مهند الكاطع
أتاح الموقع الجيواستراتيجي المهم لسورية أن تلعب دوراً مهماً في الأحداث التاريخية، وكانت هدفاً رئيسياً لإمبراطوريات الشرق والغرب وجيوشها من رومانية وإغريقية وفارسية، كما ظهرت على أرضها أقدم الحضارات المتعاقبة التي عرفتها البشرية، وكانت مركزاً لظهور أول حضارة إسلامية (أمويّة).
ما يميّز سورية وعموم بلاد الشام بأنها تطبعت بطبيعة حضاراتها الشرقية “الهاضمة” التي تتقبل الآخر وتستوعبه وتهضمه بثقافتها حتى إذا كان غازياً دون أن تتأثر أو تأخذ عنه شيئاً.
فقد سيطر الفرس على أجزاء مختلفة من سورية في حقب مختلفة ( أخمينية/ ساسانية/ سامانية) تجاوز مجموعها 700 عام والسلوقيين الإغريق ضموا سوريا لأكثر من 300 سنة، والرومان سيطروا على سورية قرابة 700 عام، وعلى الرغم من التأثيرات العمرانية والإدارية لبعض هذه الإمبراطوريات، وفرض بعضها للغته الرسمية (لاتينية، يونانية) في الإدارة والقانون والاقتصاد، إلا أن لغة السكان بقيت اللغات المحلية الأصلية العربية والآراميّة، حتى اللغة العثمانية التي كانت لغة البلاد الرسمية والإدارية لأكثر من 400 سنة واستمرت حتى بدايات القرن العشرين، انقرضت واندثرت ولم يعد لها أثر وبقيت لغة أهل الشام وهويتهم هي العربيّة، كما لم يترك الانتداب الفرنسي لسوريا لنحو ربع قرن أي أثر ثقافي على لغة السوريين.
الخارطة السياسية لسورية الحالية التي كانت بدايتها من الخطوط التي رسمها سايكس وبيكو، لا تعبر عن سورية التاريخية ببعدها الحضاري والثقافي والجغرافي، بل هي جزء بسيط من سورية الطبيعية.
سورية الحاليّة بلدٌ يشكّل العرب فيه أغلبية عظمى (أكثر من 90%) إلى جانب وجود أقليات قوميّة من غير العرب ( أكراد، تركمان، أرمن، آشوريين..الخ)، بعضها يُعرّف نفسه بدلالة هويته العربية المكتسبة من محيطه الثقافي العربي وبتأثير التعايش الممتد لقرون من الزمن (مثل تركمان وأكراد الداخل السوري)، وبعضها لا يزال يحتفظ بتمايزه القومي واللغوي وبشكل خاص أكراد وتركمان المناطق الحدودية مع تركيا، وهذا طبيعي في ضوء مراجعة تاريخ تَشكُّل ورسم الحدود (سيفر 1920/ أنقرة 1921/ لوزان 1923/ أنقرة 1926) وما تخللها من حوادث كان لها أثرها على استمرار مساحات التداخل القومي في هذه المناطق، تماماً كما هو حال استمرار وجود العرب المحتفظين بلغتهم المحكية في المدن والمناطق الحدودية التي تم ضمها إلى تركيا الحديثة مثل طور عابدين وآمد وآزخ وماردين وسعرد وأورفا وحرّان وانطاكيا وعموم الإسكندرون .
قامت فرنسا بتوظيف التنوع السوري في سياسات مختلطة ( إثنية- طائفية- عشائرية) فعززت إظهار تلك الفوارق الطبيعية بصيغ سياسيّة مريبة، لم يكن أولها إنشاء دول طائفيّة في سورية، كما لم يكن آخرها تكريس المحاصصات المختلطة أو سياسات تعويم الهويّة أو محاولة اللعب بالتركيبة السكانية للمجتمعات السوريّة ، وقد تراجعت انعكاسات تلك السياسات في مرحلة النضال والحكم الوطني الاستقلالي، لكنها عادت مرة أخرى بصيغة غير معلنة في حقبة استلام الأسد للسلطة في سورية الذي كرّس من خلال سياساته انقسامات شاقولية وأفقية للشعب السوري إلى ثنائيات لا متناهية (قومية، طائفية، مناطقية، اجتماعية) ناهيك عن تقسيم المقسم عبر تفتيت القوى السياسية والأحزاب وخلق الانقسامات ضمن مختلف المستويات الاجتماعية.
على الرغم من كل ما سبق، وعلى الرغم من محاولات استغلال المآسي التي يعاني منها الشعب السوري منذ بداية ثورته سنة 2011 لإعادة إنتاج قوالب نمطية تلعب على الخطاب الطائفي والقومي وإظهارها كحالة تنافر لا تكامل، إلا أنه لم تنجح أي من محاولات إغلاق المجتمع السوري وتحويله إلى بيئة طاردة للآخر أو بيئة توتر إثني وديني وطائفي! وهذا وحده يجعلنا أكثر ثقة بالمستقبل، والعمق الحضاري لهذا المجتمع وقدرته على التغلب على الظروف الصعبة التي يمرُّ بها.
المصدر: صفحة مهند الكاطع