رياض قهوجي
شهد الكونغرس الأميركي، الأسبوع الفائت، جلسات استماع لقادة القوات الأميركية العاملة في الشرق الأوسط وأفريقيا، الأمر الذي سلّط الضوء على حروب أميركا المفتوحة والتي تفتقر الى أفق ونهاية واضحة لها، كما كشف قلق واشنطن من أنشطة الصين وروسيا المتصاعدة في القارة السمراء. ولم تعط إجابات المسؤولين الأميركيين أي صورة واضحة عما إذا كانت الولايات المتحدة تحرز تقدماً أو على وشك الانتصار في حروبها ضد الإرهاب والتي تخوضها في المنطقة ضد مجموعات “القاعدة” و”داعش” والميليشيات المدعومة من إيران. فأميركا تشن منذ هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، حرباً مفتوحة ضد ما تسميه بالإرهاب الدولي، ما شمل اجتياح كل من أفغانستان والعراق وحروباً جانبية في سوريا واليمن والصومال ودول أخرى. لكن ما هو معيار النجاح والانتصار في حروب ضد كيانات أيديولوجية وغير حكومية؟
فالولايات المتحدة، بعد عشر سنوات من اجتياحها أفغانستان تتحضر لسحب قواتها من هناك في أيلول المقبل، مخلّفة وراءها حكومة ضعيفة لا تسيطر على أكثر من ثلث البلاد التي أعادت حركة “طالبان” احتلال معظمها خلال السنوات الماضية. وبالتالي، فالحرب في أفغانستان ضد القوى المتطرفة والتي كانت واشنطن تعتبر “طالبان” جزءاً منها فشلت فعلاً في تحقيق أهدافها وإيجاد نظام ليبرالي ديموقراطي قابل للاستمرار في أفغانستان. والأمر عينه في العراق حيث كان العنوان الأساسي للحرب هناك عام 2003 هو إزالة الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل. فلا تزال أجزاء من العراق تشهد وجوداً لـ”داعش”، بالإضافة الى انتشار كثيف للميليشيات الشيعية الحليفة لإيران.
كلفت حربا أفغانستان والعراق أميركا آلاف القتلى في صفوف جنودها، وتكاليف مادية بلغت مئات مليارات الدولارات، من دون أي مكاسب سياسية أو اقتصادية تذكر. وبرغم ذلك، ما زالت الإدارات والأحزاب الأميركية تتحدث عن ضرورة استمرار الحرب ضد الإرهاب، وفي الوقت ذاته تريد تقليص وجودها العسكري في الشرق الأوسط.
تعيش أميركا اليوم انقسامات أيديولوجية، تتجاذبها حركات شعبوية يمينية ومجموعات ليبرالية يسارية، كل منها يروّج للحرب ضد الإرهاب، بما يخدم توجهاته السياسية الداخلية ورؤيته للعالم. فالمجموعات المحافظة التي تؤثر في صنع القرار في الحزب الجمهوري تستخدم الحرب على الإرهاب الإسلامي وسيلة لرسم صورة سلبية عن المهاجرين عموماً والقادمين من دول إسلامية خصوصاً. فالتخويف من المهاجرين “غير البيض” وغير المنتمين الى الديانة المسيحية ومن المذهب البروتستانتي تحديداً، على أنهم تهديد للهوية الوطنية الأميركية التي شكّلها المهاجرون الإنكليز البروتستانت قبل بضعة قرون. وبالتالي، الاستمرار للترويج للحرب على الإرهاب المتمثل بالمجموعات الإسلامية المتطرفة (سنية وشيعية) هو مهم لمضمون خطاب السياسيين في الحزب الجمهوري والمجموعات المحافظة القريبة منه، لتعزيز الحراك الوطني الشعبوي وتأمين أصوات الناخبين. أما الحزب الديموقراطي والمجموعات اليسارية الليبرالية القريبة منه فيقدمون تأييدهم للحرب على الإرهاب كجزء من مشروعهم لنشر الفكر الليبرالي والديموقراطي عالمياً وتعزيز التعددية والعولمة.
المشكلة الأساسية في هذه الحرب هي اختلاف معايير الهزيمة والانتصار بين الولايات المتحدة والمجموعات الإسلامية المتشددة، سنية كانت أو شيعية. فبالنسبة الى قوة عظمى مثل أميركا، فإن معيار الانتصار هو توقف هذه المجموعات عن نشاطاتها وتهديد المصالح الأميركية حول العالم. أما معايير الانتصار لهذه المجموعات فهو استمرار قدرتها على تهديد مصالح أميركا وضربها، حتى ولو عبر عمليات صغيرة محدودة الفعالية. وفيما أنفقت أميركا مليارات الدولارات خلال عشرين سنة من المعارك والحروب على الإرهاب، لا تشكل التكاليف المالية لتسليح هذه المجموعات وإدارتها مشكلة للجهات التي تقف خلفها، نظراً الى محدوديتها مقارنة بتأثيرها في الأمن والاقتصاد الدوليين. وفي حين أن الاقتصاد الأميركي منهك جداً نتيجة استنزاف الحروب المتتالية والأزمات المالية التي سببتها جائحة كورونا، تستمر هذه المجموعات في مناطق تشهد فراغاً أمنياً بسبب ضعف الحكومات المركزية فيها وتفشي الصراعات السياسية والمذهبية والحروب الأهلية. وبالتالي فإن فشل القوى العظمى عبر الأمم المتحدة في فض النزاعات العسكرية وعودة الصراع على النفوذ (الحرب الباردة) بين هذه القوى يوفر الأرضية والبيئة اللازمتين لاستمرار هذه المجموعات، برغم ضعفها أو تدني التأييد الشعبي لها.
