأكثر عرضة للاتهام بعداء الإسلام على امتداد الجمهورية الخامسة، عدا عن كونه (على رأس حزبه المتمتع بالأغلبية في الجمعية الوطنية) صاحب قانون «الأمن الشامل» الشهير الذي يقيّد الحريات العامة والصحافية لصالح الشرطة وأجهزة الأمن.
صحيح، بالطبع، أنّ العسكري المتقاعد أو غير العامل يملك من حقّ التعبير الحرّ ما يملكه أيّ مواطن مدني، وبالتالي فإنّ هذا الصنف من الموقّعين على الرسالة ليسوا غرباء عن هذا النسق من الحقوق؛ ولكن من الصحيح في المقابل، ويدخل تحت طائلة القانون أيضاً، أنّ العسكري العامل غير مخوّل بانتهاك واجب «التحفظ» الذي يفرضه عليه وضعه المسلكي العسكري، فكيف إذا احتوى تعبيره على إيحاءات بتنظيم انقلاب في نظام ديمقراطي يُخضع العسكر لسيطرة السلطة السياسية المدنية. بهذا المعنى، البسيط تماماً ولكن الواضح كذلك في مدى اقترانه بالأخطار والعواقب، أنّ رسالة العسكر المفتوحة شكّلت لتوّها محاولة انقلاب معلنة على مستوى التعبير السياسي، في فترة زمنية تشهد أولى أطوار التسخين والاستعدادات للانتخابات الرئاسية، التي ستجري جولتها الأولى في 23 نيسان (أبريل) والثانية في 7 أيار(مايو) 2022. ولم يكن تفصيلاً عابراً أنّ أحد الموقّعين على الرسالة هو الجنرال المتقاعد بيار دي فيلييه، الرئيس السابق للأركان، والذي أجبره ماكرون على الاستقالة صيف 2017 لإعلانه آراء خلافية مع قصر الإليزيه حول ميزانية الجيوش، ويتردد اليوم أنه قد يرشح نفسه في الرئاسيات المقبلة.
وفي كلّ حال فإنّ رسالة العسكر الفرنسيين تعيد طرح مشكلة متأصلة في الأنظمة الديمقراطية الغربية عموماً، تتصل بإشكالية سيطرة السياسي المدني على الضابط العسكري، وسلسلة الضوابط التي تحكم العلاقة بينهما. وليس خافياً أنّ اختلال التوازن، أو انقلاب الإشكالية إلى تعارض وتناقض وتصارع، سيكون مآله الأوّل هو الانقلاب (والتجارب كثيرة، على امتداد الماضي القريب أو البعيد) ومآله الرديف أو التالي هو صعود الفاشية واهتزاز النظام الديمقراطي بأسره. فرنسا الدولة بعيدة عن هذا، في المدى المنظور على الأقلّ؛ ولكنّ عسكر الرسالة المفتوحة، المرضى بهذا النمط أو ذاك من الرهاب، ليسوا، في نهاية المطاف، سوى أبناء هذا الاجتماع الفرنسي، السياسي والاقتصادي والثقافي، ذاته.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
المصدر: القدس العربي