كما أن هناك عامل القوى النظامية الداعمة لهذه المجموعات، كما في حال دعم إيران للميليشيات الشيعية التابعة للحرس الثوري وحتى لبعض المجموعات التابعة لـ”القاعدة”، ودعم باكستان لحركة “طالبان”. وهو دعم تعترف معظم الجهات الاستخبارية الدولية بوجوده. إلا أن آلية التعامل مع هذه الإشكالية دونها صعوبات وتحديات كبيرة لا تستطيع أميركا أن تتعامل معها عسكرياً، نظراً الى كلفتها الكبيرة عليها وعلى الأمن الدولي، ولذلك تكتفي بسلاح العقوبات الاقتصادية كأداة الضغط الممكنة حالياً.
وبالعودة الى الانقسام الأيديولوجي المتصاعد في أميركا بين اليمين المتشدد والليبراليين، فهو يسبب أزمة في مقاربة ما يسمى “إرهاب الجماعات الإسلامية المتشددة”. فربط الإسلام بالإرهاب أوجد مشكلة متنامية لأميركا وأوروبا داخلياً وخارجياً، إذ استغل اليمين المتشدد هذا الرابط لتعزيز أجندته المناهضة للمهاجرين. فقد تمكّنت الأحزاب اليمينية المتشددة في أوروبا عبر استخدام حملات دعائية تربط المهاجرين المسلمين بالإرهاب من تحقيق مكاسب انتخابية ضد أحزاب الوسط واليسار في دول أوروبية عدة. وهو سلاح بات العديد من الجمهوريين في أميركا يستخدمونه في حملاتهم الانتخابية، ما يغذي مجموعات اليمين المتشددة ويزيد من عدائيتها واستخدامها للعنف ضد المهاجرين غير البيض عامةً والمسلمين خاصةً. أما خارجياً، فبعدما شهدت أميركا تعاطفاً معها وإدانة من معظم الدول الإسلامية لهجمات 11 أيلول، تدهورت هذه العلاقات مع الوقت وباتت اليوم علاقة واشنطن متأزمة مع العديد من الدول الإسلامية التي كانت تصنّف في خانة الحليفة استراتيجياً لأميركا. ولقد أثر هذا سلباً على مشروع نشر التعددية والعولمة للأحزاب الليبرالية والديموقراطية في أوروبا وأميركا، وهو الأمر الذي يناسب أيديولوجيا اليمين المتشدد الذي يحبذ سياسة الانعزال عن العالم والتركيز على الشؤون الداخلية خدمة لمشروعه القومي.
أظهرت التطورات أن “الحرب الدولية على الإرهاب” التي بدأتها أميركا قبل عقدين واستهدفت “متشددين إسلاميين” فقط، وُلدت بلا أفق وشُنّت لأهداف متضاربة وبسبب أجندات أميركية داخلية متناقضة، وأنتجت واقعاً دولياً متأزماً أضر كثيراً بأمن المنطقة، بخاصة الدول القريبة من الغرب. وستجد واشنطن صعوبة بإيجاد صيغة مناسبة لإعلان وقف هذه الحرب بسبب تأثيراتها الداخلية وتداعياتها على هيبتها الدولية. ومن المرجح أن تستمر بالحديث عنها من دون أي أعمال ميدانية بعد سحب قواتها من أفغانستان والعراق، للحفاظ على ماء الوجه.
لكن خطر الإرهاب موجود، وباتت معظم دول العالم، وتحديداً في الشرق الأوسط، أكثر جاهزية وتمرساً في التعامل معه، وتجري مواجهته ميدانياً وفكرياً أيضاً. تبقى مسؤولية المجتمع الدولي إيجاد حل سياسي للدول في الشرق الأوسط التي تشهد حروباً أهلية ونزاعات وتدخلات خارجية تؤمّن لهذه الجماعات الإرهابية بيئة حاضنة واستمرارية. فهذه المجموعات هي اليوم جزء من مشاريع لأنظمة ودول تسعى لتوسيع هيمنتها وسيطرتها على دول المنطقة، وبالتالي يجب التعامل معها من هذا المنطلق لهزيمتها.
المصدر: النهار العربي